العميد الركن خليل الطائي([1]) أهمية العراق وفق المنظور العام للاستراتيجية الأمريكية: يُعدُّ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق وتفككه عام 1991م وتفرّد الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى وحيدة في عالم أحادي القطب، أمرًا حفّز الولايات المتحدة للاعتماد على قوتها العسكرية التي تصنّف الأولى في العالم من جهة الإمكانات العددية والتقنية والتسليحية والانتشار، ناهيك عن امتلاكها أفضل شركات الصناعات الحربية، باتخاذها الوسيلة الرئيسة لتحقيق أهدافها الخارجية دون الرجوع إلى المؤسسات الدولية وفي مقدمتها مجلس الأمن الدولي وهيئة الأمم المتحدة؛ لذلك اعتمدت هذا السلاح [ القوة العسكرية] كعنصر أساسي وحاسم في المنطقة متبنّية مبدأ القوة في الحفاظ على مصالح الولايات المتحدة الأمريكية الوطنية والسياسية والامنية، واعتبر الحسم العسكري سمة من سمات استراتيجيتها الجديدة ووسيلة لتحقيق غايات وأهداف حددتها السياسة عن طريق الاستخدام المباشر للقوة أو التلويح بها، ومن هنا احتلت الاستراتيجية العسكرية الأمريكية الصدارة في حسم الملفات الدولية في المنطقة التي تنوعت حسب الزمان والمكان وأهمية البلد ولتكون الوسيلة الفعّالة لتطبيق السياسة الأمريكية ومشاريعها وتنفيذها في المنطقة وفق المنظور العام للاستراتيجية العليا للأمن القومي الأمريكي الذي يعتمد على توازن القوى إقليميا مع الحفاظ على استمرار الهيمنة الأمريكية والتفوق العسكري للكيان الصهيوني، وفق هذه الرؤية فإن الولايات المتحدة تنظر للموارد الطبيعية وفي مقدمتها النفط على أنها عامل مهم في تفوق الدول وعنصر رئيس في تحقيق الغايات، فهو أحد أهم محددات السياسة الخارجية الأمريكية واستراتيجيتها، فضلاً عن الموقع الجغرافي للدولة وتأثيره على نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني وما يشكله من تهديد لمصالحهما، ومن هنا اعتمد الساسة الأمريكان مبدأ مهمًا ضمن السياسات الاستراتيجية الأمريكية وهو أن نفوذ الولايات المتحدة يجب أن يصل لكل بلد نفطي في الشرق الأوسط والسيطرة عليه، وفرض الوصاية السياسية أو العسكرية أو كليهما عليه، وكان العراق في ضمن البلدان الحيوية التي تنظر إليه الولايات المتحدة كهدف استراتيجي مهم، من حيث الموارد النفطية والموقع الجغرافي الذي يجب غزوه واحتلاله، فالعراق منذ القدم احتل موقعا استراتيجيا مهما، فهو البوابة الشرقية للوطن العربي وعقدة المواصلات بين شبه الجزيرة ووسط آسيا والهند والمعبر باتجاه روسيا وإيران وتركيا وهو نقطة الانطلاق باتجاه الشرق الأوسط، ويمتلك ثاني احتياطي نفطي في العالم وبجودة عالية بعد المملكة العربية السعودية، لذلك فالعراق وفق هذه الأهمية الاقتصادية والجيواستراتيجية جعل الامن القومي الأمريكي والبنتاغون ينظرون إليه كصمام أمان وتحكم للمنطقة العربية والآسيوية، وإن السيطرة عليه تعني التحكم بالنفط وكميته وأسعاره وخطوط المواصلات وأمن الكيان الصهيوني ونقطة الانطلاق للمشروع الأمريكي في الشرق الأوسط. الحرب الأمريكية المباشرة وغير المباشرة على العراق: من هنا بدأت الاستراتيجية الأمريكية السياسية والعسكرية بتنفيذ صفحاتها ضد العراق لتدميره وإرجاعه إلى زمن ما قبل الصناعة وهذا ماقاله وتوعّد به المسؤولون الأمريكان، فشنّوا سلسلة من الحروب غير المباشرة والمباشر ابتدأت من توظيف مجلس الأمن الدولي وهيئة الأمم المتحدة بفرض حصار اقتصادي شامل على العراق عام 1990م والذي انعكس تاثيره السلبي على معيشة العراقيين ومؤسسات الدولة وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية من جهة التسليح والتجهيز والتدريب والتواصل العلمي مع جيوش العالم، ثم عززتها بجريمة ومجزرة بحق الجيش العراقي خلال انسحابه من الكويت في 26شباط 1991م والذي تم بالاتفاق مع واشنطن والتاكيدات بعدم مهاجمته لكن سرعان ما تبخر هذا الاتفاق، ويُقتل ما يقارب من المئة الف جندي عراقي خلال عملية الانسحاب بضربة جوية من قبل الطائرات الأمريكية، وفي حينها سئل الجنرال كولن بأول والذي كان يشغل منصب رئيس الأركان آنذاك عن عدد الجنود العراقيين القتلى فأجاب "لا فكرة لدي عن العدد ولا يهمني أن أعرف" وهذا بداية السقوط العسكري والأخلاقي لأقوى مؤسسة عسكرية عالميا [الجيش الأمريكي]، ثم تبعها في5 نيسان عام 1991م فرض مناطق حظر جوي شمالا بخط عرض 36 وجنوبا خط عرض 32 ثم توسّع ليشمل خط عرض 33 تحت ذريعة حماية الأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب وهذه هي بداية زرع بذرة الفتنة والتقسيم والتدخل العسكري الأمريكي المباشر في العراق، وحقًا قامت الأحزاب الكردية في شمال العراق بإجراء انتخابات محلية وتشكيل برلمان وإنشاء كيان شبه منفصل ومستقل أطلقوا علية إقليم كردستان، واستمر طيران التحالف الدولي آنذاك باستهداف بطريات الصواريخ التابعة للدفاع الجوي ومقرات القيادة والسيطرة وتدميرها بحجة خرق الحظر ثم استهداف البنى التحتية في بغداد عام 1998م من خلال عملية عسكرية استمرت أربعة أيام أطلق عليها [ثعلب الصحراء]، وكل هذا هو لأضعاف العراق سياسيا واقتصاديا وعسكريا. وبعد أحداث 11 سبتمر عام 2001م [ هي هجمات بالطائرات على برجي مركز التجارة العالمي ومقر وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون] حدّثت واشنطن استراتيجيتها العسكرية وفق مبدأ [الدفاع الوقائي] تحت ذريعة محاربة الإرهاب؛ ولتستكمل جريمتها وتنتقل من الحرب غير المباشرة إلى الحرب المباشرة وتغزو العراق في 20 أذارعام 2003م بقوات كبيرة لم تشهدها الحروب الحديثة [ 263000 مقاتل / 1820 طائرة / 3500 دبابة ]، وتساندها في هذا الغزو حليفتها بريطانيا تحت ذرائع شتى سرعان ما انكشف زيفها وفي مقدمتها امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، وتعاون نظام الحكم مع تنظيم القاعدة آنذاك، ثم تذهب إلى العذر الأسهل والعام وهو نشر الحرية وتكوين نموذج ديموقراطي وفق الرؤية الأمريكية، وتستهدف العراق أرضا وشعبا وفي أهم ركائز بناء الدولة وهي الجيش والقضاء والاقتصاد، وتفتيت النسيج المجتمعي العراقي على أسس طائفية وقومية وعرقية، وتحتل العراق، وتُدّمر جميع مؤسساته، وتحلّ الجيش العراقي بقرار من حاكمها بول بريمر في آيار عام 2003م، وتُسارع الدولة الجارة الصفراء [إيران الفارسية] إلى الاشتراك بجريمة تجريف الدولة لضمان عدم قيام دولة عراقية مستقلة، لذلك ومن باب رد الجميل من قبل واشنطن للدور الإيراني في احتلال العراق أعطت طهرانَ امتياز الاشتراك معها في رسم نظام حكم هجين في العراق في خطوة واضحة لاقصاء أطياف معينة من الشعب العراقي، ولاعتماد نظام طائفي مبني على المحاصصة؛ لتسير عليه جميع حكومات الاحتلال المتعاقبة، ولتبدأ مراحل التدمير ووصفحات الخراب التي استهدفت الوطن أرضا وشعبا ولتستبدل العراق كدولة مؤسسات بسلطة أحزاب متأسلمة ومليشيات، ولتُوازي خطوات تدمير المؤسسة العسكرية وما تحمله من انتصارات ومعاني كبيرة، خطوات أخرى في بناء جيوش هجينة مليشياوية متعددة الآباء والولاءات والرايات، ولتدمّر البوابة الشرقية والحصن المنيع للوطن العربي، ولتفتح أبواب الشر ليس على العراق فحسب بل على المنطقة كلها، ولتعتمد واشنطن استراتيجية الدعم والاسناد السياسي والعسكري لسلطات الاحتلال وأدواته ابتداءً من تشكيل تجمعات من المليشيات والدمج والفاشلين عسكريا واحتوائهم في ضمن مسمى [الجيش العراقي] إلى التجهيز والتسليح والتدريب والمستشارين والمشاركة المحدودة والمنح والهبات والقروض المالية. لقد واجهت الاستراتيجية العسكرية الأمريكية بعد احتلال العراق تحديات وصعوبات كثيرة في مقدمتها صخرة المقاومة العراقية ذات السفر الطويل المشرّف التي امتازت بسرعة انطلاقها لتكشف زيف ما روج له عملاء الاحتلال بترحيب العراقيين بهم، وليتكسّر عليها المشروع الأمريكي وتعبية انتشاره العسكري في العراق، فقد استطاعت أن تقوض أسلوب عمل قواته في الأرض المفتوحة، وحرية حركته إلى التحصن في القواعد العسكرية ثم أجبرته بعد ذلك إلى تقليل تواجده، ثم هروب أغلب قواته خارج العراق؛ لتتحول خطته التي طالما تبجح بها [دونالد رامسفيلد] وزير الدفاع الأمريكي آنذاك من [الصدمة والترويع] إلى [الفرار نحو الديار] في كانون الثاني/ ديسمبر 2011م وهذا أول تغيير في الاستراتيجية العسكرية الأمريكية وهو تغيير إجباري فرضته المقاومة العراقية في ضمن الصفحة الأولى من سفرها في مواجهة الاحتلال، ولهذا لا ينحصر فضل المقاومة العراقية على العراقيين فحسب، بل يتعداه إلى الأمة العربية والإسلامية في مواجهة مشروع الاحتلالين الأمريكي والإيراني وإيقافهما. الاستراتيجية الأمريكية في مواجهة الثورة الشعبية في المحافظات السنّية: بعد التقليص الإجباري للقوات الأمريكية وتخفيض عديدها بشكل كبير استلمت طهران الموافقات الضمنية بسد الفراغ الأمريكي، وشرعت بتعزيز وجودها العسكري والأمني والسياسي والاقتصادي والثقافي والإعلامي، كما وسّعت أحزاب العملية السياسية وأذرعها المليشياوية حربها المتنوعة والشاملة بالتهميش والإقصاء والاستهداف لكل الرموز والشخصيات الدينية والوطنية، وضباط الجيش العراقي، والكفاءات الرافضين للاحتلال وعمليته السياسية، بل شملت ما يسمى برموز الأحزاب السنية الطائفية منها والعلمانية، في ظل استمرار وصول قوائم التصفية والاغتيالات من إيران؛ من أجل أن تنفذها مليشيات هذه الأحزاب وعلى رأسها مليشيا بدر والعصائب؛ وليمتدّ الاستهداف القضائي المسيس لأهل السنة جميعًا بمادة قضائية وضعت خصيصا لهم وهي المادة "أربعة إرهاب" حتى ذهب بعضهم لتسميتها "أربعة سنة"، ومن هنا جاءت التظاهرات في المحافظات الست [نينوى – التأميم - صلاح الدين – ديالى – بغداد – الأنبار] في أواخر كانون الأول عام 2012م مطالبة بالحقوق المسلوبة، وإنهاء التصفية المنهجية والإقصاء الطائفي، فواجهتها سلطة المنطقة الخضراء بالاستهداف الإعلامي ووصفتها بأوصاف واتهامات هي بعيدة عنها كل البعد؛ لتتطور التظاهرات بعد ذلك إلى اعتصامات بعد تجاهل المطالب والحقوق وهنا جاءت الأوامر الإيرانية باستخدام السلاح؛ لفضها ولترتكب الجرائم والمجازر البشعة بحق المعتصمين وفي مقدمتها مجزرة الحويجة في 23 نيسان 2013م، وكانت هنا الاستراتيجية الأمريكية تسير وفق رؤية المتفرج وترك المجال لإيران وسلطتها الطائفية بتصفية الحسابات ثم التدّخل في الوقت المناسب، ثم تأتي حادثة فض اعتصامات الرمادي بالسلاح في أواخر عام 2013م بعد سنة من الاعتصام السلمي الملتزم بضوابط التظاهر والاعتصام، ثم يتحول المعتصمون السنّة من السلمية إلى الثورة المسلحة مجبرين على ذلك؛ للدفاع عن أنفسهم ومدنهم من جيش المالكي ومليشياته، وتبدأ الصفحة الثانية من انتصارات المقاومة العراقية، ولكن هذه المرة في مواجهة أدوات الاحتلال، وتستمر الانتصارات العشائرية وفصائل المقاومة الإسلامية والوطنية التي هددت مشروعي الاحتلال الأمريكي – الإيراني، وتصدر الأوامر هذه المرة من كلا الاحتلالين لأحزاب المنطقة الخضراء الطائفية الشيعية والسنّية بتفكيك هذه الانتفاضة المسلحة وإلباسها لباس الإرهاب، ويتعزز كل هذا بسيطرة تنظيم الدولة على محافظة نينوى في حزيران 2014م وتفرّده بالثورة المسلحة وفقا لأيديولوجيته الخاصة به، فينأى ثوار العشائر بأنفسهم عن الساحة؛ لكي لا يكونوا مع هذا أو ذاك، وهنا ظهرت استراتيجية عسكرية أمريكية جديدة أخرى بتشكيل تحالف دولي يضم [60] دولة تحت ذريعة محاربة [الإرهاب]، فتغزو الأجواءَ العراقية الطائرات المختلفة الأنواع والجنسيات، فكان حزيران 2014م [سيطرة تنظيم الدولة على محافظة نينوى] النهاية المتوقعة والضربة المميته المقصودة لمؤسسة [الجيش] واستبداله بمليشيات الحشد الشيعي وهيئتها التي أعطيت الشرعية المذهبية بفتوى السستاني والشرعية القانونية بارتباطها برئيس مجلس الوزراء، ثم تُسرع واشنطن بتبنّي فكرة استمرار إدارة المعركة جوا بالاعتماد على أدوات برية مليشياوية يتم تغييرها حسب طبيعة المعركة والمرحلة وامكانية هذه الأدوات على إدارة المعركة في الميدان، ويتنقل أوباما بعد كل فشل استراتيجي عسكري بين المناقشة والتجديد لاستراتيجيته في محاربة تنظيم الدولة؛ لتناسب حجم التهديد بحسب إدعائه، وإدخال تغييرات عدة لمواكبة الحدث والتهديد والمعارك الاستنزافية التي فرضها تنظيم الدولة، وفي مقدمتها تكثيف الطلعات الجوية وتحويل مهامها من الاستهداف النقطوي المنتخب إلى اتباع سياسة الأرض المحروقة لأحياء ومدن كاملة منها جرف الصخر وتكريت، ثم يُستبدل جزء من مليشيا الحشد بمليشيات سنية[ حشد العشائر] على غرار مليشيا الصحوة للقتال في المحافظات الغربية والشمالية بعد أن فاحت ريح الجرائم والمجازر التي ارتكبتها مليشيا الحشد الطائفي في جميع المناطق التي دخلتها، مع استمرار التعبئة الجوية الأمريكية في تنفيذ الطلعات الجوية مستهدفة جميع المناطق السنّية وفي مقدمتها الرمادي والفلوجة والكرمة والقائم والحويجة والموصل بعمليات تجريد [عمليات التجريد في المفهوم العسكري لا تستخدم للمناطق الآهلة بالسكان، بل لخطوط الإمداد، واحتياطات القوات البرية في ضمن جبهات قتالية مفتوحة]، ثم القيام بعمليات إنزال جوي محدودة ذات أهداف معنوية أكثر منها تعبوية شمال العراق مع الاستمرار بالقصف الاستراتيجي سواء بالطائرات أو راجمات الصواريخ الهيمارز [هي راجمات صواريخ أمريكية تتألف من طاقم قتالي بعدد 33 شخصًا، ومدى الصاروخ فيها من 45كم – 70كم، ومزودة بنظام الGBS ويُمكنها إطلاق 6 صاروخ من عيار 22.7 ملم دفعة واحدة ]، هذا إضافة إلى سعي واشنطن لإدخال المزيد من أسراب طائرات تخصصية لحرب المدن وفي مقدمتها الطائرات المروحية الهجومية الاباتشي ذات الفاعلية الكبيرة وكذلك طائرات الإسناد القريب نوع [A-10 ] ذات الحمولة العالية مع تعزيز هذه الاسلحة بقوات محمولة جوا خاصة تمتاز بمرونة حركة كبيرة متمثلة بالفرقة 101 المحمولة جوا [الفرقة 101 المحمولة جوا الأمريكية: هي فرقة هجومية استراتيجية تأخذ أوامرها من الرئيس الأمريكي حصرا أو من يخوله وهي قادرة على نشر الآلاف من القوات لمسافات بعيدة، وتعرف باسم نسور الصاعقة بعدد 17000 مقاتل مع 280 طائرة مروحية من نوع الاباتشي والشينوك وبلاك هوك]، وقوات برية عديدة، وكتائب المدفعية. وتهيئة قواعد جوية وعسكرية في مقدمتها عين الأسد والحبانية وسبايكر وبلد، وتعود الولايات المتحدة إلى نظرية بوش الابن وهي "ضرورة وضع خطة لحضور عسكري أمريكي بعيد المدى في العراق وذلك بإنشاء قواعد عسكرية مع وجود قوات أمريكية لاتقل عن مئة ألف جندي، وأن يتم كل هذا من خلال اتفاقية بين البلدين"([2]). التظاهرات الشعبية بين العفوية والتسييس: الموقف العسكري في العراق متردٍ؛ لفقدانه أكثر من ثلثي مساحته وللفشل والإنهيار الأمني الداخلي وارتفاع نسبة الجريمة المنظمة بجميع أنواعها وأشكالها وغياب القضاء وسوء الأحوال المعيشية للفرد العراقي وزج أبناء المحافظات الجنوبية في حرب استنزافية لا تُعرف نهاياتها. وقُرِع جرس الإنذار ليتسائل العراقيون في المحافظات الجنوبية والعاصمة بغداد بعد إيهامهم بالوعود الزائفة طيلة الأعوام التي تلت الاحتلال الأمريكي، ماذا قدمت الأحزاب الطائفية الحاكمة منذ قدومها مع الاحتلال؟ وهل تبنت خلال مدة حكمها النظريات التي روجّت لها، ومفاهيم الإسلام الذي ادّعته والبست نفسها به؟ لذلك سرعان ما بدأ التذمر الجماهيري والشعبي منها، فبدأت المقارنة بين النظريات التي استندت عليها في أطروحاتها وبين التطبيق والواقع، ولم يعد خافيا عن العامة منهج العنف التي اتخذته هذه الأحزاب في عملها في العراق وحالة الترف الواضحة التي يتمتع بها قادة أحزاب الإسلام السياسي ومن لف لفهم بعد وعود زائفة يروّجون لها عند كل انتخابات، في الوقت الذي كان للأحزاب ذات الإسلام الصفوي سطوة وهيمنة على ثروات العراق جميعها في ظل بؤس يكتنف مَن وقف معهم وأيدهم منخدعا بلباسهم الديني وبما كانوا يدّعونه من التدين الذي وظفوه لحرق الحرث والنسل، وفي الوقت نفسه فإن هذه الامتيازات والسطوة قد شجعت كثيرًا من المؤسسات الدينية الأخرى للخروج من صومعتها لتمارس السياسة والاستحواذ على المناصب السياسية وتعددت المرجعيات والمليشيات ذات العناوين الطائفية والتي كانت جميعها تسير وفق الإرادة الإيرانية وتنفذ أوامرها في ضمن المفهوم العسكري [رغبات القائد أوامر] مع السماح لكل حزب بالحركة في ضمن حيز مخصص له يتمكن من خلاله تحقيق مصالحه، وتوظيف الملفات لخدمته منها الامني أو العسكري أو السياسي أو الاقتصادي أو الإعلامي، وبالرغم من افتضاح أمر هذه الأحزاب ودورها في الفساد وتدمير الدولة وتغييب مؤسساتها واستبدال القضاء بشريعة الغاب والجيش كسور للوطن بالمليشيات التي تنخر بالوطن، إلا أنها تصر على أنها حكومة ملائكية لا يجوز محاكمة رموزها الدينية ومحاسبتهم، وتمنح نفسها حصانة شرعية وقانونية لحماية مصالحها وتمرير مخططاتها الفئوية والمشاريع ذات التبعية الفارسية، وهكذا صارت [النخب السياسية] فوق القانون المغيّب وأصبحت السلطة بسبب ذلك منتجة للإرهاب بكل أنواعه وأشكاله. هذا التيه الذي فرضته منظومة الأحزاب الطائفية الفاسدة الإرهابية دفع العراقيين في المحافظات الجنوبية للخروج بتظاهرات واحتجاجات عفوية في 31 تموز 2015م فأسقطت عن الفاسديين الرمزية والتقديس ووجدوا أنفسهم بلا حماية دينية مسيسة اعتادوا عليها طيلة السنوات الماضية، فكانت هذه التظاهرات مكملة لتظاهرات المحافظات المنتفضة الست التي تم قمعها بالسلاح وارتكبت بحقها المجازر. وارتفعت حدة الشعارات المرفوعة وتوسعت لتشمل رموز هذه الأحزاب ومرجعياتهم الدينية، وهنا بدأ التهديد الفعلي للمشروع الأمريكي– الإيراني وأركان عمليتهم السياسية الهجينة، فيأتي دور مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري. لماذا مقتدى الصدر؟ وهل بات مقتدى الصدر المصلح في العراق؟ أم أن الصدر له مؤهل شعبي يحاول استثماره لمصالح شخصية ولديه موافقات أمريكية- إيرانية؟ هل ينوي الصدر الإطاحة بخصوم محددين؟ هل ستتغير خارطة الخصوم وشخوصهم ؟ ولماذا الصمت الأمريكي وخطر الاعتصامات اقترب من أبواب سفارتها؟ من المؤكد أن مقتدى الصدر ليس الشخص المؤهل لإعادة الوضع العراقي إلى حالته الطبيعية، ولو أردنا أن نتعامل بظاهر الأمور والتوبة المتأخرة ونقول إن مقتدى الصدر ربما اكتشف أخيرا أن إيران تعارض قيام أي دولة مؤسسات عراقية لا مكان فيها للمليشيات الطائفية، وربما أدرك معاناة أنصار تياره على أقل تقدير، ولا نريد أن نتفائل كثيرا ونقول جميع العراقيين، وأنه بدأ ينسلخ من التبعية الإيرانية باتجاه أمريكا ونعزز هذا بتصريح زلماي خليل زاده [السفير الأمريكي السابق في العراق] نقلا عن صحيفة وول ستريت جورنال "إن توسع تنظيم الدولة في العراق حفّز كثيرًا من العراقيين إلى التعاون مع أمريكا وزعماء شيعة خاب ظنهم بإيران وتريد التعاون مع أمريكا، وهناك استياء كبير من الزعماء العراقيين من الهيمنة الإيرانية والمليشيات". فهل بناء دولة حديثة يمكن أن يمر بأشخاص من هذا النوع لا يفقهون شيئا عن أسس بناء الدولة الحديثة، وهو زعيم أول مليشيا مسلحة طائفية انشطرت منها عدة مليشيات إرهابية؟! وما الذي فعله العبادي للشعب العراقي لينهي الصدر اعتصامه؟ دائما يعول محتلو العراق [أمريكا وإيران] على مقتدى الصدر بشكل رئيس ويليه عمار الحكيم بالحفاظ على العملية السياسية، ولكن ليس الحفاظ على الشخوص، وجميعنا يتذكر موضوع سحب الثقة عن المالكي عام 2012م وكيف أمهله ثلاثة أشهر للتمييع وإفشال موضوع سحب الثقة، ونتيجة لهذا الدور فالأمريكان هم من يحافظون على مقتدى الصدر لأنه الورقة الرابحة والمخلّص، والذي سيكون الأداة الجديدة لهم في العراق ولأسباب عدة منها، امتلاكه قاعدة شعبية يتحكم فيها ولديه مليشيات مسلحة كانت الأساس في إنجاب مليشيات عدة منها عصائب أهل الحق، وحزب الله، وهذا يخدم الولايات المتحدة بإيجاد قوة تناهض أهل السنة الرافضين للاحتلال، إضافة إلى عدم قدومه في ضمن الأحزاب التي جاءت مع قوات الاحتلال، ومن جهة المقارنة بينها فإن التيار الصدري تميل الكفة إليه نظرا لامتلاكه حاضنة شعبية أوسع من الآخرين، وآل الصدر هم مرجعية دينية لحزب السلطة المتمثل بحزب الدعوة مع تساوي جميع الأطراف في قضية امتلاك المليشيات المسلحة ومناصريها في الأجهزة الامنية والحكومية، ناهيك عن امتلاك واشنطن مذكرة اعتقال بحقه بتهمة اغتيال الخوئي كورقة ضغط لإبعاده عن الموقف السياسي متى ما تشاء؛ لذلك واشنطن لا تفرط به، وما حدث مع بداية التظاهرات وتصاعد وتيرتها وطرقها لأبواب الفساد في ضمن دائرة الإسلام السياسي ومراجعهم، أعلنت مرجعية النجف المتمثلة بالسستاني الصمت السياسي وفسح المجال للتيار الصدري لينتهج سياسة التسلل التدريجي إلى التظاهرات انطلاقا من الكلام العام إلى التشخيص والتخصيص، ثم إلى التبرؤ الشكلي من المشتبه بفسادهم من عناصر التيار الصدري، ثم إلى طرح مشاريع متتالية لغرض الإصلاح، ثم مرحلة الاعتصام المؤقت الذي انتهى بمدة زمنية لا تتجاوز الأسبوع دون تحقيق شيء، ثم ينقل الاعتصام إلى مجلس النواب عن طريق التيار الصدري، لتبدأ فصول التجاذبات الحزبية تحت غطاء إنهاء المحاصصة ويرافقها زيارة مقتدى الصدر والمالكي وممثل السستاني لزعيم حزب الله في بيروت، الذي هو في حقيقة الأمر ليس لحل الخلافات المصطنعة بين أحزاب السلطة، بل لغرض فك الحصار عن حزب الله اللبناني الذي فرضته الدول الإسلامية والعربية والخليجية باعتباره منظمة إرهابية، من خلال جعله لاعبًا رئيسًا في الملف العراقي، فسيناريو ركوب مقتدى الصدر موجة التظاهرات وتزعّمه لها وتنصيب نفسه ممثلا للشعب وحامل هموم المواطن كان في ضمن خطة مُحكمة لإنقاذ أحزاب الإسلام السياسي في العراق خدمة لإيران، ثم الإبقاء على العملية السياسية خدمة للولايات المتحدة على أقل تقدير خلال مدة حكم أوباما التي شارفت نهايتها، عن طريق تفتيت صفوف التظاهرات وأصوات الاحتجاج ضد رموز الفساد والفشل والمحاصصة وتشتيتها، فقد استطاع أن يحول الصراع الشعبي العفوي مع السلطة الفاسدة إلى نزاع بين أطراف السلطة على المناصب والامتيازات في ضمن أطر المحاصصة، ولهذا كانت الأوامر الصادرة واضحة للمرجعية السيستانية بالانزواء تحت عنوان [الخطب الدينية فقط ولا تتناول السياسة] الذي تدّخل في جميع مفاصل السلطة وقراراتها، لفسح المجال لمقتدى الصدر بأن يتحرك بحرية أكبر وهذه هي سياسة التناوب بين السيستاني كمرجعية رمزية ومقتدى الصدر كمرجعية شعبية، وهذا يذّكرنا بانزوائه مرتين سابقتين الأولى عند احتلال العراق وكانت موافقة ضمنية على دخول الاحتلال، والثانية عند المواجهات العسكرية مع جيش المهدي في النجف وسفره خارج العراق، وهنا يتضح دور المرجعية الشيعية في النجف بالحفاظ على المشروع الأمريكي وفق عراق الحكم الشيعي الطائفي ذي التبعية الفارسية، وهذا في ضمن الاتفاق الأمريكي– الإيراني بعد مساعدة طهران ومراجع النجف على احتلال العراق بأن يعتمد عراق شيعي جديد وفق مبدأ الأكثرية الشيعية في ظل الحماية العسكرية الأمريكية، ولكن كل هذا لا يمنع من أطماع الأحزاب الطائفية وزعاماتها للتفرد بالسلطة، واستغلال الفرص ولكن في ضمن المسموح الأمريكي والإيراني، وهذا الدعم الأمريكي– الإيراني هو انقاذ سلطة الحكم من الشعب، ولهذا ليس مقتدى الصدر رجلَ الإصلاح كما يُروّج له؛ لان الرؤية المنطقية والواقعية الأكيدة هي أن الإصلاح في العراق لا يمكن أن يقوم به شخص لا يعرف شيئا عنه، وفاقد الشيء لا يعطية. الاستراتيجية الأمريكية الجديدة وفق الثوابت والمتغيرات السياسية: في عراق اليوم سوف تكون الاستراتيجية السياسية للولايات المتحدة الأمريكية مبنية على التغيير التدريجي في شكل السلطة من خلال زج أسماء توحي بأنها وطنية من أحزاب علمانية و[مستقلين] بعد أن وجدت أن ما جاءت به من قوى لا يشكلون بالمفهوم الوطني العراقي الحل الذي يبحث عنه العراقيون، وبما أن الأمريكان هم من صنعوا أدوات الجريمة المتمثلة في الأحزاب الطائفية المرتدية ثوب الدين وهيأوا ظروف ارتكاب الجريمة وأغفلوا وتغافلوا عن مرتكبيها، لذلك هي تستبدل الأدوات وفق الضرورات الزمنية ومتطلبات الموقف دون التخلي عن استراتيجيتها ومشروعها في المنطقة ولكنها تعمل على إيجاد توافقات سياسية جديدة تساعدها على التغلب على الرفض الشعبي الداخلي والإقليمي لعمليتها السياسية الهجينة بإدارة مسرحيات سياسية أدواتها أحزاب العملية السياسية، بمعنى أن الولايات المتحدة تحاول إيجاد واجهات سياسية جديدة تحافظ من خلالها على أهدافها ومصالحها، وقد يكون عن طريق زج شخصيات تابعة لها ترتدي ثوب التكنوقراط والاستغناء عن شخوص أدواتها القديمة بعد افتضاح أمر فسادها وخرابها داخليا وإقليميا ودوليا، وهذا التغيير ليس بالضرورة أن يكون الآن ودفعة واحدة، بل تدريجيا وبفصول مسرحية تتناسب مع المرحلة الراهنة، وهذا هو المتوقع وكل هذا يوصف وفق مبدأ توافق الأدوات مع الغايات بحسب ظروف المرحلة، ثم التوجه إلى العلمانية بحسب المنظور الأمريكي وهذه غاية أمريكية - صهيونية - فارسية، فهذا الثالوث له استراتيجية في تدمير المسلمين والعرب وبمختلف الأجندات سواء الإرهاب أو التطرف أو الطائفية أو العرقية أو القومية، مع الحفاظ في هذه المرحلة على رأس السلطة حيدر العبادي رئيسا لمجلس الوزراء ودعمه وإسناده وهناك دلالات عديدة على ذلك منها التوقيت لزيارة الوفد الأممي والدولي الكبير للعراق يوم 26 أذار 2016م متمثلة بالأمين العام للأمم المتحدة ورئيس البنك الدولي الذي منح حكومة العبادي 250 مليون دولار ورئيس بنك التنمية الإسلامي مع تعهد المجتمع الدولي بدعم العراق ومساندته اقتصاديا وسياسيا وأمنيا، وزيارة المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي أوباما لمكافحة الإرهاب بريت ماكغورك والزيارات المكوكية للسفير الأمريكي [ستيوارت جونز] لجميع الكتل السياسية وإقليم كردستان وقدوم وزيري الخارجية والدفاع الأمريكية وزيارات عسكرية ودبلوماسية للعبادي إضافة للقائد الفعلي لهذة الأحزاب [قاسم سليماني] وسفير طهران في العراق، وجميعهم لغرض دعم العبادي وخططه التضليلية في الإصلاح والتغيير سواء بالترغيب أو التهديد، وإسناده عسكريا بحسم النصر الميداني وتحقيقه على تنظيم الدولة في مناطق معينة وفتح معارك ميدانية أخرى مستمرة لتوظيف الملف العسكري بنوعية المعارك المحسومة والمفتوحة في دعم العبادي وبقائه في السلطة. مطابقة الهدف مع الامكانيات المتاحة من مباديء الاستراتيجية العسكرية هي أن يتم مطابقة الهدف مع الإمكانات المتاحة، وخلال الحروب عليك أن تجعل الغايات متوافقة مع الوسائل، وأمريكا اعتمدت في تحقيق غايتها على عدة وسائل أثبتت فشلها تحت عنوان المليشيات بجميع مسمياتها هذا الفشل في تطابق الغاية مع الوسيلة انعكس على الاستراتيجية العسكرية الأمريكية في ظل حرب استنزاف كبيرة قادها تنظيم [الدولة الإسلامية]، إضافة للتدخل والتمدد الروسي السريع في المنطقة وتصاعد العمليات العسكرية لتنظيم الدولة في دول أوربا وفرض حالة الإرباك الأمني على جميع الأجهزة الأمنية الدولية، مما دفع واشنطن لاستحداث استراتيجية فاعلة في المنطقة عامة والعراق خاصة تمكنها من أن تعيدها إلى ساحة الصراع والتنافس العسكري، ثم إعادة همينتها على المنطقة من جديد بعد أن بدأت ملامح فقدانها واضحة في ظل تسابق دول المنطقة باتجاه موسكو، ومن هنا بدأت ملامح عودة الاحتلال الذي هو في الحقيقة اعادة انتشار وتعزيزه؛ لان الاحتلال لم يخرج بل قُوِّض وجوده نتيجة استهدافه من المقاومة العراقية آنذاك، وتوالت الدعوات الأمريكية من جميع المستويات العسكرية وسيناتورات مجلس الشيوخ وفي مقدمتهم نواب الحزب الجمهوري الأمريكي الذين اتفق كثير منهم على فشل الاستراتيجية العسكرية الأمريكية في العراق وربطوا الفشل بالتردد الأوبامي، دعوا إلى إرسال المزيد من القوات الأمريكية إلى العراق ولكي يبدأ البنتاغون بضخ القوات الأمريكية والأسلحة والمعدات تباعا تحت ذريعة محاربة [الإرهاب]، وتصريح (جوزيف دانفورد) رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة خلال مؤتمر مشترك مع (آشتون كارتر) في آذار 2016م أكد فيه "من الضروري إرسال المزيد من القوات الأمريكية للعراق، قسم منها لحماية السفارات وقوات أخرى لقتال تنظيم الدولة، وإن الرئيس الأمريكي (باراك أوباما) أمر بزيادة عدد القوات الأمريكية في العراق بناء على توصيات قدمها إليه وزير الدفاع (آشتون كارتر) بالاستفادة من النجاحات الأخيرة التي تحققت في ساحات المعارك ضد تنظيم الدولة كاستعادة القوات الحكومية مدينة الرمادي أواخر العام الماضي ومدن أخرى في ضمن محور الفرات والآن يتم التركيز على المرحلة التالية من الحملة وهي الموصل"، موضحًا أنه تم استخدام وجود موقع للمدفعية مجهز بأربعة مدافع من عيار 155ملم مع 200 عنصر من قوات المارينز في مخمور، ويأتي هذا الاعتراف بعد مقتل أحد جنود المارينز وجرح آخرين في مخمور جنوب شرق الموصل 65كم نتيجة استهداف موقع انفتاحهم بالصواريخ من قبل تنظيم الدولة في منتصف آذار 2016 وهو الجندي الأمريكي الثاني الذي يقتل منذ بدء حملة التحالف الدولي بعد أن قتل الجندي الأول في تشرين الأول 2015 خلال عملية إنزال شنتها القوات الخاصة الأمريكية على سجن تابع لتنظيم الدولة في الحويجة التابعة لمحافظة كركوك شمال العراق، لذلك، اليوم أوباما متحيّر بين إنهاء ولايته دون ترك جندي أمريكي خلفه في العراق من جهة، وبين الحفاظ على مشروع الولايات المتحدة في ظل التسارع في الأحداث السياسية منها والعسكرية. وهناك ثوابت لا يختلف عليها اثنان، العراق لا يزال تحت الاحتلالين الأمريكي والإيراني وكل له مشروعه ولكن كلاهما متفقان على الخط العام وفي ضمنه حماية عمليتهم السياسية وإن تباينت الأدوات وطرق التنفيذ ، فالعراق اليوم يُسيّر وفق مشروعين: أحدهما خارجي، والآخر داخلي، الخارجي متمثل بالولايات المتحدة الأمريكية وإيران، فواشنطن غايتها الحفاظ على عمليتها السياسية دون الاكتراث للشخوص والأدوات، وطهران تريد بقاء السلطة بيد أحزابها الطائفية بثوب التشيّع للحفاظ على حكم الإسلام السياسي الشيعي ذي التبعية الإيرانية، أما المشروع الداخلي فهو خاص بالأحزاب الفئوية وأقطابها الثلاث حزب الدعوة [نوري المالكي] والمجلس الأعلى [عمار الحكيم] والتيار الصدري[ مقتدى الصدر]، والحزب الإسلامي يتأرجح بينها حسب مصالحه الشخصية، لذلك، فإن أمريكا لا ترفض الاحتلال الإيراني للعراق بل تتفاهم وتتفاوض معه، وهي من صنعت اللعبة وسلمت خيوطها لطهران وأقوال كليهما في الإعلام يتنافى مع أفعالهما على الأرض، وهذا ما شاهدناه عند اختطاف المقاولين الثلاثة حاملي الجنسية الأمريكية في بغداد في 18 كانون الثاني2016م وكيف تفاوضت أمريكا مع إيران لإطلاق سراحهم، لذلك إيران هي الحاكم في العراق وبموافقة أمريكية، وهذا ما أكده الأمين العام لهيئة علماء المسلمين في العراق حيث قال" إيران تحتل العراق كاملا وتُسيّر أموره بطريقة مباشرة من خلال قوى وأحزاب ومليشيات ومرجعيات دينية وأدوات تنفيذية أخرى، والقيادات الإيرانية العسكرية والأمنية تسرح وتمرح في العراق بارتياح تام وتقود المعارك بشكل واضح، والوصف الدقيق لما يجري في العراق هو احتلال إيراني غير معلن واستمرار لحالة الاحتلال الغربي بشكل آخر"([3])، ومن الثوابت الأخرى فإن الاستراتيجية العسكرية الأمريكية قد فشلت بجميع مراحلها في العراق، ولهذا تذهب واشنطن بين حين وآخر لتغيير غاية هذه الاستراتيجية وأهدافها ابتداء من القضاء على تنظيم الدولة إلى تحجيم التنظيم وبعد هذا التحجيم تحول إلى إيقاف تمدد التنظيم ثم وصلت هذه الاستراتيجية إلى أهداف تعبوية، بل ذهبت لأهداف معنوية كالسيطرة على مدينة الرمادي وغيرها من مدن محور نهر الفرات ثم هبطت غاية استراتيجيتها إلى استهداف قيادات تنظيم الدولة الإسلامية، وبهذا فان خطتها انتقلت وتقلصت من الاستراتيجية إلى التعبوبة وفي بعض الأحيان إلى العملياتية، وعليه ستستمر هذه المعارك الاستنزافية لمدة طويلة، ونتائج إطالتها هي فقدان القوات الحكومية [وقود المعركة]على التركيز في القتال وانخفاض المعنويات وفقدان روح القتال وتدهور موارد الدولة وانهيار الاقتصاد والمزيد من الخسائر البشرية والأسلحة والمعدات وارتفاع نسبة الانتهاكات والجرائم بحق المدنيين وممتلكاتهم، كل هذا أدى إلى تراجع سمعة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم عموما والعالم الإسلامي خصوصا نتيجة الاستخدام المفرط للقوة العسكرية والمعايير المزدوجة في المواقف والأفعال التي تبنتها وفق سياسة الكيل بمكيالين، ومن الثوابت محاولة واشنطن جعل العراق ندا طائفيا لدول المنطقة سعيا منها لتفكيك الأمة السنّية في المحيط العربي التي تشكل تهديدا مستقبليا على الكيان الصهيوني، ولذلك دعا أوباما مؤخرا دول الخليج العربي إلى التعاون مع إيران وأن لا تعتمد على الولايات المتحدة دائما، وفق هذه الثوابت والانفاق المتزايد للولايات المتحدة الأمريكية والتي تقدر بـ[11] مليون دولار يوميا بحسب تصريح الناطق باسم قوات التحالف في العراق [ستيف وارن]، وما يحدث اليوم من متغيرات أمنية واضطراب في المناخ السياسي وانتقال الأحزاب الطائفية من مرحلة المصالح المحدودة إلى مرحلة الاستحواذ على السلطة بالكامل عن طريق توظيف الملف السياسي والأمني المليشياوي بالاستفادة من حاضناتها الشعبية والتلويح باستخدام القوة، فقد رسمت الولايات المتحدة الأمريكية استراتيجيتها العسكرية الجديدة في العراق التي تنبع من الرغبة في بسط الهيمنة واستمرارها والذي لا يقتصر على أهمية التحكم في مصادر الموارد الطبيعية [النفط ] فقط، بل ضرورة الاحتفاظ بقواعد عسكرية دائمية واستخدامها في الوقت والمكان المناسبين وبحسب الضرورة العسكرية والسياسية، وهذا نتيجة لاتساع الحيز الجغرافي لمفوم الحيوية الأمريكية الذي يفرض على الولايات المتحدة تبني استراتيجيات متعددة لمواجهة التهديدات المختلفة الأنواع والاتجاهات، ومفهوم المصالح الحيوية الأمريكية يرتبط ارتباطا وثيقا بالأمن القومي الأمريكي، لذلك هو يحدد الاستراتيجية العسكرية للولايات المتحدة، ومن أجل حماية هذه المصالح والوقوف بوجه التحديات المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط عامة والعراق خاصة يُوجب عليها إيجاد نوع من التكامل العسكري الاستراتيجي سواء على مستوى القوات أو التسليح يتناسب مع حجم التهديد، وهذا يتطلب تامين قواعد عسكرية تستوعب هذا الكم المتزايد من العدة والعدد، ولكي ينبثق من هذا التكامل الاستراتيجي تكامل تعبوي خاص بمحاربة تنظيم الدولة الذي تسعى واشنطن من خلاله تحقيق نصر جزئي وليس كلي، وتوظيفه في دعم موقف العبادي وتعزيزه أمام نزاع الأحزاب السلطوية الطائفية؛ ولكي يبقي باب [الإرهاب] مفتوحا أمامها لإرسال المزيد من التعزيزات العسكرية، وتنفيذ عمليات الإنزال الجوي المتعددة وخاصة في ضمن محافظة نينوي والتأميم، وهناك دلائل ومؤشرات تدل على نية أمريكا إرسال ترسانتها العسكرية من جديد إلى العراق منها: *زيادة الميزانية العسكرية الأمريكية بنسبة 35%. *إنشاء قواعد عسكرية جديدة وإعادة تاهيل قواعد أخرى كالحبانية وعين الأسد وسبايكر. *زيادة عدد المتعاقدين الأمريكان لثمان أضعاف خلال عام 2016. *الزيادة المستمرة في عدد القوات الأمريكية بمختلف صنوفها وتسليحها والتزايد المستمر في طائرات الاباتشي مع إدخال السلاح السوقي المتمثل بالطائرات القاصفة[B_52] لميدان المعركة. *الزيارات المكوكية للقادة العسكريين الأمريكيين للعراق. ولو قارنا نوع السلاح وكميته وعدد القوات المتزايد مع عدد تنظيم الدولة في العراق وتسليحه سنجد هناك تباينًا في ميزان القوى وهذا الكم والنوع لا يتناسب مع متطلبات المعارك القادمة، لذا فإن الهدف الاستراتيجي لا ينحصر بمحاربة تنظيم الدولة، بل يتعلق بالوضع السياسي العام في المنطقة والعراق بشكل خاص في ظل التهديدات المستمرة للمليشيات التي وصلت إلى مرحلة التغول وانتقالها من مرحلة النفوذ المحدود إلى مرحلة الانقلاب والسيطرة على السلطة كاملة والذي من المتوقع أن تقوم بتوسيع دائرة التفجيرات والاغتيالات والتصفيات والتي ستتقاتل فيما بينها، وقد يؤدي هذا الصراع بنظر واشنطن إلى ضياع عمليتها السياسية، ومن هنا يكون تعزيز الولايات المتحدة لقواتها القتالية واستقدام ترسانتها الحربية هو نوع من التلويح بالقوة والتهديد لإيران التي قد تسول لها نفسها لتخرج بأطماعها عن التفاهمات الأمريكية السابقة وتتلاعب بأدواتها في العراق، وكذلك لكل المليشيات التي ستبقى الأداة التي تهدد العملية السياسية بانقلابها عليها والتي تحاول أن تربك هذه العملية أو تهدد وكيل واشنطن الحالي حيدر العبادي، ثم تركيزها على السمفونية المتكرر بتوظيف الملف الطائفي في مناطق حزام بغداد وديالى، والملف العرقي في الطوز وقرى البشير مع البشمركة وتوظيف هذا كله كورقة ضغط وأدوات للتفاوض وجني المكاسب. وواشنطن من خلال استراتيجيتها العسكرية الشاملة الجديدة تعيد تسللها من جديد إلى العراق الذي أبتدأته جوا بتحالف دولي ستيني، ثم التحصن في القواعد العسكرية تحت مسمى المستشارين والمدربين ثم القوات المحمولة جوا وقوات العمليات الخاصة ثم تهيئة قواعد عسكرية واعادة تأهيلها وانشائها؛ لتستوعب الانتشار العسكري الأمريكي البري الجديد ثم المشاركة الفعلية البرية؛ ولتكون استراتيجيتها العسكرية متكاملة الأطراف في التخطيط والتنفيذ والتقيم، مع الإبقاء على بعض مدن محافظة نينوى والأنبار ورقة تناور بها حسب متطلبات الموقف السياسي، وكل هذا من أجل حماية مشروعها في العراق وفرض هيمنتها وإبقاء جميع المعارك خارج حدودها من خلال جعل العراق منطقة تصفية حساباتها الدولية والإقليمية وتنفيذ مشاريعها، وهنا نذكر قول مدير الاستخبارات الأمريكية السابق مايكل هايدن في مقابلة تلفزيونية في واشنطن يوم 26اذار 2016 قال: " لابد من نقل المعركة إلى الأراضي التي يتمركز فيها تنظيم الدولة خارج حدود الولايات المتحدة الأمريكية". ومن جانب آخر ربما تلجا واشنطن من خلال وجودها العسكري المتنوع من تفعيل ملفها الأمني والاستخباري فتقوم باستهداف زعامات هذه المليشيات وتصفيتهم أو مطاردتهم قانونيا بما لديها من ملفات تدين جميع هذه الزعامات المليشياوية وإرسالهم إلى طهران مجبرين لا مخيرين، لانها [واشنطن] تدرك جيدا أن المواجهات بين هذه المليشيات واقعة لا محال، وهي لا تريد المجازفة بعمليتها السياسية في هذه المرحلة الحرجة من ولاية الرئيس الأمريكي أوباما، أي: بمعنى آخر ترحيل الأزمات في العراق إلى الرئيس الأمريكي الجديد، وهذا أيضا يخدم مشروعها بالحفاظ على الاضطراب السياسي والأمني في العراق والذي ينعكس تأثيره على منطقة الشرق الأوسط. وفي النهاية لن يكتب النجاح لهذه الاستراتيجيات المتغيرة والمتجددة لاعتمادها على حلول ترقيعية وأدوات تشترى وتباع من هذا وذاك، بعد أن ملئت أرض المنطقة وسمائها بالجيوش المتعددة الجنسيات، والطائرات المختلفة الرايات، ومنها: بريطانيا، واستراليا، وبلجيكا، وكندا، والدنمارك، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وهولندا، وإسبانيا، إضافة للاحتلالين الأمريكي والإيراني، فيتحول العراق من احتلال إلى احتلالات، وتُرتكب المزيد من الجرائم بحق أهلنا في المحافظات المنتفضة السنّية وفق استراتيجية معدة مسبقا؛ لتضع أهل السنة أمام خيارين أحلاهما مر: إما القبول بالتقسيم وفق الإرادة والمشروع الأمريكي وتفترس العراقيين طائفيا وعرقيا، أو القبول بالاحتلال الإيراني ومشروعه الفارسي التوسعي باستباحة المحافظات السنيّة وتهجير أهلها وتغييرها ديموغرافيا، إن ما يجري ليس خططًا عسكرية بل توظيف الاستراتيجية العسكرية لتنفيذ مشاريع شمولية متمثلة بالهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط والمشروع الصهيوني من الفرات إلى النيل والمشروع الفارسي التمددي التوسعي في المنطقة. وعليه فمهما تنوعت الغايات والأهداف وتباينت الاستراتيجيات بين التجديد والتحشيد والترغيب والتهديد يبقى تفسيرها الوحيد هو عودة الاحتلال الأمريكي بشكل جديد.