مختصر كتاب | التَعايُش بَين الأعْراق والدِيانات والمَذاهب في ظِلِّ الحُكـم الإسـلامي

سهيل عبد الله السردي

إنَّ مِن أظهَرِ مَلامِح الخَليقة التي أبدعها الله تبارك تعالى: التنوع والاختِلاف في الأجْناس والألوان، والخصائِص والسِّمات، على تقديرٍ أوجبته حِكمَة الباري سبحانه، وكمال قُدرته وتمام رحمته، وشاءت حِكمَة الله سبحانه أن تكون الخلائِقُ زَوجيَّةً في عمومها، ليحصل بينها التَعارُف والاختِلاط والتزاوج، كما ذكَر الله تبارك وتعالى استواء الناس في أصْل النشأة، فهُم مخلوقون مِن ذَكَر وأنثى، ثم انتشروا وصاروا أمماً وشعوباً وقبائل، وبيَّن سبحانه الحِكمَة مِن ذلك؛ فقال: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا( [الحجرات:13] فاللام في قوله: )لِتَعَارَفُواْ( لام التَعليل، والأصْل: لتتعارفوا..، فالتَعارُف هوَ العِلَّة المُشتَمِلة على الحِكمَة لقولِه: )وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ(([2]).

وَلفظ ((التَعارُف)) ضِدُّ ((التَخالُف)) و((التَنافُر))، وهو يُرشِد بظاهِره - وكما في ميزانه الصَرفيّ - إلى التفاعُل، والتعامُل الذي يعني: الإفادَة، وتبادُل العلوم والمَعارِف والمنافِع، وهو ما تتحقق به مصالح الأفراد والشعوب والأمم، وحاجياتهم، وضروريات حياتهم.

والتَعارُف - بهذا المعنى – يؤَسِس لحالة التعايُش المجتمعي، مع وجود التباين والاختِلاف بكل أنواعه، والذي أوجبَته سُنَّة الله في خَلقه؛ وعلى أساس هذه الحقيقة نَظَّم الإسلام علاقة المسلم مع بني جِنسه مِن جميع المِلَل والنِحَل والديانات؛ أفراداً ومجتمعات، ووضع الضوابط الكامِلة لتلك العلاقة، داخل بلاد المسلمين وخارجها، وبما يتوافق مع فطرة الإنسان، واحتياجاته، وضروريات حياته.

بيان مفهوم التعايش وأهميته

أولاً: تعريف التَعايُش

التَعايُش - في اللُّغة - مُشتقٌّ من العَيْش، وهو: الحَياة، كما في ((لِسان العرب))، وعايَشَه: عاشَ مَعه، كقوله: عاشَرَه([3]).

وفي ((المعجم الوسيط)): تعايشوا: عاشوا على الألفة والمودة، ومنه: التعايش السلمي([4]).

أما التَعايُش - في الاصطلاح - فقد اختلفت عبارات الباحثين في تبيينه، والذي نراه: أنَّه القَبول بالعَيش مع المُخالف – غير المحارب - والرِضا بجواره، وموادعته، سواء كان الاختلاف معه عِرقيّاً أو مِلِّيّاً أو مَذهبيّاً، مع الإقرار بجميع ما يترتَّب على ذلك من حقوقٍ؛ شرعيَّة وقانونيَّة وعُرفيَّة.

ويلزم أن يكون هذا القَبول مُتبادَلاً بين الطرفين أو الأطراف المختلفة، ضمن المجتمع الواحد أو البلد واحد، أي: أن يكون لهؤلاء جميعاً الرَغبة المشتركة والاستعداد الذاتي للانتظام في سِياق هذا التَعايُش، ومراعاة ما يقتضيه من حقوق، وما يترتَّب عليه من لوازم.

والتَعايُش – بهذا المعنى – فِطرة إنسانيَّة، وضرورة حياتيَّة لا غنى عنها، وهو أمر لا يلغي الخصوصية العِرقِيَّة، أو الدينية والمَذهبيَّة، ولا يلتَبِس بأمر الاعتقاد، والولاء والبراء، ولكن يؤسِس لعلاقةٍ تصالحيَّةٍ بعيدةٍ عن العصبية والظلم والعدوان، مما يحقق الاستقرار والأمن المجتمعي، والذي هو مَصلحة دينيَّة ودنيوية لا بد من مراعاتها وصيانتها والمحافظة عليها.

ثانياً: أهمية الموضوع:

عني كثيرٌ من الدارسين والباحثين – في هذه العصور – بدراسة مَفهوم ((التَعايُش)) بين الأعْراق والمَذاهب والطوائِف والدِيانات في البلاد الواحدة، والبحث في الأسُس والقِيَم التي يقوم عليها هذا التَعايُش، ولعلَّ الدافع وراء ذلك يعود إلى نُشوء الفِتن المجتمعيَّة، وانتشارها وتفاقمها، وتأجُج الصراعات والحروب؛ العِرقيَّة، والمِلِّيَّة، وكذلك المَذهَبيَّة - ضِمن الديانة الواحدة -، في البلد الواحد، لأسباب مختلفة؛ داخلية وخارجية، الأمر الذي يُنذِر بتفكُك المجتمعات وتحلُلها، وخَراب الدُول وانهيارها، وضياع مصالح الشعوب وتبددها، مما بات يُقلِق وبشكل كبير أُولي العقول وذوي البصيرة، ويدعوهم بقوة إلى وضع المعالجات الشرعيَّة والعقليَّة لأسباب تلك الفتن والحروب والصراعات، وإشاعة مفاهيم العَفو والتَسامح والإعذار، والبِرِّ والعَدْل والإحسان، لأجل الوصول إلى حالة التَعايُش والتساكُن والجوار، وتأمين بقاء المجتمع، وحفظ كيانه، وتنظيم طاقاته، لأداء نشاطه التاريخي المشترك في إعمار الأرض، وإنماء الثروات، وتحقيق المصالح الدينيَّة والدنيويَّة

التَعايُش في ظِلِّ دولة الإسلام الأولى في المدينة النبوية المنورة

إنَّ أهمَّ فصول التَعايُش بين المسلمين وغيرهم في تاريخ الحُكم الإسلامي بأحقابه كلِّها؛ هو ما كان في كنَف دولة الإسلام الأولى التي أسَسها النبي r في المدينة، بحكم ما لها من خصوصيَّة زمنيَّة ومكانيَّة معلومة، فإبّان هذه المرحلة المباركة؛ وفي ظِلِّ هذه الدولة الغَرّاءُ؛ تقرَرت أحكام الشريعة، واكتمَلت مَعالِم الدِين، وتحدَدت أطُرُ العلاقة بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى. 

وقد ذكرنا فيما تقدم من تعريفنا للتَعايُش؛ أنه يعني: القَبول بالعيش مع المُخالِف – غير المُحارِب - والرضا بجواره، وموادعته، وهذا بأدنى تأمُّل هو ما كان عليه حال النبي r وأصحابه في المدينة بعد الهِجرة، حيث ضَمَّ المجتمع الجديد: العرب المسلمين من قبائل قريش والأوس والخزرج وغيرهم مع من أسلم من أعراقٍ مُختلفةٍ أخرى، وتعايَش هؤلاء جميعاً مع مَن كان يسكن المدينة وما حولها من غير المسلمين؛ من أتباع الديانات الكتابية؛ كاليهود والنصارى، وكذلك مع الكفار والمشركين، المسالمين غير المحاربين.

وقد أرشَد النبي r الأمَّة إلى ما يتحقق به مفهوم التَعايُش فيما بينها، على اختلاف أعراقها وأجناسها وألوانها، مع الأمر بصيانة الحقوق، وتحريم الدماء والأموال والأعراض؛ فقال r في خطبة الوداع: ((يا أيها الناس، إن ربَّكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فَضل لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرٍ على أسودٍ، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى، إن أكرَمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلَّغت؟

قالوا: بلى يا رسول الله.

 قال: فليُبلغ الشاهد الغائب))([5])، ثم ذكر النبي r تحريم الدماء والأموال والأعراض، وشدَد في ذلك لأهميته البالغة في حفظ المجتمع، وضمان تماسكه، وصيانة أمنه واستقراره.

وعن النبي r؛ قال: ((إن الله قد أذهَب عنكم عُبِّية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس بنو آدم، وآدم من تراب، مؤمنٌ تقيٌّ وفاجر شقيٌّ..)). وبهذا ووفق هذه الاعتبارات الشرعيَّة سقطت جميع الفوارِق العِرقِيَّة، ليبقى الإيمان والعمل الصالح هو مِعيار التفاضُل بين البشر،

 ولتوثيق عُرى التَعايُش في المجتمع الإسلامي الجديد بين المهاجرين والأنصار على اختلاف قبائلهم؛ مع وجود نفَرٍ من غير العرب فيهم؛ كتبَ النبي r أول مَقدَمِه المدينة عَقْدَ الألفَة والمؤاخاة، كما جاء في ((الصحيحين)) عن أنس بن مالك t؛ قال: ((حالَف النبي r بين الأنصار وقريش - وفي لفظ: والمهاجرين - في داري التي بالمدينة)).

وتعامل النبي r والمسلمون بمنتهى السماحَة والبِرِّ والإحسان مع غير المسلمين ممن كانوا يعيشون في المدينة وما حولها، أو ممن كانت تربطهم بهم روابط الذِمَّة([6]) والعَهد من أهل الكتاب، فكان هذا مِثالاً عملياً لحُسن التَعايُش والتَساكُن والجِوار.

ولم يقف الأمر عند هذا القَدْر من سلوك النبي r وسيرته وعمله، بل أسس له r من خلال ما كتب من عقود وعهود؛ أرسى فيها دعائم التَعايُش المجتمعي، ونَظَّم فصوله، وبَيَّن حدوده، بما يكفل حفظه وديمومته في ظِلِّ الدولة الإسلامية الحديثة، فقد عاهد النبي r يهود المدينة وما جاورها، ووادعهم، وكان غايةً في الحلم والسماحة معهم، بالرغم من إبطانِهم العداوة للمسلمين.

كما وادَع رسول الله r نصارى نجران واليمن، مِن عرب وعَجَم، وصالحهم وعاهدهم. وأشهد على ذلك شهوداً.

الأصول الشرعية العامة في معاملة الخلق

    إنَّ معاملة المسلمين فيما بينهم، ومعاملتهم للمتعايشين معهم من أتباع الديانات الأخرى؛ تحكمها أصول شرعية عامة، يلزم التذكير بها والتنبيه إليها، لاستظهار معالِم هذا ((التَعايُش))، وبيان أطُرِه وسِماته، ومنع ما يُعكِّر صفوه أو يُخِل بدوامه، وهي: 

أولاً: العَدْل

وهو أساس كل الفضائل، وبه فطر الله جميع الخلق، وعليه اتفقت كلمة الرُسل، وأسِسَت جميع الشرائع، قال تعالى: )لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ( [الحديد: 25]، فالشرع مبناه على العَدْل، وبه قامت مصالح الدنيا والآخرة.

 والعِلاقة بين الناس يجب أن لا تَخرُج عن مقتضى العَدل، فهو الضامن لأمن البلاد والعباد، والباعث على اطمئنانهم وسعادتهم.

 ومثلَما يجب العَدْل ويُحَرَّم الظلم في حق الأعداء والكفار وغير المسلمين؛ كذلك - ومن باب أولى - في حق المنتسبين إلى المِلَّة من المخالِفين من أصحاب المذاهب العَقدِيَّة المختلفة، والمتعايِشين ضمن البلد الواحد، لعموم النصوص الشرعيَّة التي مَرَّت آنفاً، ولما يقتضيه العقل من الحاجة إلى العَدْل وضرورته، حيث لا يستقيم عَيْش دونه، وأن الظلم مُؤذِن بخراب العُمران كما يقول ابن خلدون في ((المقدمة))، وأن الخراب في العُمران يعود على الدولة بالفساد والانتقاض، فلا سبيل للعَمارة إلا بالعَدْل، وهو الميزان المنصوب بين الخليقة.

ثانياً: الرَحمَة

وهي من أعظم بواعث الرسالة التي لأجلها أُرسِل النبي r إلى الناس كافة؛ قال تعالى: )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ( [الأنبياء: 107]، فبَعثَه الله تعالى بالرَحمَة، فإنه سبحانه أرحَم الراحمين، ورسوله الرَحمة المُهداة إلى الخلق أجمعين، فهو نبي الرَحمة، ودينه كلُّه رحمة، أنقذ الله به من النار، وأخرج الناس به من الظلمات إلى النور.

كما وحَثَّ النبي r على الرَحمة بالخَلْق؛ فقال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء)). قال الطيبي: أتي بصيغة العموم ليشمل جميع أصناف الخَلْق، فيرحَم البِرَّ والفاجِر، والناطِق والبهم،..([7]).

ومن مظاهر الرَحمة بغير المسلمين ما ثبت في ((الصحيحين)): (إن النبي r مرَّت به جنازة؛ فقام، فقيل: إنه يهودي! فقال: أليست نَفْساً؟!)). أي: أليست نفساً مخلوقة قد ماتت؟! فلكل نفسٍ خلقها الله حُرمَة.

ومِن كمال خُلُق النبي r مع غير المسلمين، ورحمته بهم، أنه كان يدعو لهم بالهِداية والصَلاح، بالرغم مِن صَدِّهم وعُتوِّهم.

ومن مظاهر رحمة النبي r بمن تَعايَش معهم من غير المسلمين؛ عيادته لمن مرِض منهم، رغبةً في هدايتهم، وحرصاً على تأليفهم على الإسلام، حتى عاد النبي r عمَّه أبا طالب وهو مشرك، كما ثبت في ((الصحيحين)) وغيرهما، وعادَ غلاماً يهودياً كان يخدمه؛ كما جاء في ((الصحيح)).

ثالثاً: العَفو والتَسامح

    إن الرحمة التي تغمر قلوب المسلمين؛ لابد وأن تُثمِر العَفو والصفح لمن أساء إليهم، وإن كانوا على غير ملتهم – ما داموا مسالمين غير محاربين - والتجاوز عنهم، وترك مؤاخذتهم عمّا يصدر عنهم من أذى، ومعايشتهم بالبِرِّ والإحسان. قال تعالى: )خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ( [الأعراف: 199]. قال جعفر الصادق: (أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق في هذه الآية، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية)([8]).

وأمر الله عزَّ وجلَّ نبيه r بالعفو والصفْح عمَّن خانوه ونقضوا العهد الذي بينهم وبينه، وأشار سبحانه إلى أن ذلك من الإحسان إلى الخَلْق، الذي يحبه ويريده، قال تعالى: )فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ([9]) فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ( [المائدة: 13].

رابعاً: حريَّة التديُّن وعدم الإكراه

أرسل الله عَزَّ وجَلَّ نبيه محمداً r ليدعو الناس إلى دين الإسلام، ويهديهم سبيل الرَشاد، وأنزل عليه الكتاب بالحق، هدىً للناس ونوراً ورحمة للمُؤْمنِين. فالإسلام دين هداية ورحمة وصلاح، جاء لينقذ الناس ويُبصِّرهم سبيل النجاة، قال تعالى: )هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ( [الأعراف: 203].

فمن أبصر الحق واختار الهدى فقد نفع نفسه، ومن ضَلَّ فإنما وبال ذلك عليها، وقال الله عز وجل: )وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ( [يونس: 99]، وقال: )لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ( [البقرة: 256]. قال القرطبي: (والدين في هذه الآية: هو المعتقد والمِلَّة، بقرينة قوله: )قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ(..)([10]). وقال ابن الجوزي: (والدِين هاهنا أريد به الإسلام)([11])، وقال الحافظ ابن كثير – في معنى الآية -: (أي: لا تُكرِهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بَيِّنٌ واضحٌ جليٌّ؛ دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكْرَه أحدٌ على الدخول فيه، بل مَن هداه الله للإسلام، وشرح صدره، ونوَّر بصيرته، دخل فيه على بَيِّنة، ومن أعمى الله قلبه؛ وختمَ على سمعه وبصره؛ فإنَّه لا يفيده الدخول في الدين مُكرهاً مَقسورًا)([12]).

وإلى القول بعدم جواز إكراه أهل الكتاب من الذمِّيين والمعاهَدين والمستأمِننين على الدخول في الإسلام ذهب جمهور الفقهاء، وعلى هذا جرى أمر المسلمين في كل العصور؛ على الدعوة إلى سبيل الله دون إكراه الناس من أهل الأديان على اعتناق الإسلام، قال ابن القيم رحمه الله: (أكثر الأمم دخلوا في الإسلام طوعاً ورغبةً واختياراً، لا كُرهاً ولا اضطراراً...)، مما يعكس سماحة الإسلام، وحُسن معاملته للمخالِفين، وتعايشه معهم، الأمر الذي يشهد له ويؤكَّده بقاء أصحاب الديانات من يهود ونصارى وغيرهم مَقيمين في بلاد العرب المسلمين منذ وجودهم وإلى يومنا هذا، يعيشون في دَعَة وأمان، دون أن يُرغَموا على اعتناق الإسلام، أو يُضيَّق عليهم في عباداتهم، وبقاء كنائسهم وأديرتهم على ما كانت عليه منذ خمسة عشر قرناً، من دون أن يتعرض لها أحد([13])، في الوقت الذي كانت فيه الدولة الرومانية تُخيِّر رعاياها بين التنصير والولاء للكنيسة أو القتل.

وقد عُلِم أن حُسن معاملة المسلمين لغيرهم من أصحاب الديانات الكتابيَّة لم يكن عن ضعفٍ وفتورٍ، فذلك حاصل في ظِلَّ حُكم الإسلام الذي بلغ الغاية في القوَّة والعزَّة والتمكين، والنهاية في الغَلبة والظهور والانتشار في جميع أصقاع الأرض وأقطارها.

خامساً: المعامَلة بالبِرِّ والإحسان

   أوصى الله تبارك وتعالى بالبِرِّ والإحسان إلى الخلق عموماً؛ فقال: )وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا( [البقرة: 83]، ورَغَّب الله سبحانه بالإحسان، وذكر محبته لمن تحلى به فقال: )وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ( [البقرة: 195]. وقال أيضاً: )وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ( [آل عمران: 134]، كما قرن الله تبارك وتعالى بين الأمر بالإحسان والأمر بالعدل، لعموم الأمرين وشمولهما، فقال:  )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ..( [النحل: 90]، وهذه الآية كما قال ابن مسعود t: (( أجمَعُ آيةٍ في كتاب الله عَزَّ وجَلَّ)).

وأكد النبي r ما أمر الله تعالى به من الإحسان؛ فقال: ((إن الله كتب الإحسان على كلِ شيءٍ..))، أي: أوجب عليكم الإحسان في كل شيء. وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله – معلقاً على الحديث -: (وظاهره يقتضي أنه كَتَب على كل مخلوقٍ الإحسان، ..وقيل إنَّ المعنى: أنَّ الله كتَب الإحسان إلى كل شيء، أو في كل شيء، أو كتَب الإحسان في الولاية على كل شيء، ..ولفظ الكتابة يقتضي الوجوب عند أكثر الفقهاء والأصوليين..)([14]).

وهذه النصوص على عُمومها تشمل جميع أنواع الإحسان، وهي لعموم الناس؛ بالرفق بهم, وحُسن معاملتهم، وحفظ حقوقهم، وكَفِّ الأذى عنهم.

ولما كانت النفوس تتردد أحياناً في بِرِّ من يُخالفها، والإحسان لمن لا يشاكلها؛ أكدَّ الله تبارك وتعالى الإذن بالبِرَّ والإحسان مع المخالِفين في الديانة - غير المحارِبين –؛ فقال: )لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ( [الممتحنة: 8].

التَعايُش في ظِلِّ دولة الخلافة الراشدة

استمر حسن التَعايُش بين المسلمين وأهل الذمَّة مِن أهل الكتاب والمستأمِنين بعد وفاة النبي r، وقيام الخلافة الراشدة، والتي كانت امتداداً عملياً للهدي النبوي، ومثالاً نقياً لأسلوب الحُكم والإدارة في الإسلام.

ففي عهد أبي بكر الصديق t مضت العهود التي كتبها رسول الله r لليهود والنصارى على ما كانت عليه، بل وكتب لهم أبو بكر t كتاباً نحواً من كتاب رسول الله r.

ولما اتسعت الفتوحات في خلافته t كان يوصي الأمراء والجُند فيقول: (ولا تغدِروا إذا عاهدتم، ولا تنقضوا إذا صالحتم، وستمرُّون على قومٍ في الصوامع رهباناً، يزعمون إنهم ترهَّبوا في الله، فدعوهم ولا تهدموا صوامعهم..).

وفي عهد عمر بن الخطاب t استمر حال التَعايُش بين المسلمين وأهل الذِمَّة من أهل الكتاب على ما كان عليه في عهد النبي r وعهد خليفته أبي بكر الصديق t، وحصل أن أجلاهم عمر t خارج أرض الجزيرة، مع وصيَّته لأمراء المناطق التي استوطنوها بالبر والإحسان إليهم، وتمتعهم بسائر الحقوق التي كانوا يتمتعون بها. وكتب t بذلك كتاباً.

وقد تجلّى العَدْل والتَسامح بأعظم وأبلغ صوره : لما طَعَن الخليفةَ عُمر t أحدُ أهل الذمَّة في المدينة - وهو أبو لؤلؤة فيروز – فلم يمنع ذلك عُمر t من الوصية بالبِرِّ بأهل الذِمَّة والوفاء إليهم؛ حيث قال – والموت يُنازعه - : (أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين خيراً.. وأوصيه بذِمَّة الله وذِمَّة رسوله r؛ أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من وراءهم، وأن لا يُكلَّفوا فوق طاقتهم). فما أبلغ هذا العَدْل، وما أجمل هذا التسامح.

التَعايُش في ظِلِّ دول الإسلام المُتعاقِبة بعد عصر الخلافة الراشدة

بعد انقضاء عصر الخلافة الراشد، استمر حُسن التَعايُش بين المسلمين وغير المسلمين؛ من أهل الكتاب والمجوس وغيرهم، في ظِلِّ حُكم الإسلام الذي ساد فيه العَدْل والتَسامح بما لم يعرف له نظير في تأريخ الأمم والشعوب والدُول. والشواهِد على ذلك كثيرة.

وكان عُمر بن عبد العزيز يجعل كل يوم من ماله درهماً في طعام المسلمين ثم يأكل معهم، وكان ينزل بأهل الذمَّة فيُقدِّمون له من الحلبة المنبوتة والبقول وأشباه ذلك مما كانوا يصنعون من طعامهم فيعطيهم أكثر من ذلك ويأكل معهم).

وفي عهد الخليفة هارون الرشيد كان من وصية القاضي أبي يوسف له بأن يرفِق بأهل الذمَّة، ويتفقدهم.

  وبمثل هذه المعاملة أيضاً تعامل المسلمون الفاتحون لبلاد الأندلس مع من يعيش فيها من اليهود والنصارى، بل أنَّ دولة الإسلام في الأندلس أصبحت ملاذاً آمنا ليهود أوربا يلجئون إليها فراراً من القهر والاضطهاد الذي كانوا يواجهونه في بلدانهم بحسب ما أفاده كثير من المؤرخين والباحثين، فارتحل اليهود من جميع الأصقاع إلى الأندلس حتى أضحت أنموذجاً للتَعايُش بين المسلمين واليهود والنصارى، وعندما سقطت الدولة الإسلامية في الأندلس فرَّ اليهود منها إلى المغرب احتماء بالمسلمين من بطش الإسبان ((النصارى))!!

وعلى هذا نقول: أنَّه لم يحظَ أهلُ الكتاب قط بحُسن المعاملة والتَعايُش في ظِلِّ حُكمٍ مثل الحُكم الإسلامي، الأمر الذي قد عُلِم بالضرورة لكل من استقرأ تاريخ المسلمين في مراحل حُكمهم المتعاقبة، واطَّلع على الصفحات الناصعة في العَدْل والحُريَّة والتَسامح، وهو ما اعترف به جلُّ المستشرقين، وشهد به معظم المؤرِّخين والباحثين من غير المسلمين، وأثبتوه في تآليفهم.

ومع هذا التاريخ المشرق للمسلمين، بكل صفحاته وبجميع مراحله، ومع هذه المآثر العظيمة للفاتحين الذين كتب الله لهم النصر والتمكين، شهد التاريخ في مقابل ذلك ما لقيه المسلمون من وحشية وقتل وإبادة إبّان الغزو الغربي للشرق الإسلامي في القرنين الخامس والسادس الهجريين، وهو ما أطلق عليه بـ((الحروب الصليبية))، والتي كان من فضائعها، استباحة بلاد المسلمين، وإعمال السيف فيها، وذبح ما يزيد على السبعين ألفاً، منهم العبّاد والعلماء والصالحون.

وسَطَّر التاريخ بمرارةٍ كذلك أهوالَ ما جرى في بلاد الأندلس على يد الأسبان من أنماط التعذيب البشعة، وصور القتل المروِّعة، التي تقشَعر لها الأبدان في حق الآمنين العُزّل مِن المسلمين، الذين عاشوا في بلاد الأندلس وحكموها قروناً من الزمن، كانت زاخرة بالعُمران والحضارة والمدنية، والعَدل والتسامح والحريَّة.

وفي هذا العصر شهدت بلاد البلقان أبشع مجازر القتل والإبادة والتعذيب والاغتصاب على أيدي الصِرب والكُروات لعشرات الألوف من المسلمين في البوسنة والهرسك، وفي كوسوفا وغيرها، وبلَغ عدد من ذبَحهم الصِرب في مدينة ((سيربرينيتشا)) لوحدها عشرون ألف مسلم، إضافة تهجير مئات الآلاف منهم مِن قُراهم ومدنهم بعد حرقها وتهديمها، وكذلك حرق المساجد والمدارس وتدمير الجسور والمعابر، تحت نظر العالم وسمعه.  

وبمثل هذا أو بعضه جرى التعامل مع المسلمين في بقاعٍ شتى من العالم، كبورما وأثيوبيا ونيجيريا وغيرها، مع كل ما مضى على امتداد قرون الحكم الإسلامي من حُسن تعايش المسلمين وتسامُحِهم مَع سائر الأعْراق والطوائف والدِيانات المختلفة، والتعامل معهم بالبِرِّ والعَدْل والإحسان.

ونحن إذ نذكر ذلك؛ قد يتبادر إلى أذهان بعضهم أنَّ معاملة المسلمين للمخالِفين في بلداننا ينبغي أن تكون بمثل ما يُعامل به المسلمون في مواطن عديدة من أقطار الأرض، وهذا خطأ محض لابدَّ من التنبيه إليه، إذ لا تزر وازرة وِزر أخرى، فلا يتحمَّل المخالفون لنا في هذه البلاد جريرة ما اقترفه المجرمون من أتباع دياناتهم في بلدان أخرى من العالم، وكما قال رسول الله r في كتابه الذي كتب لنصارى نجران: ((..ولا يُؤخذُ رجلٌ منهم بظلم آخر))، كما لا يجوز مثل ذلك في حق المسلمين، فكلاهما ظلم.

كذلك فإن صِدق الوعد، والوفاء بالعهد، وحُسن الجوار والتَعايُش، والمعاملة بالعَدْل والبِرِّ والإحسان هي من شيم الأخلاق التي أمرَ بها دين الإسلام، بل وسائر الأديان، لأنها مِن جملة الأصول التي لا يدخل عليها النسخ والتبديل بشكل عام، فهي لا تتغير بتغير الحال والزمان والمكان، فلا يكون الصِدق والوَفاء والعَدْل والإحسان مَطلوباً في زمانٍ دون زمانٍ أو مكانٍ دون مكانٍ.   

تجليَّة مَفهوم التعايش ودفع ما يلتبس به

بعد أن ذكرنا مفهوم التَعايُش بين الأعْراق والدِيانات والمَذاهب؛ ونوَّهنا إلى ضرورته وأهميَّته؛ وبيَّنا شرعيَّته وما يتصل به من أصول وأحكام، وفق تأصيلٍ علميٍ مستفيضٍ؛ وبعد أن ذكرنا ما كان مِن تَعايُش المسلمين مع غيرهم في ظِلِّ حُكم الإسلام عبر مَراحِله التاريخيَّة المتطاولة؛ لا بُدَّ من التنبيه إلى أمورٍ قد تتداخل أو تختلط في أذهان بعض الناس مع ما ذكرنا، مما يُسبب قُصوراً أو اختلالاً في فهم مضامينه.

وعليه فإنا نُذَكِّر ببعض المسائل المهمَّة إجلاءً للحقِّ، وتفريعاً لمِا تقدَّم، وزيادةً في البيان، فنقول وبالله نتأيد:  

المسألة الأولى: إنَّ التَعايُش مع المخالِفين في الدِيانة أو المَذهب لا يعني الإقرارَ لهم بصواب ما هُم عليه، فالله سبحانه وتعالى قد بيَّن في كتابه العزيز صراط الحق المستقيم، وسبيل الدِين القويم، )وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ( [الأنعام: 126]، وترَكَنا رسول الله r على محجةٍ بيضاء، ليلها كنهارها. فالحقُّ جليٌّ وواحدٌ، والمؤمن الذي انعم الله عليه فهداه إلى الحق؛ وأنار بصيرته؛ ينظر إلى من حُرِم الإيمان، وسُلِب نور البصيرة نظرة إشفاق ورحمة، تدفعه إلى الدعاء لهذا المحروم بالصلاح والهِداية، كما كان حال النبي r مَع مَن لم يؤمن مِن قومه، وبهذا القَصْد والاعتدال استطاع النبي r والمُسلمون التَعايُش مع أهل الكتاب من يهودٍ ونصارى، واستطاع المُسلمون بَعْد على مَرِّ العصور التعايُش فيما بينهم مع افتراقِهم إلى مَذاهِب وطوائف عديدة. 

المسألة الثانية: التَعايُش مع المخالِفين لا يلغي وجوبَ الدعوَّة والبيان، والأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر، وِفق الشروط والضوابط الشرعيَّة التي بينها العلماء، فقد كان رسول الله r يدعو من حَوله من يهودٍ ونصارى ومُشركين، ويجادلهم، ويُقيم عليهم الحجَّة كما أمر الله.

وعلى المسلمين أن لا يجزعوا إن لم يُستجاب لدعوتهم، قال تعالى: )وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ( [النحل: 127].

الثالثة: التعايش مع غير المسلمين والاختلاط بهم لا ينبغي أن يكون داعياً للتهاون بالشريعة، فقد أوصى الله تبارك وتعالى بالثبات على الدين، وترك الانجرار وراء الأهواء والآراء التي تَضِل عن سواء السَبيل، فقال عز وجل: )وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( [الأنعام: 153]، وقال تعالى: )وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا( [المائدة: 48] ثم قال تعالى: )وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ( [المائدة: 49]. وقال تعالى: )فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ( [الشورى: 15].

        فالمؤمن الثابت على دينه، المستعلي بإيمانه، القائم بأمر ربه، لا يضرُّه من خذَله ولا مَن خالَفه، حتى تقوم الساعة.

الرابعة: ما يَذكره العلماء من هَجْر المظهرين للبِدَع؛ الداعين إليها؛ إنما هو من باب العقوبات الشرعِيَّة إن كان مما يتحقق به معنى الزجر والتأديب، وهذا حاصلٌ فيما لو كانوا أفراداً أو جماعاتٍ قليلةَ العدد في ظِلِّ مجتمع تسوده أحكام الإسلام، فيكون هجرهم مما يتضررون به فيرتدعون، أما عوام الناس من أصحاب البِدَع والمَذاهب العَقَدِيَّة ((الموروثة))، فلم يَقلْ أحدٌ بهجرهم جميعاً، لاسيَّما إن كانوا طوائف كبيرة وجماعات غفيرة، إذ لا يتحقق بهجرهم الرَدْع والزَجر المقصود منه ابتداءً، فالهَجر ليس مقصوداً لذاته كما نصَّ على ذلك المحققون من أهل العلم، قال شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين: (الهجر يختلف باختلاف الهاجِرين في قوَّتهم وضعفِهم، وقلَّتهم وكثرتهم، فان المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامَّة عن مثل حاله، فان كان المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضى هجره إلى ضعف الشرِّ وخُفيَته كان مشروعاً، وان كان لا المهجور ولا غيره يرتدِع بذلك؛ بل يزيد الشرُّ؛ والهاجِر ضعيف بحيث يكون مفسدَة ذلك راجِحة على مصلحته؛ لم يشرع الهَجْر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهَجْر)([15]).

  فالعقوبة بالهَجْر مختلفٌ حُكمُها بحسب شيوع العلم وظهور شرائع الدين، وقِلَّة أهل البِدع وكثرتهم، وقوَّتهم وضَعفِهم، وهي مشروطة كذلك بالقُدرة، فحُكمُها شرعاً يختلف بين القادِر والعاجِز.

الخامسة: إن حُسن التَعايُش بين الأعْراق أو الدِيانات أو المَذاهب لا يتعارض مع الانتصار للمَظلوم، ورَدِّ المظالم، وإرجاع الحقوق المسلوبة إلى مُستحقِّيها، فرعاية سُنَن العَدْل التي قامت بها السموات والأرض، هو ما يكفل انتظام حال التَعايُش، ويضمَن بقاءه، ويرعى ديمومته، فلا بُدَّ مِن التصدي لانتهاك الحقوق، والعمل على فَضِّ النزاعات، وتسوية الخصومات، ورَدِّ المغصوبات، وفق ما تجري عليه الشريعة، وما تقرُّه الأعراف، وتضمنه القوانين المُحَكَّمَة في البلاد، قال تعالى: )وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ( [البقرة: 251]، أي: لولا دفع أهل الظُلم والشرور بمَن يردُّهُم عن بغيهم بما قدَّر الله من العقوبات والحُدود لفَسدت الأرض، وعَمَّ الشَرُّ، وتعطَّلت مصالح الخَلْق، ولكن الله عزَّ وجلَّ يدفعُ فسادَ بعضهم ببعض، فلا تفسد الأرض، وتنصلح بذلك أحوال الأمم، وتنتظم به مصالحهم.

    فلابد للناس من إحقاق الحقِّ، وإقامَة العَدْل، فضمان الحفاظ على نفوسهم وأموالهم مَبناه على الإنصاف والعَدْل، لذا قال تعالى: )وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ( [البقرة: 179]، ولا بُدَّ مع ذلك من النَدب إلى العفو والأخذ بالفَضْل، وهذه هي شريعة الإسلام، كما قال تعالى: )وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا( [الإسراء: 33]، أي: مَن قُتِل بغير سبب من الأسباب المسوِّغة للقَتل شرعاً فقد جعل الله لوليه سلطاناً؛ أي: تسلطاً على القاتِل بمؤاخذته إن شاء بالقصاص، وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية، وقال تعالى - في القَتْل الخطأ -: )وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا( [النساء: 92] ([16])، أي: عَوَض مالي عن دمِ القتيل يُؤدّى إلى ورثته لجبر قلوبهم، إلا أن يتصدقوا بالعفو عن الديَّة، فتسقط بذلك. وفي هذا: الحثُّ على العفو، لأن الله سماه صدقة.

 وقال تعالى - في القتل وما دونه -: )وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ( [المائدة: 45]. فالتعبير عن العَفو وترك القَصاص بالتصدُّق؛ هو للمُبالغة في الترغيب فيه.


(([1] من إصدارات مركز الأمة للدراسات والتطوير.

([2]) أنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/45).

([3]) ((لسان العرب )) لابن منظور (6/321).

([4]) ((المعجم الوسيط)) (2/639).

([5]) جميع الأحاديث والآثار الواردة في هذا الكتاب مخرجه في الأصل المطبوع، وإنما حذفنا ذلك ههنا للاختصار.

([6]) الذِمَّة – لغة -: العهد، والأمان، ومنه قول الله عز وجل: ) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً( [التوبة: 10]، ويقال: أهل الذِمَّة؛ للمعاهَدين من النصارى واليهود وغيرهم، لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم. وعَرَّف الفقهاء ((عقد الذِمَّة)): بأنه إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية، والتزام أحكام المِلَّة. وعلى هذا يمكن القول بأن عقد الذِمَّة عقد يُصَيِّر غير المسلم في ذِمَّة المسلمين، أي في عهدهم وأمانهم على وجه التأبيد. أنظر: ((أحكام الذِمِّيين والمُستأمنين)) للدكتور عبد الكريم زيدان (ص22).

([7]) أنظر: ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (6/43).

([8]) ((الجامع لأحكام القرآن)) القرطبي (7/345).

([9]) ولا تزال هذه حالهم طوال إقامتهم في بلاد المسلمين على مدار التاريخ، رغم ما كانوا يتمتعون به الحريَّة والمعاملة الحسنة، وصدق قول القائل: اتقِ شرَّ من أحسنت إليه.

([10]) ((الجامع لأحكام القرآن)) (3/279).

([11]) انظر: ((زاد المسير)) (1/303).

([12]) ((تفسير القرآن العظيم)) (1/682).

([13]) وهذا ما شهد به المستشرقون والمؤرخون والباحثون الغربيون.

([14]) ((جامع العلوم والحكم)) (ص151-152).

([15]) ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (28/206).

([16]) وقال تعالى – في الآية نفسها -: )وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ( [النساء: 92] أي إن كان القتيل من أهل الذمة من أهل الكتاب، أو من أهل العهد، فيجب في قتله الدية والكفارة.

مقالات اخرى

Melbourne Web Design & Development
menu-circlecross-circle linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram