الشرق الأوسط يرتدي السواد الإمبريالية والطائفية في الشرق الأوسط الجديد

7 أغسطس, 2021

فالح خطاب/كاتب وباحت من العراق

الصحوة الإسلامية

         شهدت حقبة السبعينات من القرن الماضي انبعاثا قويا للحركات الإسلامية التي كان يطلق عليها حركات الصحوة الإسلامية، أو الإحياء الإسلامي، أو أسماء أخرى قبل أن يأخذ مسار التسمية أبعادا جديدة، كالأصولية، ثم التطرف الإسلامي، وقبل أن يستقر على وصف الإرهاب؛ الذي يُعدّ أعلى مراحل الحرب على تلك الحركة الواسعة والمتشعبة الاتجاهات، والممتدة على مساحة واسعة من أرجاء الوطن الإسلامي الكبير.

          حظيت الحركة الإسلامية، بكل أشكالها، بشعبية كبيرة، ولاسيما أنها كانت ولم تزل إلى حد كبير بريئة من لوثة الحكم ومسارات الفشل التي رافقت مسيرة معظم النظم العربية.

         بقاء الحركة الإسلامية بعيداً عن السلطة وفسادها، عُدَّ بنظر الكثيرين سفينة النجاة الأخيرة التي يمكن العبور بها عبر هذا البحر المتلاطم من الفساد والتراجع الكبير على كل المستويات، إضافة إلى سلسلة الهزائم التي رافقت تلك النظم وتأسيسها تحت رعاية وعناية القوى الاستعمارية الرئيسة، كبريطانيا، وفرنسا قبل دخول الولايات المتحدة على خط الاستعمار الجديد، الذي ورث تلك الإمبراطوريات وصارت له الكلمة الأولى في قرارات المنطقة ومسيرتها المأساوية.

         وبسبب من انحدار الأوضاع العربية والإسلامية، ولاسيما بعد هزيمة العرب الكبرى في الخامس من حزيران 1967 وتبخر الحلم القومي الناصري، وعلى الرغم من بروز تيار البعث واتجاهاته القومية؛ إلا أن الإيمان بالنظام العربي القائم بدأ بالانحسار في عقل ووجدان أغلبية الشعوب العربية على امتداد الوطن الكبير، الذي تبعثر إلى أجزاء وأشتات. وكانت الحركة الإسلامية هي الخيار البديل بالنسبة لأعداد كبيرة من الشباب العربي وقطاعات واسعة من الناس.

         خطاب الحركة كان يستوحي قوته من مصدرين. الأول: من فكر الحركة ومرجعيتها الدينية، التي كانت تنطق بالمقدس الذي لا يمكن مناقشته والذي تجلى في وقت ما بشعار (الإسلام هو الحل)، أو المطالبة بتحكيم الشريعة بالعودة إلى الكتاب والسنة، وهي أمور لا يمكن الاعتراض عليها أو التصدي لها. أما مصدر القوة الثاني في خطاب الحركة: فقد تجلى في الإشارة إلى سجل طويل من الهزائم والفشل، الذي صبغ أداء معظم النظم العربية بكل مرجعياتها وأشكالها، ثورية كانت أو رجعية، ملكية أو جمهورية، يسارية أو يمينية. وبكلمة، فإن الأنظار كانت تتجه إلى الحركات الإسلامية، وتحديدًا الإخوان المسلمين، والحركات السلفية بأنواعها، وحركات وتنظيمات أخرى أقل انتشارًا ونفوذًا.

         معظم إن لم يكن كل هذه الحركات المشار إليها، كانت حركات سنية انبثقت من رحم الأمة في أرجاء الوطن الإسلامي الكبير وكان ميلادها، تطورًا طبيعيًا مألوفًا على امتداد مسيرتها التأريخية، التي كانت تشهد تبادلا للأدوار بين حركات الإنقاذ والانبعاث الدورية، ما بين قائد فذ يجمع حوله الأمة ويخوض بها معاركها التاريخية، أو عالم فقيه يتصدى لمتطلبات المرحلة ويستجيب لتحدياتها المتمثلة في عدو خارجي أو تسلط داخلي، فكان أن عرفت الأمة سلسلة من أولئك العلماء الذين قاموا بمهمة التجديد أو المواجهة أو تعدد المهام في وقت واحد.

         ومع تغير الظروف وتراجع مفهوم الأمة ووجودها الوظيفي والعضوي، كان التطور الطبيعي في مواجهة المستجدات والمخاطر يتمثل في قيام حركات واسعة ذات مرجعية دينية بهدف استئناف مسيرة الحياة الإسلامية ورد القوى الاستعمارية الغربية التي فرضت هيمنتها وسيطرتها المطلقة على مقدرات الوطن الإسلامي، وتحكمت بمفاصل الوطن الكبير عبر سلسلة من وكلاء لا تربطهم بالأمة وعقيدتها وتاريخها أي روابط إلا تلك الموجودة في سجلات الميلاد وبطاقات الهوية.

         استمرت الحركة الإسلامية في الانتشار والتوسع مستفيدة من تراجع التيار اللاديني، ولاسيما الموجود على رأس نظم فاشلة لم تعمر الأوطان كما فعل الغربيون في بلادهم، ولم يقيموا الدين، أو يأخذوا بقيمه الداعية لمحاربة الفساد وإقامة العمران، وأنواع الخير العام الذي لا يدعو للاختلاف أو يغرق في الاجتهادات الخلافية.

         مفهوم الحكم الديني أو حكم الإسلاميين، وما يثار حوله من ضبابية في الرؤية، يندرج بعض منه في محاولات تشويه متعمدة تسعى إلى نشر الأكاذيب وإطلاق الأوهام والمخاوف التي لا أساس لها، وقد لا تخرج عن كونها صراعات إيديولوجية وعداوة مستحكمة للدين، أوتَلَبَّس بالفساد، أو الانصياع لرغبات الغرب الذي يعدّ الحكم الإسلامي خطًا أحمر لا يجوز مقاربته، أو مجرد التفكير به.

         الأمر ببساطة، ولكن أيضًا دون تبسيط يتعلق بالفساد الشامل الذي ضرب بقوة وعمق في كل موقع ومكان، فأحال أغلب النظم في الوطن الإسلامي إلى هياكل خاوية لا روح فيها ولا قوة. وعلى رغم من أن الفساد ظاهرة عالمية ويوجد في كل مكان؛ إلا أن الفساد في هذه المنطقة له خصوصية تجعله أشدّ وأقسّى بسبب الغياب الكامل للقانون، سواء بغيابه المادي، أو بتغييبه وتفصيله على مقاس الحاكمين، فأصبح بذلك آفة لا علاج لها.

         ففي الوقت الذي يعمل القانون في بلدان كثيرة على تنظيم العلاقات السياسية والاجتماعية ويعزز مبدأ المحاسبة بما يؤدي إلى الحد من الفساد، إلا أنه لا يوجد مثل هذا التمييز القانوني في أكثر البلدان العربية، وهو فارق دعا كثير من الناس إلى اعتبار الغرب جنة على الأرض، لا لشيء ولكن بسبب من قوة القانون الذي يحكم تلك الدول والمجتمعات.

         وبالعودة إلى الحركة الإسلامية، فإن الوعود التي تقدمها لا يمكن أن تكون وعوداً غير قابلة للحساب أو المراجعة، كما أن مسيرة الحركات الإسلامية، شهدت الكثير من العثرات والتراجعات وبروز حالات من الضعف أو التخلف عن الالتزام بالموقف المطلوب في قضية ما، وغير ذلك من سلبيات، تبقى طبيعية في ظروف بالغة الصعوبة وأجواء عدائية الكثير منها مستحيل.

         غير أنالنقطة المركزية التي تبقى عنواناً ومضموناً حقيقياً للحركة الإسلامية لا يتعلق بأدائها، وهو غير معروف، أو لم يمكن تجريبه أو مشاهدته، ولا يتعلق بشعاراتها ولا حتى خطابها، ولكن بقدرتها الفعلية على مواجهة الفساد ومقاومته والانتصار عليه، وهو الأمر المركزي والنقطة المفصلية في الحكم الإسلامي، الذي في حال تحققه، ولو بنسبة معقولة، فإنه سيعمل على إطلاق طاقات الأمة وبعثها من جديد.

الثورة المصرية والفساد

وكمثال قريب، فإن ثورة مصر في 25 يناير، كانت ثورة موجهة ضد الفساد الذي أصاب المصريين في مقتل، فكانت ثورتهم مكرسة أساسًا لوقف الفساد، والاحتكام إلى حكومة جديدة تعمل على وقف نهب المال العام ونشر العدل الاجتماعي وإيصال خيرات مصر لأهلها، ولم يكن الأمر يتعلق بحكم ذات قدرات سياسية هائلة، أو تلك التي تتخطى المألوف كما لا يتعلق الأمر بوجود شخصيات ذات دهاء سياسي، أو ما شاكل من أوهام يعمل على إطلاقها أركان الدولة العميقة بهدف الإحباط وإفشال الثورة.

         كان اختيار محمد مرسي وصفة نموذجية لبلوغ أهداف الثورة في وقف الفساد وحماية المال العام وإنصاف الفقراء وإطلاق طاقات الشعب، وإعادة كرامته ووقف عدوان الدولة العميقة عليه.. ولم يكن هذا طيف منام ولا لمحة خيال، وعلى سبيل المثال، حقق وزير واحد في حكومة مرسي وفي غضون 6 أشهر فقط، ما عجزت عن تحقيقه حكومات في أزمان شتى، فكان وزير التموين الشاب باسم عودة، مثالا لما يمكن أن يحققه الالتزام ونظافة اليد من نقلة تعجز عنها حكومات إيديولوجية فاسدة، فقد استطاع هذا الرجل " وخلال الشهور القليلة التي أمضاها في منصبه، القضاء على جزء كبير من الفساد داخل وزارته، وأقال بعض الفاسدين، ونزل إلى الشارع ليتابع رغيف العيش وأسطوانة الغاز، وحرص على تفقد ومراقبة المخابز بنفسه لضمان إنتاج خبز بمواصفات آدمية للمصريين، ولم يتردد في إغلاق المخابز التي تتاجر بدقيق المصريين في السوق السوداء" ([1])

         وكما نرى فالأمر لا يتعلق بقدرات سياسية فائقة، أو خبرات سابقة، أو ضرورة البقاء في الحكم لفترات طويلة، وبعض هذه تخرصات أطلقتها قوى الدولة العميقة للتهوين من شأن الرئيس محمد مرسي، ومن ثم إسقاطه وإسقاط قدراته الحقيقة الواعدة على مواجهة الفساد، أو تحجيمه على الأقل، ذلك أن شيوع النزاهة واستبعاد الفساد، ولو بأي نسبة، سيؤدي إلى إشاعة جو يساعد على تحقيق مجالات أوسع من النجاح تمتد إلى دوائر أخرى، وهذا ما لا يريده الفاسدون ومن وراءهم ...

إمكانات واعدة

         كل هذا الاستطراد كان ضروريا، للوقوف على ظاهرة الحركة الإسلامية وإمكاناتها الواعدة التي يمكن أن تحقق نقلة كبرى في واقع المنطقة، وهو ما يعني الكثير سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. إن موقع هذه المنطقة وإمكاناتها وحجم ثرواتها الطبيعية وتاريخها الحضاري وطاقاتها الكامنة التي تنتظر الانطلاق، والبدائل التي تستطيع تقديمها، وقدرتها على توحيد الأمة وتقريبها، فضلا عن مصادر بعث وتظافر القوة وما يترتب على هذا كله من دور إقليمي ودولي، قد يغير الموازين والأقدار المعروفة.

         إن الأحزاب والحركات السياسية، على اختلافها، فشلت في توحيد الأمة وإطلاق طاقاتها، لأسباب شتى، ذاتية وموضوعية، ولم يبق من سبيل إلا عودة هذه الأمة إلى أصالتها وأصولها ومصادر قوتها. نقول هذا الكلام ولا نقول معه إن الحركات الإسلامية على قدر هذه المسؤولية ولا هذا الكمال، ونعلم جيدا بأن هذه الحركات تعاني من أزمة قيادة حقيقية، وهي أزمة أدت، بين أمور أخرى، إلى تلكأ وتعثر في مسيرة هذه الحركة، غير أن الواقع يقول أيضا: إن الأمل يبقى في هذه الحركة التي تبقى الأقرب لفطرة الناس، ومعاناتهم أكثر من سواها بحكم قربها من مصدر قوة الأمة المتمثل في دينها، "إن أصعب المشاكل في العالم العربي اليوم تدور حول القضايا نفسها التي تهم الأحزاب الإسلامية بالدرجة الأولى" ([2])

         بالنظر لكل ما تقدم، فإن قدرات الشعوب العربية إذا عرفت طريقها إلى الحكم، عبر حركة إسلامية أو حركة سياسية تتسلح بالقيم الإسلامية، من شأنه أن يؤسس هذا لانقلاب هائل في الواقع العربي يستطيع معه الخروج من التيه الذي مضى عليه زمن طويل بل طويل جدا، ولا يبدو أن له نهاية قريبة..

الغرب التاريخي

         الغرب، من جانبه، ما فتأ يراقب المنطقة بعمق، ويدرس بصمت، ويبحث بروية، ويعيد دراسة التاريخ متسلحاً بالعبر ووعي تاريخي ينفذ إلى أعماق الأحداث والسنين للخروج بقوانين ومسارات للتعامل مع التطورات والنوازل. الغرب تاريخي في وعيه، بل هو أشد وعيا للتاريخ من حاضره ومستقبله، ومن خلال فهمه للتاريخ، يفهم الحاضر ويؤسس للمستقبل. ولقد درسَ الغربيون عبر مراكز أبحاثهم كل ما أمكنهم عن هذه المنطقة العجيبة القدرات، فكان الاستشراق وتقارير علماء الانثروبولوجيا وعلماء الاجتماع، وتقارير المخابرات والشركات بل حتى تقارير العسكريين والتجار، والكثير ممن استوطنوا هذه المنطقة وعايشوا أهلها عن قرب، فكانت الحصيلة هي هذا التعامل المقنن بقوانين الوعي الجمعي، الذي ينظر من خلاله الغربي إلى منطقتنا ومجتمعاتنا وقيمنا وكل ما نحن منه وإليه.

         وقدر تعلق الأمر بما يسمى مصالح الغرب، وهو مصطلح فضفاض واسع التأويل متعدد الاستعمال، فإن هذا الغرب ينظر بشؤم كبير وقلق بالغ بل وخوف مرضي، إلى هذه الأمة وإمكانات انبعاثها، وانعتاقها من أغلالها التي تحول دون قيامها وتوحدها. ومن أجل هذا عرف عن الغرب سياسته المعروفة " فرّق تسد" وهو الذي عمل على تقسيم هذه المنطقة إلى كيانات ووضع لها الحدود وألزمها بأوراق باتت بديلا عن كتابها وهدي دينها؛ الذي يحث على توحدها وقوتها.

         وكما خططت الصهيونية لمشروعها في فلسطين قبل 50 عاما من تأسيس كيانها، فإن الغرب يضع الخطط طويلة المدى للوصول للغايات التي يريدها، ولاسيما في المنطقة الإسلامية التي لا تمثل نقطة الغنى المادي فقط، بل الخطر الذي يهدد مصالح الغرب، وهي مصالح كثير منها غير مشروع. فقد بذل الغرب جهوداً استثنائية لإبقاء الأوضاع في هذه المنطقة المنكوبة على حالها، لضمان بقاء هيمنته وسيطرته على كل شيء. ومن أجل هذا اعتمد  في الكثير من الأحيان وبشكل شبه ثابت ما يعرف بسياسة الأقليات، وهي أقليات احتضنها وعمل داخلها بهدف إدارة توجهاتها وتصويب حركتها ضد بلدان معينة ونظم محددة.

         كانت ورقة الأقليات، ورقة رابحة، في أكثر الأوقات، إذ يدخل من خلالها وعبرها إلى الدول التي تحتضن هذه الأقليات وتتعايش معها، بل هي جزء من كيانها منذ القدم استنادا إلى أعراف اجتماعية، زادتها التشريعات الإسلامية قوة ومتانة. الغرب ومن خلال أبحاثه وتاريخ علاقاته بالمنطقة، قام بتشخيص مستويات القوة والضعف في هذه المنطقة ومجتمعاتها المتنوعة، فكانت معرفته أساسا بنى عليه خطط المستقبل وقادم الأيام.

         بول وولفويتز مهندس الحرب على العراق يؤكد هذا المعنى بقوله:  ( لقد علمنا "برنارد لويس" كيف نفهم التاريخ المعقد والمهم للشرق الأوسط، وكيف نستعمله ليوجهنا إلى المرحلة القادمة) في إشارة إلى برنارد لويس، وهو: مستشرق يهودي ألهم أجيال من القائمين على دوائر صنع القرار البريطانية والأميركية خصوصا أركان إدارة جورج بوش الأبن.

         لقد درس الغرب تاريخ المنطقة ودينها ومكامن قوتها، ومناطق ترهلها ومواقع الانفجار والتفجير الممكنة فيها، وأمور كثيرة أخرى وقرر الدخول في لعبة قذرة، كتاريخ علاقاته القذرة بهذه المنطقة عبر صواعق التفجير الممكنة، واستغلال أسوأ ما في المجتمعات من سلبيات، وإطلاقها من عقالها، كي تعمل على وأد أي إمكانية لوقوف هذه المجتمعات وانبعاثها من جديد.

          التوغل عميقًا في طبيعة وماهية هذه المنطقة، بات سلاح الغرب الأمضى في حربها والتأثير عليها. أحد الصحفيين سأل وزير الخارجية الأميركي الأسبق "هنري كيسنجر" عن ضرورة انفتاح العرب والإسرائيليين على بعضهم البعض، من أجل إتمام عملية التطبيع، وكان هذا بعد عقد معاهدة كامب ديفيد. ضحك كيسنجر وأجاب الصحفي قائلا: ( إن المشكلة الحقيقية هي أن العرب واليهود يعرفون بعضهم البعض أكثر من اللازم!!)، في إشارة إلى وعي العرب المسلمين بيهود وسيرتهم في القرآن، وكذلك في معرفة يهود بالعرب ومدى عداوتهم التقليدية لهم.

الورقة الإسلامية

         لقد شهدت منطقتنا الكثير من الوقائع التي تؤكد بأن الغرب الاستعماري لم يكن إلا حلقة متصلة بحلقات طويلة من الموجات الصليبية التي قاتلت هذه الأمة تحت راية الصليب، مهما كانت غاياتها المعلنة، ونطق قادتها المرة تلو الأخرى، بما تخبئ دواخلهم من أحقاد على دين هذه الأمة الذي يجمعها؛ كبنيان مرصوص، ويبعثها في كل مرة وكأنها تولد من جديد. الغرب الاستعماري أو الأمبريالي يعرف جيدا هذه الحقيقة، ولا يغفل عنها، وهو يخوض حربا تلو أخرى لكسر شوكة المسلمين وأي إمكانية لتوحدهم أو انبعاثهم، وبسبب هذا بذل، ويبذل، كل محاولة وجهد من أجل إبعاد الدين عن ميدان المعركة وتهميش دوره في حياة هذه الأمة.

         ورغم كل المحاولات فقد كانت الفطرة أقوى وكان نزوع الناس لدينهم واقع يستحيل مقاومته أو وقفه. ومع بلوغ الصحوة مبلغها في العقد السبعيني، تداعت الدوائر الغربية إلى دراستها والوقوف على كنهها وآفاق تطورها. فقد كانت الصحوة موضع اهتمام إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، الذي اختار "زبيغينيو بريجنسكي" مساعدا له لشؤون الأمن القومي. بريجنسكي هذا: أكاديمي ذو أفق استراتيجي يكافئ بل ربما يتقدم على وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر. كان بريجنسكي عقلا استراتيجيا بحق، إذ وضع خططا هي الأشد فتكا والأكثر تأثيرًا في السياسات الموجهة للعدو. وكان العدو يومذاك: الاتحاد السوفيتي السابق، والصحوة الإسلامية، ورأى بريجنسكي أنه يمكن مواجهة العدوين بما عرف في حينه بـالورقة الإسلامية !

قوس الأزمات

         في دراساته المنشورة أشار بريجنسكي إلى مصطلح - مفهوم بالغ الأهمية أطلق عليه" قوس الأزمات" أو هلال الأزمات، وهو باختصار يتعلق بمنطقة جغرافية لدول تمتد من الجهة الجنوبية للاتحاد السوفيتي السابق وشبه القارة الهندية إلى تركيا، وجنوبا عبر شبه الجزيرة العربية والعراق وإيران وأفغانستان والهند وجنوب شرق آسيا إلى منطقة القرن الإفريقي، ودول أخرى تتميز بالمكانة الجيوسياسية فضلا عن الامكانات الاقتصادية المهمة.

         رأى بريجنسكي في هلال الأزمات هذا، أن القاسم المشترك الأعظم بين أكثر دول الهلال الإسلامية، هو كونها دول هشة تتكون من جماعات عرقية ودينية مختلفة، وبالضرورة ذات بنى اجتماعية وسياسية هشة، وأنها بالتالي مرشحة لفوضى سياسية وقلاقل محتملة تهدد وتزعزع كياناتها.

         كتب بريجنسكي عام 1986 كتابا أسماه "خطة اللعبة" وهو الكتاب الذي شرح فيه الاستراتيجية الأميركية الواجب اتباعها لمواجهة الاتحاد السوفيتي السابق. شملت استراتيجية المواجهة بين أمور أخرى التركيز على استخدام الورقة الإسلامية، من أجل تقويض الاتحاد السوفيتي وتفجيره من الداخل، بواسطة استخدام المسلمين في الجمهوريات الإسلامية جنوب الاتحاد السوفيتي.

         واعتبر بريجنسكي أن الملايين من المسلمين السوفييت ينتمون لعقيدة مناوئة للعقيدة الشيوعية، وأنهم بالتالي يمكن أن يشكلوا قوة كبيرة تنسف الاتحاد السوفيتي من داخله. المهم في هذا هو تفكير الرجل واعتباره الإسلام أداة يمكن أن تستعمل في المواجهة ضد العدو السوفيتي في ذلك الوقت. وبالفعل كانت الورقة الإسلامية كما اصطلح على تسميتها قد تحولت عند بريجنسكي إلى لعبة كبرى، وأصبح معها استدراج السوفيت إلى أفغانستان فخا استراتيجيا أميركيا؛ بهدف تحويل تلك البلاد إلى فيتنام سوفيتية.

         وبالعودة إلى “الورقة الإسلامية" فقد اعتبر بريجنسكي أن إعلان الجهاد في أفغانستان لمواجهة السوفيت هناك، سيكون أداة حاسمة من شأنها إلحاق الهزيمة بالاتحاد السوفيتي والتسريع في انهياره وتفككه، كما اعتبر أن أفغانستان ستصبح موقعا متقدما يمكن النفاذ منه إلى الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي.

         السيناريو الأميركي استجمع شروطه، حيث استنزف الجهاد الأفغاني المحتلين السوفيت؛ لينتهي الأمر بهزيمة مدوية لقواتهم وانسحابها من أفغانستان، لتشكل تلك المغامرة بداية سقوط الاتحاد السوفيتي. غير أن هذه العملية المعقدة أفرزت نتائج أخرى، كان أبرزها ظهور جماعات الإسلام الجهادي، وهي جماعات سنية جاءت من أنحاء العالم الإسلامي ولاسيما العربي منه.    وبعد انتهاء مهمة إخراج السوفيت من أفغانستان كانت الجماعات الجهادية قد وضعت في إطار لعبة جديدة، ولكن في مسار معاكس للعبة الأولى.

         إذ قامت دوائر المخابرات الأميركية والغربية بتصنيف تلك الجماعات كحركات تطرف أصولية، يمكن أن تمثل خطرا على بلدانها، وكثير من تلك البلدان حليف للولايات المتحدة والغرب. كان دخول " الأصولية الإسلامية" في مؤشرات الخطر الغربية مقدمة لتحول تلك الأصوليات فيما بعد إلى تصنيف آخر باعتبارها حركات إرهاب، بكل ما يحمل هذا التوصيف من تبعات كارثية تحول معها المؤشر من اللون الأحمر الشيوعي إلى اللون الأخضر الإسلامي.

         كان السيناريو ببساطة يقضي بتحويل الصحوة الإسلامية التي كانت مثار الاهتمام في سبعينيات القرن الماضي باعتبارها ظاهرة صاعدة في الفضاء الاجتماعي العربي الإسلامي، إلى ظاهرة أمنية يتوجب معالجتها وفقا للاعتبارات الأمنية والاستخبارية كونها حركات" إرهاب أصولي عابر للدول" تهدد المجتمع الدولي وتمثل خطرا استثنائيا على دولها خصوصا، والأكثر أهمية في كل هذا هو هذا الانشغال ب" المسألة الدينية" وبروزها في الأجواء العربية تمهيدا لما بعدها.

زلزال أسود

         غير بعيد عن أفغانستان بل على حدودها، وفي توقيت مزدوج، ضرب زلزال قوي المنطقة العربية، وهز أركانها بارتداداته المتكررة، والتي لم تتوقف منذ وقع ذلك الزلزال عام 1979. إذ غادر شاه إيران عرش الطاووس ليحل محله آية الله الخميني القادم من الماضي السحيق وعليه غبار معركة الجمل وآثار صفين. زلزال يعد أحد أخطر أحداث القرن العشرين إن لم يكن أخطرها على الإطلاق وأكثرها تأثيرا في الواقع العربي البائس.

         وللمرة الثالثة يطل بريجنسكي حاملا ورقته الإسلامية العتيدة. إذ شهدت إيران تطورات دراماتيكية مذهلة تمثلت في سرعة الإطاحة بشاه إيران المسلح بأعتى جيش وجهاز أمني في المنطقة، في ثورة اشتركت فيها قوى كثيرة يسارية ودينية ومدنية، ولكن الفوز بها رسى على الخميني ومجموعة من رجال الدين، وسط مباركة الولايات المتحدة ودول الغرب التي عقدت العزم على التفكير فيما لا ينبغي التفكير فيه، حيث ضمت "قمة غواديلوب" المشهورة زعماء الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا الغربية في يناير عام 1979 ،وكرست لبحث الأزمة الإيرانية لتنتهي نتائج تلك القمة بإقرار خطة متفق عليها إزاء إيران .

          فقد تولت الولايات المتحدة، وهي عراب حكم الشاه وولية أمره منذ إعادته للحكم عام 1953 في انقلاب عسكري ضد الدكتور محمد مصدق، أمرين اثنين حسما الموقف: إقناع الشاه بمغادرة إيران، وإقناع الجيش بعدم اللجوء لانقلاب عسكري والوقوف بدلا من ذلك على الحياد من أجل نجاح الثورة. مغادرة الشاه لم تكن مشكلة بعد أن تحول إلى مجرد " جرذ ميت" كما وصف نفسه في مذكراته التي قال فيها: إن نائب قائد قوات الناتو في أوربا الجنرال روبرت هويزر" ألقى بي كجرذ ميت إلى خارج إيران"، هذا الجنرال أعطى للثورة طعم النجاح عندما قام بمهمة سرية في إيران" يكتنفها الكثير من الغموض" كما تقول المصادر الأميركية.

         تركزت مهمة هويزر في إقناع كبار جنرالات الجيش الإيراني بالوقوف على الحياد، أو بمعنى أدق تأييد الخميني تحديداً، وهو ما جرى بالفعل؛ إذ تعود قادة الجيش الإيراني طاعة الجنرال هويزر لزمن طويل، فكانت النتيجة نجاح حركة الخميني وتسليم كبار قادة الجيش أنفسهم للذبح والإعدام بشكل جماعي، وهو أمر لا يمكن أن يقدموا عليه لولا تعرضهم لخديعة كبرى من جانب جنرال واشنطن الذي وثقوا به.

أسبوعان في يناير

         بعيدا عن نظرية المؤامرة فإن وثائق أميركية رفعت عنها السرية عام 2016 ،ونشرتها (بي بي سي) البريطانية إضافة إلى مصادر أميركية أخرى، أبانت أن اتصالات واسعة قد جرت بين الخميني في باريس وبين إدارة كارتر على أعلى المستويات، وبين الخميني وجهات غربية أخرى. وتظهر الوثائق أن الخميني كان في تواصل مع الولايات المتحدة أكثر بكثير جدا مما اعترفت به الحكومتان الأميركية والإيرانية. وتقول تلك الوثائق: إنه وبعيدا عن لهجة التحدي لأميركا، أظهر آية الله الكثير من التودد لإدارة كارتر عبر إرساله رسائل مسالمة تؤكد على أن الجمهورية الإسلامية المحتمل قيامها سوف ترعى مصالح الولايات المتحدة.

"But the documents reveal that Khomeini was far more engaged with the US than either government has ever admitted. Far from defying America, the ayatollah courted the Carter administration, sending quiet signals that he wanted a dialogue and then portraying a potential Islamic Republic as amenable to US interests"

         كما أبانت الوثائق عن سلوك أميركي غير معلن أو من وراء الستار، إذ أن واشنطن وبعد يومين من مغادرة الشاه طهران أبلغت مبعوث الخميني أنها منفتحة من حيث المبدأ على فكرة تغيير الدستور الإيراني وتحديدا إلغاء النظام الملكي. وتضيف الوثائق أن واشنطن قدمت معلومة جوهرية للخميني تقول: إن الجيش الإيراني سيكون مرنا إزاء مستقبله السياسي.

"But the documents show more nuanced US behaviour behind the scenes. Only two days after the Shah departed Tehran, the US told a Khomeini envoy that they were - in principle - open to the idea of changing the Iranian constitution, effectively abolishing the monarchy. And they gave the ayatollah a key piece of information - Iranian military leaders were flexible about their political future".

         وأسمت الوثائق المستشار السياسي في السفارة الأميركية في باريس "وارن زيمرمان" مبعوثا للإدارة الأميركية إلى الخميني، فيما كان إبراهيم يزدي ينقل رسائل الخميني. أما الجنرال روبرت هويز فقد أرسله الرئيس كارتر في مهمة سرية إلى طهران في يناير 1979

Warren Zimmermann - a political counsellor with the US embassy in France, used as a messenger for the US to Khomeini

Robert E Huyser - an US Air Force general sent by Carter on a secretive mission to Tehran in January 1979 ( ([3]))

من صفين إلى المهدي

         كانت الترتيبات الأميركية المحكمة قد أمنت عودة ناجحة للخميني الذي استكمل بقية الإجراءات الثورية وأكمل سيطرته على مقاليد الحكم في البلاد لتبدأ حقبة جديدة ليس في إيران وحسب بل في المنطقة كلها، ولتدخل هذه المنطقة في دائرة خطر غير مسبوق ومجهول لا يمكن لأحد استكناه نتائجه. فقد بدا أن للخميني جدول أعمال طويل يبدأ من معركة صفين وينتهي بظهور الأمام الغائب، وفي الأثناء ستكون هناك حروب ومسالخ بشرية وتداعي أركان دول ومجتمعات، وانهيارات وبراكين، لها أول وليس لها آخر.. لقد كان إخراج الثورة الإيرانية ضربة استراتيجية ليس لها مثيل في التاريخ وذات آثار ونتائج لا يعلم مداها وأبعادها إلا الله.

         بدأ الخميني مشواره بالإعلان عن تصدير ثورته إلى خارج إيران، وتحديدا العراق حيث عاش هناك فترة طويلة، وافترض آية الله أنه يعرف العراق ووضع نظام الحكم هناك، وافترض كذلك أنه خبير بموقع شيعة العراق وإمكاناتهم. كانت افتراضات الخميني بالطبع غير دقيقة وانطوت على تسطيح وخلل أدى إلى وقوع كارثة حرب الثمان سنوات. وعلى الرغم من أن العراق كان مستهدفا بشكل واسع من قبل الخميني ودوائر أخرى، وعلى الرغم من أنه انساق إلى حرب مدمرة لم يكن ممكنا تجنبها لأسباب، أبرزها: وجود نظام ثوري طائفي ينتمي لتاريخ سحيق معزز بروح الانتقام والثأر، وكذلك لوجود نوايا مبيتة تعتبر إلحاق العراق بإيران بمثابة التجسيد الحقيقي لانتصار الثورة الإيرانية؛ وبالتالي فمنسوب العقل في هذه المعادلة صفر أو أكثر قليلا...ومع ذلك ولئن كانت افتراضات الخميني عن العراق غير دقيقة، فإن افتراضات العراق عن إيران وقدراتها، في ذلك الوقت لم تكن هي الأخرى قريبة من الواقع، وهكذا كانت الحرب التي شكلت الثمرة الأولى من ثمرات المخطط الاستراتيجي المرسوم للمنطقة.

         اعتبر الخميني الحرب" نعمة من الله" إذ تمكن من القيام بإجراءات وخطوات داخلية لم يكن من الممكن تنفيذها دون تلك الحرب ومقتضياتها، كما بلغ الإعلام الإيراني الذروة في الشحن الطائفي داخليا وعبر الإذاعات الموجهة باللغة العربية، كتعويض عن تصدير الثورة على الأرض.

         أما العراق وخلافا للأهداف المرسومة من وراء الحرب التي كانت تسعى للنيل منه، فقد اهتبلها فرصة لتأسيس وبناء وترصين أعمق وأقوى وحدة وطنية عاشها العراقيون في ساحات المعارك، إذ شهد الجيش العراقي والذي تتكون قاعدته العريضة من جنود ومراتب كثير منهم من مناطق الجنوب ذات الأغبية الشيعية، والتي تقدم الولاء المطلق للأئمة الشيعة ومراجع المذهب، شهد الجيش مشاركة قتالية ملحمية نسي فيها الشيعة شيعيتهم، والتفوا بدلا من ذلك حول راية العراق، وقدموا من الدماء ما صانوا فيه حرية واستقلال بلدهم ووحدته ومعناه القيمي والتاريخي باعتباره عاصمة الخلافة ورمزها المهيب.

         كانت الحرب قفصًا عراقيًا محكمًا أمكن معه سجن الثورة الإيرانية ومنعها من التسلل إلى الخارج؛ لتحمي بذلك ورغم الدماء والأشلاء دول المنطقة ومجتمعاتها من فتنة عمياء، أو على الأقل تأخير تسرب تلك الفتنة قدر المستطاع. أما العراق فقد تمكن من تخطي تلك الصفحة ولكنها كانت مجرد صفحة من كتاب كثير الصفحات...

         حتى ذلك الوقت لم يكن هناك ملامح بارزة للمصير الأسود المرسوم للمنطقة، وتحديدا إدخالها في عصر التقسيم والتشرذم الطائفي، إذ لم تتمكن إيران من تحقيق ما كانت تصبو إليه من الوصول إلى عاصمة الرشيد، بعد أن اكتشف جنودها المغرر بهم أن مفاتيحهم التي حملوها لم تفتح لهم أبواب الجنة الموعودة، وبدلاً من ذلك طرقوا أبواب النار فدخلوها أفواجا.

         كما أن العراق كما سبق القول عاش على الرغم من مأساة الحرب وأهوالها، حقبة وحدوية صاغتها دماء المقاتلين من كل المذاهب والأطياف، حتى أن إذاعة لندن، قالت في تعليق لها على سير المعارك: إن صدام حسين يريد أن يبني من خلال الحرب شخصية وطنية عراقية. وقد كان ذلك، بعد أن امتزجت الدماء وتلاقت السواعد نحو هدف واحد. نقول هذا الكلام لعظم الفارق بين تلك الحقبة المجيدة وبين ما جرى في ظل الاحتلال الأميركي الإيراني لبلاد الرافدين، لذات العراقيين، وربما ذات الذين قاتلوا عدوا الأمس الذي تحول بالإرادة الأميركية لجلاد اليوم.

         نعم قاتل العراق بكل العراقيين سنة وشيعة، وهذه حقيقة تاريخية لا يستطيع أحد، كائنا من كان، أن يلغيها أو ينكر وقوعها، فلم تكن الحرب ليوم أو يومين بل لسنوات ثمان من الجمر، القابض فيها على عراقيته نال شرف وقف المد الصفوي الجديد. اليوم يقف صفويو إيران ليتحدثوا باسم شيعة العراق وقد ألبسوهم لباس الخزي والعار، وأذاقوهم من العذاب والقهر والحرمان، ما لا يتصوره حتى الطائفي الحقود.. صفويون قاتلوا ضد العراق في كل الجبهات سنوات طوال قبل تلك الثمان وبعدها، يزعمون أنهم يمثلون شيعة قاتلوا في العراق ومعه، واختلطت دماؤهم مع من يطلق عليهم حزب إيران أتباع يزيد.. الحديث عن تمثيل الشيعة سهل ويحسنه كل أحد بمن فيهم هادي العامري، والمهندس، والمالكي، والحكيم، وحتى بوش، وأولبرايت، وبلير. أما قوانين الحكم وسنن الاجتماع، وكيف يسلك الناس ولماذا يعملون كذا ويقومون بكذا، فهذا مبحثه في مكان آخر.. المهم ما وقع أنه وقع.

ارتدادات أولية

         بعد سنوات الحرب الأليمة جرت مياه كثيرة ووقعت أحداث خطيرة أعادت الأمور إلى المربع الأول، وربما ما قبل ذلك، وسرعان ما بدا أن توابع زلزال الثورة الإيراني والذي حوصر في إيران لمدة ثماني سنوات، عاد لينطلق وأن بحذر وتدرج. فبالنسبة للغرب كان لا يزال الرهان قائما على فتنة إيران، وكانت الاعتبارات تفترض أن سنوات الحرب الطويلة ومراراتها ستؤسس لفتنة عمياء وفرزا طائفيا إجباريا، سيتسلل إلى المنطقة العربية، وهي منطقة لم تشهد هذه الفتنة أو تعرفها من قبل.

         الولايات المتحدة رعت وبعد انتهاء حرب الكويت مباشرة، تمردا واسعا في جنوب العراق، أتى على الكثير من منجزات الوحدة الوطنية التي عاشها العراقيون بدمائهم، كما نتج عن ذلك التمرد المدعوم أميركيا، بداية التمهيد للفتنة في العراق، والتحريض عليها والدعوة لها.صحيفة الشرق الأوسط السعودية على سبيل المثال ترسم على صفحتها الأخيرة رسوما كاريكاتيرية تؤكد على معنى الفتنة الداخلية حتى أنها نشرت رسما لخريطة العراق ووضعت اسم عراق هكذا : عراك أي المقصود المعارك بين العراقيين، إضافة إلى رسوم أخرى كانت تشارك كلها في المجهود الحربي ضد العراق.

         ومن جانبها فقد اكتفت الولايات المتحدة عام 1991 بوقف الحرب ولم تتوجه إلى داخل العراق لسببين؛ الأول: جنون المحاولة حيث كان العراق قويا جدا في ذلك الوقت، ولاسيما في محيطه العربي، كما أن أي محاولة للوصول إلى بغداد كانت ستكلف الأميركيين ما لا يطيقون. والسبب الثاني والأكثر أهمية: هو ترك الصراعات الطائفية والعرقية تأخذ مداها، مع الحصار ووسائل الموت الأخرى لوقت معلوم، وقد كان..

العراق إلى سجن طويل

         منذ ذلك الوقت تبادل العراق وإيران الأدوار؛ إذ تم إدخال العراق في سجن محكم، فيما غادرت إيران عزلتها تدريجيا، ليبدأ فصل آخر من فصول الزلزال الاستراتيجي المعد للمنطقة، غير أن بقاء العراق وإفلاته من محاولات الألحاق والإسقاط طيلة العقد التسعيني، لم يمكن رعاة ذلك الزلزال من التوسع في خططهم التي بقيت مؤجلة حتى جاء غزو واحتلال العراق في العام 2003، ليسقط بلد الرشيد وتكسر الباب التي حري ألا تغلق إلى أمد غير معلوم.

         كان احتلال العراق حدثا تاريخيا بالغ الخطورة ذا آثار ونتائج استراتيجية بالغة السلبية على مجمل الوضع العربي والإسلامي. ويدرك المحللون الاستراتيجيون قدر العراق ومعناه وقيمته التي تبلغ الاستحالة في النظير. ففي يوم ثقيل وسط هجوم كبير وشبه حاسم أطلقته إيران في جبهة البصرة خلال الحرب الإيرانية عام 1986 ، قال جنرال إسرائيلي لإذاعة صوت أميركا تعليقا على ذلك الهجوم واحتمالاته: "إن سقوط العراق بيد آية الله سيكون أبرز حدث منذ سقوط الدولة العثمانية، وإذا وقع ذلك فسيكون استقلال معظم الدول العربية موضع شك"، وهو تحليل دقيق بالغ الدقة يرقى إلى مستوى التصريح بسر من أسرار الدولة الإسرائيلية وقناعاتها الخطيرة والحاسمة عن أقدار المنطقة ودولها، وإسرائيل قبل غيرها تعرف معنى العراق، بل تعرف معناه كما تعرف نفسها..

         لم يكن احتلال العراق، على خطورته، ليمثل نهاية العالم ولاسيما أن العراق شهد غزوا بربريا همجيا أكثر من مرة في تاريخه المختلط بكل الألوان،غير أن احتلال العراق وتسليمه إلى إيران، وليس لأي دولة عربية أو وضعه تحت وصاية عربية على افتراض قبول هذا أو تفهمه لوقت ما، أدخل العراق والمنطقة بل الأمة الإسلامية كلها في قلب الزلزال الاستراتيجي ومركزه، وفي داخل نواة أخطر مخطط يستهدف المنطقة والعرب والأمة على امتداد تاريخها.

         ففي أسوأ كوابيس المتشائمين لم يكن يخطر في بال أحد أن تقوم الولايات المتحدة التي، ومنذ دخولها المسرح الدولي كوريث للإمبراطورية البريطانية، ما فتأت تتحدث عن توازن القوى وحماية النفط وتأمين مصادره إلى غير ذلك من أطروحات يبدو أنها باتت قديمة، أو أفسحت المجال لمخطط أكثر ظلما، لم يكن يخطر في بال أحد أن تقوم بتسليم العراق، ذي الأهمية الإستراتيجية والجيوسياسية ماضياً ومستقبلا إلى إيران التي تقع جغرافيا إلى جوار دول الخليج المحرمة على العالمين!!.

         " عند النظر إلى المستقبل بعد عشر سنوات، يبدو من المرجح أن تكون إيران، المتحالفة مع الغالبية الشيعية في العراق، القوة المهيمنة في الخليج" ([4]). وهو أمر مقبول للولايات المتحدة والغرب، حتى الآن على الأقل.

ديمقراطية الصدمة والترويع

         لقد نتج عن احتلال العراق اختلال في ميزان القوى الاستراتيجي في المنطقة بشكل غير مسبوق، فضلا عن سلسلة انهيارات أصابت الوضع العربي برمته؛ وكأن تحليل الجنرال الإسرائيلي السابق ذكره كان ينتظر التوقيت المناسب وقد جاء. هذا الاختلال لم يكن فقط لوقوع العراق تحت الاحتلال، ولكن بسبب إخراج العراق من المعادلة العربية بل إخراجه من النسيج العربي عبر تدابير أريد لها أن تكون دائمية وليست استثنائية أو طارئة.

         إذ عمد الاحتلال المدعوم بخطط مراكز الأبحاث الأميركية والبريطانية والإسرائيلية السابقة على الاحتلال ذاته، بتكريس الديمقراطية عبر أعمدتها الأساسية المتمثلة في الترشيح والانتخاب والتصويت والعملية الانتخابية وانبثاق ما تسميه واشنطن" مجلس منتخب وحكومة منتخبة ورئيس منتخب"، وكل هذا في ظل عملية سياسية خرجت من رحم العملية العسكرية التي تعرف بـ" الصدمة والترويع" والتي أخضعت بموجبها العراق وجردته من كل شيء تماما : من دولته، وجيشه، ومجتمعه، وحضارته، وثرواته، ورجالاته، وعلمائه، ومستقبله، من أجل صناعة عراق جديد من رحم ديمقراطية الصدمة والترويع.

إذن أريد للعراق في كل ما يجري الآن أن يكون دائما عبر تشريعات نظام منتخب، وأهم وأبرز ما يراد للعراق تجريده من عروبته ونقله طائفيا للمدار الإيراني. ولعل هذه النقطة الأخيرة هي الأهم على الإطلاق، حيث أن ما يترتب عليها سيكون خطيرا جدا على حاضر المنطقة ومستقبلها.

حرب لإعادة كتابة التاريخ

لقد خاض العراق حربًا ضروسًا ليمنع تصدير الفتنة الطائفية إليه عبر الحدود وتحت مسمى تصدير الثورة. حرب أصر الخميني على استمرارها منذ أسبوعها الأول، ولمدة ثمان سنوات، دون أن يرف له جفن، أو يفكر مجرد تفكير في وقفها،خصوصا أنها كانت" نعمة من الله" كما قال. أما الغرب فقد استخدم أسلوبه التقليدي في إدارة الأزمات، فلم يشأ الضغط لإيقافها أو وقفها لأنها كانت حربا ضرورية و"نعمة من الشيطان" باعتبارها مدخلا لحفر الأخاديد الطائفية التي بدأت تشق طريقها في المنطقة، وإن بتدرج.

اللافت في تلك الحرب أنها انتهت بانكسار إرادة إيران ومخططاتها وفشلها التام في تحقيق ما تصبو إليه إلى الحد الذي يدعو للانتحار بالسم. مئات وربما آلاف الهجمات وفقا لاستراتيجية الموجات البشرية الرخيصة دماؤها على الخميني، لم تفلح في كسر البوابة العراقية التي ظلت موصدة في وجه الفتنة، حتى كسرت تلك الباب في التاسع من نيسان 2003.

منذ ذلك العام وحتى العام 2011 أي بعد مرور 8 سنوات على الاحتلال العسكري المباشر، قررت واشنطن سحب جنودها من العراق، أو جزء منهم أو إعادة انتشارهم، ولكن المغزى الأكبر كان في السنوات الثمان التي قضتها قوات الاحتلال في بلاد الرافدين، وكأنها تقول لإيران، لقد خضتم حربا لثمان سنين فلم تحققوا ما تريدون، ونحن حققنا لكم في ثمان أخرى ما عجزتم عن تحقيقه، وهكذا قامت الولايات المتحدة، شيطان إيران الأكبر بتسليمها مقاليد العراق، بعد أن عكس القرين نتائج الحرب وحقق لآيات الله ما عجزوا عن تحقيقه.. فهل هناك أوضح من هذه الصورة لمعرفة ماذا جرى ويجري!!

         لم يكن عكس نتائج حرب السنوات الثمان وتغيير الهزيمة الإيرانية إلى نصر مجاني، وتسليم العراق، وياله من اسم عبر عملية ديمقراطية على المقاس( العراقي) أمرًا سهلاً يمكن تجاوزه أو السكوت عليه، ولكن سبق هذا ورافقه وتلاه سلسلة إجراءات هزلية لولا أنها كارثية. فقد أصرت الولايات المتحدة وتابعها البريطاني والإعلام الغربي على ترديد كذبة معلبة لا يمكن فتحها أو فحصها أو التمعن فيها تتلخص في القول بغالبية الشيعة في العراق، وتمعن في الكذب لتقول أيضا إن نسبة السنة في العراق 18 إلى 20 بالمائة !! والأنكى والأمر أن هذه النسبة المعلبة قد تم اعتمادها فور وصول " نائب الملك" بول بريمر، كما يسميه جلال طالباني، حاكما لبلاد الرافدين.

         هذه النسبة تم اعتمادها وكرست سياسيًا واجتماعيًا في كل مرافق نظام الاحتلال في وقت لا يجيب فيه أحد على سؤال بسيط: من أين أتى الاحتلال بهذه النسبة ووفقا لأي إحصاء سكاني، علما أن مثل ذلك الإحصاء لم تقم به حكومة عراقية ولا الجامعة العربية ولا منظمة المؤتمر الإسلامي ولا الأمم المتحدة ولا أي منظمة من المنظمات العربية والإسلامية والدولية المتخصصة!! ولكنها ديمقراطية الصدمة والترويع.

إعادة توزيع القوة والثروة

         كرس الاحتلال الأميركي للعراق سياسات طائفية على كل صعيد في وقت أعاد فيه تلك البلاد المزدهرة بما حباها الله به، إلى عصر ما قبل الصناعة وربما أبعد وأقسى كما وعد ذات يوم جيمس بيكر وزير خارجية بوش الأب. وهكذا تم تغييب الدولة كمفهوم وتقاليد، ليحل محلها دولة غوغاء لا يعرفون السياسة فضلا عن معرفة الحكم أو إدارة الدول، كما تم تكريس الفساد باعتباره ركيزة الحكم وعموده الفقري، وتأسيس ميليشيات معظمها طائفية إيرانية وأخرى انفصالية، بديلا عن الجيش الذي بلغ عديد فرقه ذات يوم أكثر من 50 فرقة.

         وبدأ عصر الانتقام من العراق بقسوة لم يمارسها المغول في تاريخهم الأسود ولا سواهم، قسوة كان الهدف منها الانتقام من العراقيين، أو السنة في التفكير الأميركي" وإذا ترك وسط البلاد ضعيفا وفقيرا؛ فإن ذلك يشكل تسديد حساب عن عشرات السنين التي استغلت فيها العاصمة المناطق" ([5]) هكذا يجب ترك الوسط السني ضعيفا فقيرا!!، فهل يعي العرب حقيقة الكارثة التي وقعت على العراق وتلك التي تنتظرهم..

         تسليم العراق إلى إيران وتمكين ميليشياتها من حكم بلاد الرافدين قلب الميزان الاستراتيجي في الشرق الأوسط لأول مرة في التاريخ، فالعراق ليس أي بلاد، وليس بالبلد الهامشي، ولكنه بلد ذو تأثير كبير على جواره ومحيطه الأقرب والأبعد كذلك. أما من الناحية الطائفية فإن تسليم الحكم لمجموعة إيرانية عاشت وترعرعت في إيران، فهو إشعار علني بتكريس النهج الطائفي في المنطقة عبر العراق، وتغيير المسار السياسي والاجتماعي بشكل كامل.ما قام به الاحتلال في العراق، ومن بعده في أماكن أخرى في المنطقة كان أكبر عملية لإعادة توزيع القوة والثروة في الشرق الأوسط، وهي عملية خطيرة ومشبوهة وعدوانية بكل المقاييس.

         وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، وهي بالمناسبة تلميذة لبريجنسكي، تقول عن هذه العملية : "إنها تحول تاريخي في القوة النسبية للمسلمين السنة والشيعة لا في العراق فحسب، وإنما في كل أنحاء المنطقة، فإقامة حكومة دائمة في العراق تشير إلى المرة الأولى في التاريخ التي يحكم فيها الشيعة دولة عربية بارزة " ([6]).

         نعم كانت أكبر عملية لإعادة توزيع القوة عبر تسليم الحكم إلى الحركات الشيعية الطائفية ذات المرجعية الإيرانية وعبر حل الجيوش أو تفكيكها أو إضعافها، والاعتماد على ميليشيات طائفية إيرانية تسير وفقا لتعليمات الحرس الثوري في طهران. كما كانت أكبر عملية لإعادة توزيع الثروة عبر تسليم مقدرات وثروات دول، أولها وأبرزها وأغناها، العراق وفتح الأبواب مشرعة أمام عمليات نهب منظم مباشر وغير مباشر. وهكذا أعيد رسم أقدار القوة والثروة في المنطقة، بهدف التمكين للشيعة، كما بشر بهذا أكثر من كاتب غربي، حتى قبل احتلال العراق.

         ساق الاحتلال الأميركي وسياسيوه مبررات شتى لعملية قلب الأوضاع غير المسبوقة في تاريخ المنطقة بل على مستوى الأمة، باعتبار هذا الانقلاب إنما قام لأهداف (إنسانية) تهدف إلى إنصاف الأقليات وتصحيح أوضاعها. مادلين أولبرايت وزير الخارجية الأميركية السابقة، والتي يعرفها نصف مليون طفل عراقي ذبحتهم السيدة الوزيرة كثمن (معقول) بهدف التخلص من صدام حسين، وبالمناسبة ولأنها تقول إن الشيعة أغلبية في العراق، فإن أغلبية النصف مليون طفل كانوا شيعة!!! المهم السيدة أولبرايت تقول" غالبا ما تشكو الأقليات الشيعية في البلدان التي يسيطر عليها السنة من عدم التسامح والتمييز، وهي شكوى لها ما يبررها" ([7]). وتقول أيضا وأيضا" فعندما قلبت إزاحة صدام حسين السياسة في العراق رأسا على عقب، حلت محل الأقلية السنية المهيمنة منذ مدة طويلة أغلبية شيعية مقموعة منذ عهد بعيد". إذن فالعملية مقصودة ومخطط لها وأشبعت بحثا ودراسة في مراكز الأبحاث الغربية.

         "لقد كان السنة يتمتعون بالتفوق داخل الدين الإسلامي طيلة ألف عام، وسيكون الميزان في المستقبل أكثر تعادلا، ولا يعرف أحد على وجه اليقين ما يمكن أن يعنيه ذلك ([8])،  وتمضي السيدة الوزيرة قائلة: "إن علينا التنبه من احتمال حدوث نزاع- من التقاتل اللفظي إلى الاغتيالات والتحريض، وفي نهاية المطاف التسابق على الأسلحة النووية بين السنة والشيعة ([9]).

         وكما كتب أحد المفكرين "فقد تم تقديم مفهوم إعادة ترسيم الشرق الأوسط على أنه ترتيب “إنساني” و”صالح”، والذي سوف يفيد شعوب الشرق الأوسط ومناطقه الطرفية. ووفقاً لرالف بيترز الذي كتب كتاب "حدود الدم"؛ فإن الحدود الدولية ليست عادلة بالكامل أبدًا...كانت محاولات خلق العداوات قصداً بين الجماعات الدينية والعرقية والثقافية للشرق الأوسط عملاً منهجياً. وهي في الحقيقة جزء من أجندة استخباراتية مصممة بعناية بل إن الأكثر شؤماً، هو أن العديد من حكومات الشرق الأوسط تساعد واشنطن في إثارة الانقسامات بين سكان الشرق الأوسط. والهدف النهائي هو إضعاف حركة المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي من خلال تشغيل “استراتيجية فرق تسد”، التي تخدم المصالح الأنجلو-أميركية والإسرائيلية في المنطقة الأوسع، وغذى الإعلام الغربي، على أساس يومي، أفكاراً غير صحيحة ومنحازة تقول إن سكان العراق لا يستطيعون أن يتعايشوا معاً، وأن الصراع هناك ليس حرب احتلال، وإنما “حرب أهلية”، موسومة بالصراع المحلي بين الشيعة والسنة والأكراد".

العراق واسطة العقد الطائفي

         إن إطلاق القنبلة النووية الطائفية في المنطقة، بدءا من الثورة الإيرانية، التي كانت الزلزال المدمر الذي ضرب بنى المنطقة وفكك أساساتها بقوة، وما استتبع ذلك الزلزال من ترددات تمثلت في الحرب الإيرانية العراقية وأزمة الكويت وصعود حزب الله المحسوب بدقة، وصولا إلى الهدف المركزي للولايات المتحدة والغرب والمتمثل في احتلال العراق، كان كل ذلك مخرجات لذلك الفعل المتمثل في الثورة الإيرانية"فالحرب العراقية الثانية( احتلال العراق) تعود في جذورها إلى أحداث حصلت قبل اندلاعها الفعلي في نهاية 2002 وبداية 2003 بزمن طويل، في الواقع تعود إلى عام 1979 تاريخ سقوط الدكتاتورية التحديثية للشاه محمد رضا بهلوي ووصول الخميني إلى السلطة، منذ تلك اللحظة ابتدأت الأزمة العراقية، أو أزمة النظام العراقي التي أدت في نهاية المطاف إلى الأطاحة به" ([10]).

         كانت المنطقة في التفكير الاستراتيجي الأميركي على موعد مع عملية معقدة ودموية بهدف تفكيكها وإعادة تشكيلها من جديد، عبر العراق وبدءا به. فالعراق وإضافة إلى أهميته الاستراتيجية القصوىفإنه يحتل موقع الدولة التي تتوسط خريطة التشيع الإقليمية. فعلى حدوده المجاورة تقع إيران مركز التشيع كما يجاور العراق دول الخليج التي تتوفر على شيعة يدينون بالولاء للمذهب، ويمتد العراق في خريطة التشيع ليجاور سورية المحكومة بالمذهب النصيري المتحالف مع الشيعة، ومن سوريا يمتد الخيط الشيعي كي يصل إلى لبنان الذي يتحكم به حزب الله ودولته العميقة، هذا إذا لم نأخذ في الاعتبار، الآن على الأقل علويو تركيا، باعتبار أنهم لم يتحركوا بعد. وهكذا يمثل العراق واسطة العقد الشيعي ليمثل قلب التشيع الجيوسياسي، ناهيك عن أهميته (الدينية) الأخرى المتمثلة بما يسمى بالمراقد العظمى.

         مع العراق الشيعي بإرادة أميركية، تكرس الهلال الشيعي في المنطقة، والذي قرأه عاهل الأردن بدقة منذ وقت مبكر، كما نتج وضع جديد يحدث لأول مرة منذ قرون، والمتمثل في أن الدول التي كانت تحت الحكم العثماني أصبحت اليوم تحت حكم شيعة إيران.

         الأمر الأكثر خطورة هو أن هناك في كل مكان تسلسلا في الأحداث يقود بعضها إلى بعض، وتؤدي في النتيجة إلى هيمنة إيران وشيعتها، والتمكين للقوى الطائفية وتكريس حكمها. وإذا أجرينا دراسة لتسلسل الأحداث والتطورات في المنطقة منذ الثورة الإيرانية حتى الآن، فإننا سنجد أن ذلك التسلسل متسق ومنطقي ويقود إلى نتائج بات التنبؤ بها ممكنًا ومتوقعًا. خطوات كأنها تحظى بالإجماع واتفاق الرأي بين الدول الكبرى مجتمعة سواء في الغرب أو روسيا والصين وبقية الدول."من العواقب غير المقصودة أيضا(..) المرتبطة بالحرب، صعود النفوذ الإقليمي لإيران التي يعيش آلاف من مواطنيها في مدينتي النجف وكربلاء العراقيتين المقدستين، فكثير من زعماء العراق الجديد أمضوا سابقًا سنين في إيران، وأنشؤوا معها علاقات وثيقة وهناك تبادل للزيارات الودية العالية المستوى بين طهران وبغداد، مقارنة بالعلاقات الباردة مع العواصم العربية السنية، وتم التعهد بالتعاون حتى في مجالي الأمن والدفاع. كما أن قوات الميليشيا الشيعية التي تسيطر على الأمن في جنوب العراق متحالفة فعليا مع إيرانـ التي أطلقت العنان لأجهزتها الأمنية والاستخبارية. وقد أزاحت الحرب صدام حسين عدو إيران اللدود. واليوم يشتبك خصمان إضافيان من خصوم إيران، الولايات المتحدة والمتطرفون السنة في مواجهة دامية... وهكذا من الصعب أن يتصور المرء تسلسلا مؤاتيا أكثر للأحداث من وجهة نظر رجال الدين في إيران" ([11])، هكذا إذن وبكل بساطة، ما على إيران إلا أن تتمنى وشيطانها الأكبر في خدمتها.

تفكيك المجتمعات الإسلامية

         هذا الوضع يكرس انتقال المنطقة من إمكانية الوحدة، على الصعيد المجتمعي على الأقل، في مواجهة الغرب، إلى التفكك والانقسام والعجز عن المواجهة بفعل الانقسام الشيعي السني وتفكك المجتمعات خصوصًا في ظل السيطرة الطائفية."لقد تسامح غالبية العراقيين (أي الشيعة) مع التواجد الأميركي في البداية؛ لأن السيستاني أمر بذلك " ([12])، في مقابل موقف العرب السنة "وترجع مقاومة العديد من العرب السنة بشكل جزئي إلى أن هيئة علماء المسلمين، وهي مجموعة سنية بارزة، ادعت أن المقاومة واجب ديني. ([13]) السيستاني يأمر دينيا بوقف المقاومة، فيما هيئة علماء المسلمين تدعي أن المقاومة واجب ديني!!.

         وهكذا يمكن أن يمثل هذا الوضع الحالة الأمثل للغرب تفاديا لمواجهة مجتمع إسلامي واحد. صورة المنطقة تحت الحكم الطائفي يرسمها ويقرأها بريجنسكي منذ زمن طويل فيقول عن منطقة قوس الأزمات إنها: "منطقة لا تزال تمزقها الأحقاد التاريخية والتنوع الثقافي، ولا تزال القومية في المنطقة في مرحلة مبكرة عاطفية أكثر مما كانت عليه في أوربا المنهكة بالحرب(أنهكتها حربان أهليتان هائلتان خلال ثلاثة عقود فقط) وتؤججها المشاعر الدينية التي تذكر بحرب الأربعين سنة التي اندلعت في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت قبل أربعة قرون" ([14])

بوتين يلبس العمة السوداء

         بعد وقوع العراق تحت الاحتلال أصبحت بلاد الرافدين قاعدة متقدمة في التوسع الطائفي الذي ترعاه إيران، وتحت سمع وبصر القوى الدولية الكبرى. فالمشروع الطائفي الذي ينطلق من العراق، بهدف مواجهة الإسلام السني في المنطقة كلها، يحظى بدعم روسي شبه كامل بدأ منذ فترة طويلة، وإن كانت آخر تجلياته في سوريا ومشاركة روسيا الكبيرة في إدارة مسار الصراع هناك.

         روسيا اليوم باتت معنية بشكل مباشر بمواجهة الإسلام السني انطلاقًا من الشيشان والجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي السابق، وعبر الحدود وصولا إلى سوريا. " أخذت روسيا ترى في جيرانها المسلمين مصدرًا محتملاً لتهديد سياسي وديموغرافي متفجر، كما أن النخبة السياسية الروسية صارت تتأثر بشكل متزايد بالمغريات العرقية والدينية المعادية للإسلام. وفي هذه الظروف، وجد الكرملين في أحداث 11 أيلول/ سبتمبر فرصة لدفع أميركا إلى الدخول في حرب ضد الإسلام باسم " الحرب على الإرهاب" ([15]).

         أما وزير الخارجية الأميركي الأسبق "هنري كيسنجر" فيقول: إنه التقى الرئيس الروسي بوتين قبل هجمات سبتمبر في الولايات المتحدة بشهر، وأنه سمع بوتين يقول: إنه مهتم بالإسلام المتطرف أكثر من اهتمامه باتفاقية الدفاع المشترك مع الولايات المتحدة، ونقل عن بوتين رغبته بإقامة علاقة استراتيجية بالولايات المتحدة تمتد من طهران إلى مقدونيا. ويؤكد كيسنجر أن" هذا الأمر كان في خلفية تفكيرهم لكنه أيضا في مقدمة تفكيرهم".

         كيسنجر قال أيضا في مقابلة مع (سي إن إن):" إن بوتين يعتبر أن الإسلام المتشدد هو التهديد الأمني الأكبر لبلاده"، وبخصوص سوريا أضاف كيسنجر: "بحسب مراقبتي، فإن مصدر القلق الأكبر في سوريا بالنسبة لبوتين هو إمكانية تسبب هذا النزاع في زيادة التشدد بالمنطقة ". والكل يتذكر تحذير وزير الخارجية الروسي من عودة السنة لحكم سوريا.

         الموضوع إذن هو موضوع مواجهة الإسلام في المنطقة، وخوف الغرب والشرق من إمكانية قيام نظام إسلامي قوي يعيد ترتيب الأوضاع بعيدًا عن تسلط القوى الكبرى"من المرجح أن يأتي التحدي السياسي الأكثر ديمومة، ولاسيما في البلدان الإسلامية ذات الأغلبية السنية من محركات شعبية تنادي بالإسلامية" ([16]).

         القوى الكبرى لم تجد أفضل من استغلال الورقة الطائفية وإبراز الشيعة بهدف خلق مواجهة تؤدي إلى إحباط أي مسعى لبروز قوة إسلامية إقليمية قوية. ونظرة لما جرى في العراق حين تصدت المقاومة العراقية للاحتلال، وأرغمت قواته على العودة لذل فيتنام بعد الزهو الذي ركبهم نتيجة إرهاب الصدمة والترويع، لولا إحباط جهود تلك المقاومة بالقوى والميليشيات الشيعية والإيرانية.

         واليوم يتكرر الأمر نفسه في سوريا حيث يؤكد كيسنجر هذا الأمر ويختصره بالقول المبين: " القضية في سوريا هي صراع تاريخي بين السنة والشيعة"، وسيمضي الغرب في هذه الحرب التي يعدَّها حربًا مصيرية بهدف منع، أي: انبعاث إسلامي حقيقي. إن الغرب يدرك تمام الإدراك أن الحركة الإسلامية، ومهما كانت درجة اعتدالها، فإنها لا تقبل أبدا بالهيمنة الغربية على مقدرات هذه المنطقة، وهو المستحيل بعينه بالنسبة للغرب ومن هنا رفض الديمقراطيات الغربية الدائم؛ لأي عملية ديمقراطية تجري خارج الإطار المرسوم لها غربيًا وبما يحقق نتائج محسوبة ومؤكدة. " إن على الولايات المتحدة ألا تركز إطلاقًا على الانتخابات في العالم العربي... إن أكثر الأحزاب العربية الإسلامية اعتدالا وابتعادًا عن العنف لن تكون مستعدة للقبول بالنفوذ الذي تمارسه الولايات المتحدة الآن في المنطقة" ([17]). ولا يوجد كلام أوضح وأجلى من هذا الكلام...

واقع مأساوي

         نقطة أخيرة تتعلق بالطرف المستهدف، وتحديدا السنة، وهم ليسوا مجرد مذهب أو طائفة كما يطلق عليهم، بل هم الأمة في امتدادها في كل الأرض. ورغم ذلك فإن الحقيقة على أرض الواقع لا تشير بكل أسف إلى إمكانية اعتبار السنة كتلة واحدة أو نسيج موحد، بل هم أشتات شتى وكتل متفرقة وفرق وكيانات متنوعة أحزاب علمانية،ومدارس لا دينية، وفرق دينية، ولكنها تقترب أو تبتعد عن أصول أهل السنة. أما الطامة الكبرى فهي النظم التي يسميها الغرب بالنظم السنية أو الدول السنية، والتي يمارس بعضها حربا شرسة على السنة والحركات السنية ويتحالف مع أعدائها.

         الغرب يدرك هذا ويعتبر الشقاق داخل السنة، بمثابة حبل النجاة "يخشى بعض المحللين من أن الديمقراطية تسمح للحركات الإسلامية بتسلم السلطة في كل أنحاء شمال إفريقيا والشرق الأوسط والخليج، وصولا إلى جنوب شرق آسيا، وستكون النتيجة كتلة رهيبة من الدول الموحدة في كرهها لإسرائيل، ومعارضتها لأميركا ومقاومتها الضغط الخارجي فيما يتعلق بالإرهاب وإنتاج الأسلحة النووية، وعلى الرغم من أن الخطر ملازم للديمقراطية، فإن مثل هذه النتيجة مستبعدة، فالإسلام أكثر قدرة من الشيوعية على جمع هذه المجتمعات معا، لكن ما من حركة واحدة تستطيع التوفيق بين الاختلافات الثقافية والدينية ضمن هذا المعتقد ([18])

         لقد صدر الحكم وكل قوى الأرض تمارس التنفيذ، والتهمة أننا مسلمون.. سنة وفقاً للتصنيف الاستشراقي الأميركي والغربي. إدوارد سعيد الذي خبر وعرف الغرب، في تعقيب له على أطروحات قديس المحافظين الجدد وعراب الاستشراق "برنارد لويس" عن الإسلام، يقول سعيد " إن جوهر إيديولوجية لويس، فيما يخص الإسلام هو أنه لن يتغير، وأن أية مقاربة سياسية تاريخية أو جامعية للمسلمين عليها أن تبدأ وتنتهي من كون المسلمين هم المسلمون".
قضي الأمر وصدرت الأحكام، ولكن الغرب وأداته الصفوية الجديدة ليسوا قدرا، فللكون رب يملك الأقدار ولا قدر لسواه.


 ([1])( الجزيرة نت 22/5/2016).

 ([2])مادلين أولبرايت : الجبروت والجبار،تأملات في السلطة والدين والشؤون الدولية، الدار العربية للعلوم-ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى 2007

 ([3]) Two Weeks in January: America's secret engagement with Khomeini

By Kambiz Fattahi ,BBC Persian Service ,3 June 2016,http://www.bbc.com/news/world-us-canada-36431160

 ([4])مادلين أولبرايت، مصدر سابق، 210. الوزيرة الأميركية كتبت هذا الكلام عام 2006

 ([5])أولبرايت، 167، مصدر سابق، وهي هنا تشير إلى توزيع الثروة في العراق الجديد، فتعطي لأكراد الشمال وشيعة الجنوب، كما تقول هي، ولكنها تدعو للانتقام من الوسط!!

 ([6])أولبرايت، 166، مصدر سابق

  ([7])أولبرايت،113، مصدر سابق

 ([8]) المصدر نفسه ،166،

  ([9]) المصدر نفسه: 166

 ([10])دومينيك دوفيلبان : سمك القرش والنورس البحري،المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث، الدوحة 2005

 ([11])أولبرايت، 167، مصدر سابق

 ([12])أولبرايت، 164، مصدر سابق

 ([13])أولبرايت،164، مصدر سابق

 ([14])زبغينيو بريجنسكي: الاختيار السيطرة على العالم أم قيادة العالم،دار الكتاب العربي، بيروت، 2004، صفحة 75

 ([15])بريجنسكي، مصدر سابق

 ([16])بريجنسكي،68، مصدر سابق

 ([17])أولبرايت،193، مصدر سابق

 ([18])أولبرايت،193، مصدر سابق

مقالات اخرى

Melbourne Web Design & Development
menu-circlecross-circle linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram