أميركا من التعسّف في استعمال حق النقض(الفيتو) إلى احتلال العراق

7 أغسطس, 2021

سفيان لطيف علي (*)[1]

إن الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن كانت تمثل قمة التحالف الدولي الذي حقق النصر على دول المحور في الحرب العالمية الثانية، كما أنها لعبت الدور الأساسي في تأسيس منظمة الأمم المتحدة بهدف المحافظة على السلم والأمن الدوليين، وتحقيق الأمن الجماعي لما لها من قدرات سياسية واقتصادية وعسكرية. ومن هنا حرصت هذه الدول الكبرى عند وضع الميثاق الأممي على أن يكون لها مكانة مميزة عن باقي الدول الأعضاء في هذه المنظمة الدولية، وذلك عن طريق اكتساب العضوية الدائمة في المجلس. ومن المنطقي أن تقترن هذه العضوية الدائمة في مجلس الأمن بميزة إضافية، هي حق النقض عند إجراء التصويت فيه، وإلاَّ أصبح تمثيلهم الدائم بدون معنى في ظل وجود الأغلبية من دولٍ غير دائمة العضوية. لذلك كانت مشكلة التصويت في المجلس، وحق النقض للدول الدائمة فيه، من أهم المشاكل التي واجهت الأمم المتحدة عند إعداد الميثاق، بسبب اعتراض الدول الصغيرة عليه، إلا أن الدول الكبرى تمسكت بهذه الميزات في مؤتمر سان فرنسيسكو وتعهدت لباقي الدول بأنها "في استعمالها لحقوقها في التصويت سيحدوها دائماً الإحساس بتبعاتها نحو الدول الصغرى وأنها لن تستعمل حق النقض إلاّ في أضيق حدوده".

والسؤال المطروح هنا هو: هل التزمت الدول الكبرى بهذا التعهد، أو أنها أساءت استعمال هذا الحق وضربت بالتزاماتها عرض الحائط؟

وهذا ما سيتم بحثه فيما يأتي:

تكريس هذا الحق لدولة واحدة والإفراط في استعماله.

لقد بُنيت الأمم المتحدة على افتراض أساسي يقوم على وجوب استمرار التعاون والتفاهم بين الدول الكبرى. ولا أمل للبشرية في سلم وأمن دائمين إذا لم يتحقق هذا التعاون والتفاهم بين الدول الكبرى. وعلى هذا الأساس تم الإتفاق على إنشاء منظمة الأمم المتحدة. ومع ذلك فإن الدول الكبرى المتحالفة ساورها الخوف، قبل بداية العام 1945، من تصرفات بعضها وشعرت بأن بعضها لن يستمر في التعاون حتى نهاية الشوط، إلاَّ أنها فضَّلت متابعة الجهود لإنشاء المنظمة العالمية الجديدة([2]).

وفعلاً تحققت هذه المخاوف منذ السنوات الأولى لإنشاء المنظمة، عندما انهار الوفاق واشتعلت الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي بزعامة الإتحاد السوفياتي، والغربي بزعامة الولايات المتحدة. وأساءت كل من الدولتين وأفرطت في استعمال حق النقض، لا لشيء إلاَّ لتعطيل ما تريده القوى الأخرى من قرارات. وتبعاً لذلك أُصيب مجلس الأمن – وهو جهاز صنع القرار في المنظمة – بالخمول إن لم يكن بالشلل الكامل في كثيرٍ من الأحيان. ولذلك فمن المفيد أن نبحث في هذا المطلب الإفراط والإساءة في استعمال حق النقض، ثم نبيّن أن حق النقض تكرّس، حتى إشعار آخر، امتيازاً واحتكاراً لدولة واحدة.

أولاً:  الإفراط والإساءة في استعمال حق النقض:

لقد استخدم حق النقض (الفيتو Veto)، لأول مرة، من قبل الإتحاد السوفياتي في 16 شباط (فبراير) عام 1946، بشأن سحب كل من بريطانيا وفرنسا قواتهما من سوريا ولبنان. وقامت هاتان الدولتان بسحب قواتهما على الرغم من عدم صدور القرار بسبب النقض السوفياتي.

وفي نفس السنة استخدم الإتحاد السوفياتي حق النقض أربع مرات لمنع إصدار أي قرار من مجلس الأمن يتعلق باتخاذ تدابير تتعلق بإسبانيا (تحت حكم فرانكو). وفي سنتي 1946 و1947 استخدم الإتحاد السوفياتي حق النقض ست مرات تتعلق بقضية البلقان. واستمر استخدام حق النقض من جانب هذه الدولة إلى أن وصل إلى (106) مرات حتى عام 1965، علماً أن أغلب المرات التي لجأ فيها الإتحاد السوفياتي لاستعمال حق النقض كانت لمنع قبول أعضاء جدد في المنظمة([3]).

والفترة ما بين العام 1946 والعام 1955 – حين بلغت الحرب الباردة قمتها بين المعسكرين الشرقي والغربي – كانت صدمة حقيقية للدول الأخرى الراغبة في الإنضمام للمنظمة العالمية، فقد حال هذا العناد السياسي، بين القوتين العظيمتين، دون قبول عدد كبير من الدول طالبة الإنضمام إلى المنظمة، مستخدمة لذلك حقها في النقض والتستر بإدعاءات وراء مبررات قانونية مثل: الشك في مدى تمتع الدولة طالبة الإنضمام بالإستقلال، شأن الأردن وسيلان، أو الشك في محبتها للسلام أو رغبتها في تحمل التزامات الميثاق. وهذا ما قيل عن ألبانيا وبلغاريا وهنغاريا ورومانيا ومنغوليا. وفي بعض الحالات صرحت الدول الكبرى ببواعثها السياسية علناً، فقد عيب على إيرلندا والبرتغال أنهما وقفتا على الحياد في الحرب ضد ألمانيا، أو صرحت بأنها لن تصوت لقبول دول بعينها إلا إذا تم التصويت على قبول دول أخرى معينة، وهذا ما حدث عندما علّق الإتحاد السوفياتي تصويته لقبول فنلندا وإيطاليا على تصويت الدول الغربية لقبول بلغاريا وهنغاريا ورومانيا. لذا كانت طلبات الإنضمام للدول ذات الميول الغربية يصادفها اعتراض توقيفي من الإتحاد السوفياتي، وطلبات الدول ذات الميول الشرقية يصادفها نقض من قبل الولايات المتحدة والمعسكر الغربي([4]).

يتضح مما سبق أن تصرفات أكبر دولتين في المجلس اتسمت باللاأخلاقية وبالإساءة في استعمال حق النقض. وعليه ظلّت طلبات الإنضمام خارج أسوار المنظمة حتى عام 1955، عندما خفت حدّة التوتر وقُبلت جميع الطلبات في صفقة واحدة. وكان هدف الولايات المتحدة الأمريكية توكيد أولويتها السياسية في المنظمة بالموافقة فقط على قبول الدول التي يُرَّجح أنها ستتبع القيادة الأمريكية، فإذا ما فشلت في ذلك كانت مستعدة لرفض كل الطلبات، في حين كان الإتحاد السوفياتي لا يستهدف نبذ طلبات العضوية المشمولة بالرعاية الأمريكية بقدر ما يستهدف التأكد من أنها لا تقبل بدون الطلبات الأخرى المشمولة بحمايته. فبالنسبة إلى الولايات المتحدة إما مجموعة واحدة وإما لا أحد، وبالنسبة إلى الإتحاد السوفياتي إما المجموعتان معاً وإما لا أحد. فالولايات المتحدة كانت تسعى إلى نصر سياسي بينما كان الإتحاد السوفياتي يسعى إلى تحاشي هزيمة سياسية([5]).

ويلاحظ أيضاً أن النقض السوفياتي أصبح كالسيف المسلّط على رقبة المجلس والولايات المتحدة للحؤول دون توسع واشنطن والحد من فرض سيطرتها على المجلس. ولم تجد واشنطن من سبيل للتخلص من تصرفات موسكو إلاَّ بالعمل على تحويل اختصاصات المجلس السياسية إلى الجمعية العامة التي تُصدر قراراتها بالأغلبية والتي كانت تتحكَّم بها الولايات المتحدة آنذاك مقابل الأقليّة التي تتبع القيادة السوفياتية. وتحقيقاً لهذا الغرض أخذت واشنطن دور المبادرة (أثناء غياب المندوب السوفياتي) في إقرار مشروع "الإتحاد من أجل السلام"، وكان لها ذلك عندما أقرَّت الجمعية العامة هذا المشروع بالقرار المرقم (377/5) في 3/11/1950، والذي دانته موسكو باعتباره مخالفاً من الناحية القانونية لنصوص الميثاق([6]).

وقرار "الإتحاد من أجل السلام" ينص على أنه في حال وجود تهديد للسلم الدولي أو إخلال به أو عمل من أعمال العدوان، وفشل مجلس الأمن في القيام بالمسؤوليات الملقاة على عاتقه في حفظ السلام والأمن الدوليين نظراً لعدم توافر إجماع الأعضاء الدائمين، فإن للجمعية العامة أن تجتمع فوراً (ولو في دورة استثنائية طارئة) وتبحث المسألة لتقدم إلى الأعضاء التوصيات اللازمة حول التدابير التي يجب اتخاذها، ومن ضمنها استعمال القوة المسلَّحة، وذلك لإعادة الأمن والسلم الدوليين إلى نصابهما. ونجحت الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة لذلك في استصدار بعض القرارات من الجمعية العامة منها: قرار بإدانة الصين كدولة معتدية في كوريا، وذلك في كانون الثاني (يناير) 1950، وكذلك التوصية بسحب قوات العدوان البريطاني الفرنسي من مصر عام 1956([7]).

إلا أنه بعد العام 1965 انعكس الوضع تماماً، فبعد أن كان الإتحاد السوفياتي يفرط في استعمال حق النقض، أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية هي التي تكثر من استعماله مع تراجع ملحوظ في استعماله من قبل الإتحاد السوفياتي. فخلال الفترة من عام 1966 إلى عام 1975 استخدمت الولايات المتحدة حق النقض 12 مرة، بينما استخدمه الإتحاد السوفياتي 7 مرات. وفي الفترة من عام 1976 إلى 1985 استخدمت الولايات المتحدة حق النقض 34 مرة مقابل 6 مرات من جانب الإتحاد السوفياتي. وفي الفترة من 1986 إلى 1995 استخدمته الولايات المتحدة 24 مرة، مقابل مرتين من جانب الإتحاد السوفياتي. وفي الفترة من 1996 إلى 2008 استخدمته الولايات المتحدة 12 مرة مقابل 3 مرات من قبل الإتحاد السوفياتي([8]).

غير أن الزيادة الكبيرة في عضوية الأمم المتحدة، وخصوصاً منذ عام 1951، أدت إلى تغيير الموازين في الجمعية العامة وعلى حساب الولايات المتحدة، إذ أصبحت الأخيرة محاصرة بأغلبية معارضة لها في الجمعية العامة بعد أن كانت تتمتع بتأييد أغلبيتها من قبل، مما جعل الإتحاد السوفياتي يغيّر موقفه من قرار "الإتحاد من أجل السلام" وللتخلص من الفيتو الأمريكي بتقديم اقتراحات إلى الجمعية العامة لإصدار قرارات في مسائل سياسية منها: اقتراحه على الجمعية العامة في العام 1954 باتخاذ قرار يتضمن تحريم الأسلحة الذريّة، وعقد دورة طارئة للجمعية العامة في حزيران (يونيو) 1967 لإدانة الهجوم الإسرائيلي على الدول العربية بعد عجز مجلس الأمن عن إتخاذ قرار حاسم في هذا الشأن. "ولعلَّ تفسير هذا التبدُّل في مواقف الدول الكبرى يكمن في أن هذه الدول اكتشفت، بعد أن أثقلت كاهلها كثرةُ استعمال حق النقض في مجلس الأمن، أن العمل الإيجابي والتأثير في الرأي العام العالمي وكسب الأصدقاء والأنصار في الجمعية العامة هو أفضل بكثير من الإنكماش وراء موقف سلبي يُعطِّل عمل مجلس الأمن ويسيء إلى سمعتها على الصعيد الدولي"([9]).

جدول باستخدام الفيتو في مجلس الأمن خلال الأعوام 1946 – 2008[10]

الفترة الزمنيةالإتحاد السوفياتي (روسيا)الولايات المتحدة الأميركيةبريطانيافرنساالصينالمجموع
1946 – 195580--2183
1956 – 196526-32-31
1966 – 1975712102233
1976 – 1985634119-60
1986 – 199522483-37
1996-----0
1997-2--13
1998-----0
1999----11
2000-----0
2001-2---2
2002-2---2
2003-2---2
200412---3
2005-----0
2006-2---2
20071---12
20081---12
المجموع1248232187263

وممّا يلاحظ، بكل وضوح، كثرة استخدام الولايات المتحدة الأميركية لحق النقض لصالح إسرائيل، ولا تتورع عن استخدامه لصالحها ولو لمئات المرات، حتى أصبح النقض الأمريكي والصراع العربي الإسرائيلي متلازمان، فكلما طرح مشروع قرار في مجلس الأمن لتوجيه لوم (مجرد لوم) إلى إسرائيل، لما ترتكبه من جرائم قتل وتشريد في فلسطين تصدرت له واشنطن بالنقض. وهذا مجرد لوم فكيف لو كان المشروع يتضمن استخدام القوة؟

ثانياً: تكريس حق النقض لدولة واحدة:

         بعد انهيار الإتحاد السوفياتي رسمياً في 24 كانون الأول (ديسمبر) 1991، وانتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين، ظهرت الولايات المتحدة الأمريكية قطباً وحيداً متفرداً بنفوذ لم يسبق لدولة أن حازته من قبل، متسلحة بقوة اقتصادية هائلة، وترسانة عسكرية لم يسبق لها مثيل، وبخلل في العلاقات الدولية بسبب الهيمنة على العالم وعلى الأمم المتحدة، وخصوصاً مجلس الأمن الدولي. ففي الحرب الباردة كان قرار مجلس الأمن يعبر عن نقطة توازن بين القوتين المتنافستين. أما اليوم، أي في عالم تنفرد فيه الولايات المتحدة بوصف القوة العظمى الوحيدة، فإن قرارات مجلس الأمن تصدر استجابة لإرادة هذه القوة العظمى التي لم يعد أحد من أعضاء مجلس الأمن من ذوي المقاعد الدائمة يرغب (وربما حتى إشعار آخر) في معارضتها، ولو من خلال الإمتناع عن التصويت، ناهيك عن استخدام حق النقض([11]).

         ونلاحظ خلال الأعوام 1995 – 2008، أننا لا نجد نقضاً سوى النقض الأميركي، على الرغم من قلته حتى من هذه الدولة. وتوحي هذه الحقيقة بأن الإختفاء الحالي لظاهرة النقض في مجلس الأمن لا تعكس مظاهر الوفاق والإتفاق بين الدول دائمة العضوية في المجلس، بل تعكس مظاهر الهيمنة الأميركية على الدول الأعضاء في المجلس المتمتعين بحق النقض. ومعنى ذلك أن الدولة التي آلت إليها قيادة النظام الدولي كانت، حتى قبل انتهاء الحرب الباردة رسمياً واختفاء ظاهرة النقض، هي التي تحول دون تجسيد إرادة المجتمع الدولي في صورة قرارات صادرة عن مجلس الأمن ومعبّرة عن الشرعية الدولية([12]).

وأصبحت الولايات المتحدة الأميركية (بعد حرب الخليج الأولى 1991، وفي ظل النظام العالمي الجديد) لا تحتاج إلى استخدام حق النقض فعلياً، فهي تكتفي بالتهديد به في كواليس المفاوضات أو علناً. وهذا ما يسمى بـ "الفيتو الخفي" الذي يضع دولة واحدة دائمة العضوية في مواجهة بقية الدول في المجلس، هذا إذا كانت هناك مواجهة أو معارضة. وقد تسبب ذلك في عجز مجلس الأمن عن إصدار أي قرار، وخصوصاً فيما يتعلق بحفظ السلم والأمن الدوليين، إذا كان يضرّ بالمصالح الأميركية. ويعدّ تهديد الولايات المتحدة الأميركية باستخدام حق النقض عند مناقشة أي مشروع قرار يتعلق بإدانة إسرائيل مثالاً واضحاً على النقض الخفي الذي غالباً ما يزيد من تعقيد الأزمات الدولية([13]).

ولم تقف الغطرسة الأميركية عند احتكار حق النقض، بل بدأت تستخف بمنظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن. وذلك من خلال اتخاذ قرارات والقيام بتدابير عسكرية من دون تفويض من مجلس الأمن. وهذا ما حدث في حزيران (يونيو) 1991 عندما أعلنت كل من أميركا وبريطانيا وفرنسا منطقة حظر جوي تشمل الأراضي الواقعة شمال العراق، وعندما فرضت في 27 آب (أغسطس) 1992 منطقة حظر جوي جنوب العراق، مدعيةً بذلك أنها تمنع العراق من قمع سكانه في الشمال والجنوب. وقيام الولايات المتحدة وبريطانيا بقصف متكرر بالصواريخ والطائرات المناطق خارج منطقتي الحظر الجوي، يشكل في الحالتين عدواناً بموجب القانون الدولي. وفي كلتا الحالتين، لم يتطرق مجلس الأمن إلى بحث الحالتين منذ عام 1991 وحتى عام 2003، ولم يدرجهما في جدول أعماله، بالرغم من إرسال العديد من المذكرات من قبل الحكومة العراقية آنذاك وإثارة هذين الموضوعين في بيانات مجلس الأمن. والمؤسف أن الأمانة العامة للأمم المتحدة لم تلفت نظر مجلس الأمن إلى هذه الأحداث التي تشكل تهديداً لحفظ السلم والأمن الدوليين بموجب المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة([14])، علماً أن الدولتين المذكورتين لم تتوقفا عن ضرب العراق بالصواريخ والطائرات حتى عام 2003، حين تم غزو العراق. وكل هذا دون أي ردّ فعل من مجلس الأمن.

وبعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وبإعلان الولايات المتحدة "الحرب على الإرهاب"، بدأت واشنطن تكثر من التهديد باستعمال حق النقض حتى أصبح مجرّد التلويح الأميركي برفض مشروع قرارٍ ما في مجلس الأمن يكفي لإسقاط المشروع قبل التصويت عليه. وبذلك تعطل كل نقض غير أميركي. فالغطرسة أو العنجهية الأميركية غيّرت مفهوم حق النقض ومضمونه، وبدا كأن الدول الأربع الأخرى الدائمة في مجلس الأمن قد تأقلمت مع هذا الواقع، ورضيت بالتنازل عن حقها في النقض، واعترفت، مرغمةً، بالهيمنة الأميركية على مقدرات العالم والهيمنة كذلك على إرادة الدول في المنظمة العالمية ومنها مجلس الأمن. ويبدو أن حق النقض قد فقد معناه الحقيقي واكتسب معنى جديداً مفاده أن استخدام حق النقض من قبل الولايات المتحدة يعني خدمة المصالح الدولية السامية وأهمهما حفظ السلم والأمن الدوليين ومنع مجلس الأمن من التمادي في غيه وتجاهل واجباته، وأن استخدامه من قبل الدول الأخرى الدائمة يعني اتخاذ موقف ضد الولايات المتحدة وضد المصالح الدولية السامية([15]).

ويبدو أن الولايات المتحدة قد حلّت محل مجلس الأمن، عملياً، منذ أزمة الخليج الأولى في 2 آب (أغسطس) 1990، عندما سعت لوضع اليد منفردةً على ملف الأزمة وتهميش الأمم المتحدة. وقد حققت خطوة حاسمة على هذا الطريق عندما نجحت في استصدار قرار من مجلس الأمن رقم 687 في العام 1990، عن طريق استخدام شتى الأساليب البعيدة كل البعد عن القانون والأخلاق، وهذا ما أكده جيمس بيكر في مذكراته عن ظروف صدور القرار 678 واستخدام الإغراء والضغط والتهديد وشراء الأصوات لاعتماد القرار. لقد قال: "... كان على الولايات المتحدة أن تقتحم مجلس الأمن في شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، ذلك أن تسلسل رئاسة المجلس ستؤول إلى اليمن في الشهر التالي، واليمن حليف للعراق ومعارض للتحالف. وعملياً فإن أي تصويت على قرار استخدام القوة يجب أن يتم قبل 30 تشرين الثاني (نوفمبر)... لقد التقيت شخصياً مع جميع نظرائي في مجلس الأمن في مسيرة معقدة من التملق والإقتباس والتهديد وأحياناً شراء الأصوات". وهذا يعني أن صناعة الحرب والسلام في العالم أصبحت رهناً بإرادة الولايات المتحدة وحدها وليس بإرادة مجلس الأمن([16]).

وفي 19 آذار (مارس) 2003 كشفت الولايات المتحدة الأميركية النقاب عن وجهها الحقيقي المتمثل في أبشع صورة لها عرفها التأريخ، وذلك من خلال غزو العراق والقيام بقتل آلاف المواطنين الأبرياء، وتشريد الملايين منهم، والقضاء على البنية التحتية، وإشعال الفتنة الطائفية، واغتيال مئات الأساتذة والعلماء وضباط الجيش والطيارين في القوة الجوية الذين شاركوا في الحرب العراقية الإيرانية([17]). وكل ذلك دون تفويض من مجلس الأمن، مستندة بذلك إلى القرار رقم 1441 في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2002، وإلى الفقرة 13 منه التي نصت على التذكير "بأن المجلس حذَّر العراق مراراً أنه سيواجه عواقب خطيرة نتيجة انتهاكاته المستمرة لالتزاماته".

وأُثير البحث حول ما إذا كانت الولايات المتحدة وبعض حلفائها تستطيع الإستناد إلى الفقرة (13) من القرار 1441 التي تتحدث عن العواقب الخطيرة التي يمكن أن يواجهها العراق كي تشن الحرب ضده بحسبانها تتصرف تحت غطاء الشرعية الدولية وقرار مجلس الأمن. وعندما بدا واضحاً أن هذه الفقرة لا تخول حقاً في استخدام القوة ضد العراق. وعندما فشلت الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا وإسبانيا في استصدار قرار جديد من مجلس الأمن يخولها استخدام القوة ضد العراق، سارع وزير الخارجية الأميركي (كولن باول) إلى التصريح في 6 آذار (مارس) 2003 بأن الولايات المتحدة الأميركية ستغزو العراق مع التحالف من الدول الراغبة، سواءٌ بترخيص من الأمم المتحدة أو بدون هذا الترخيص إذا ما تطلب الأمر ذلك([18]).

والجدير بالذكر أن مجلس الأمن عقد عدة اجتماعات بعد غزو العراق في 19/3/2003، وحتى الإعلان عن انتهاء العمليات العسكرية في 8/5/2003، واعتمد قرارات لم تتناول حتى إدانة الغزو الأميركي البريطاني للعراق، ناهيك عن عدم التدخل لوقف الحرب العدوانية، بل اكتفى المجلس بمناقشة الجانب الإنساني. أليس غريباً أن تتم مناقشة الجانب الإنساني، بالرغم من أهميته، قبل مناقشة العدوان باعتباره السبب الأساسي لمناقشة الجانب الإنساني. والأغرب من ذلك فقد عقد مجلس الأمن جلسة يوم 22/5/2003 وأصدر القرار رقم (1483) لعام 2003 الذي أقرَّ فيه الاحتلال. ولأول مرة في تأريخ المجلس يعالج هذا المجلس واقعة احتلال مخالفة للقانون الدولي والميثاق الأممي من دون أن يدينها أو حتّى يستنكرها أو يشير إلى مبادئ القانون الدولي التي لا تجيز استخدام القوة في العلاقات الدولية، وإنما اكتفى في هذا القرار بتوصيف الدول التي قامت بالاحتلال ومسؤوليتها بموجب القانون الدولي الإنساني. لذلك تشكل هذه الجلسة منعطفاً مهماً في تأريخ المجلس وخضوعه للقوى العظمى المتفردة بالعالم([19]).

لقد شكل جموح الولايات المتحدة واللامبالاة بالمنظمة الدولية وبحلفائها في هذه المرحلة تحدياً حقيقياً لبقية الدول الكبرى التي بذلت جهوداً متواصلة للتقليل من ممارسات القوة العسكرية الأميركية الأحادية الجانب، خاصة على صعيد مجلس الأمن الذي يواجه من جانب الولايات المتحدة تهديداً بأحد الخيارين، إما إقرار الخطوط العامة لسياستها (أي إلحاق مجلس الأمن كمؤسسة تابعة للإرادة الأميركية)، وإما تجاوز وجوده([20]). إلا أن ذلك لا يمنع الولايات المتحدة من استخدام الخيارين معاً، فهي تلجأ إلى مجلس الأمن إذا رغبت في إعطاء تصرفاتها غطاءً شرعياً أو إشراك الأمم المتحدة معها في تحمل نفقات الأعمال التي ترغب في القيام بها. فإذا ما وجدت بعض المعارضة بادرت إلى استخدام القوة في سياستها الخارجية والقيام بعمل أحادي الجانب سواءٌ وافقت الأمم المتحدة أم لم توافق، فمواجهة الأخطار التي تهدد الأمن الأميركي أهم من موافقة الأمم المتحدة.

لذلك جاء قرار الحرب على العراق من دون تفويض من مجلس الأمن يضفي الشرعية عليه، قال مايكل ليدن (أحد المحافظين الجدد): "إننا إذا ما أرسلنا الأمم المتحدة إلى العراق... نكون نحن الخاسرين... تذكّروا أن هذه حربنا دفعنا ثمنها بمالنا، وحاربنا بأسلحتنا ونشرنا فيها رجالنا بقدر ضئيل من العون من أصدقائنا"([21]). وقال ريتشاد بيرل (مساعد وزير الدفاع الأميركي) لصحيفة لوفيغارو الفرنسية "إن إدارة العراق من قبل الأمم المتحدة فكرة سيئة". وقال جورج بوش (الرئيس الأميركي السابق)، عندما طلب منه كويزومي (رئيس وزراء اليابان) أن يكون للأمم المتحدة دور في العراق: "يمكن أن أتفهم وجهة النظر هذه، لكن المشكلة هي أن الأمم المتحدة أصبحت قديمة ويجب تغييرها"([22]).

لقد استغلت الولايات المتحدة الأميركية الصمت الرهيب الذي لاذت به الدول الكبرى في مجلس الأمن، وكذلك ضعف منظمة الأمم المتحدة وأمنائها العاملين في العقدين الآخرين، لفرض أجندتها التي تتفق مع سياستها ومصالحها العالمية. وقد وصف بعض الباحثين وأساتذة القانون، ومنهم لي فنشتاين (وهو من الشخصيات الرئيسية التي وضعت تقرير الكونغرس في العام 2004 بشأن إصلاح الأمم المتحدة) كوفي أنان بأنه أمين عام العمل الأحادي الجانب، وصرح في العديد من خطاباته "أن هناك قيماً أسمى من الحصول على موافقة مجلس الأمن". ويذكر (لي فنشتاين) "أن كوفي أنان، وحتى قبل الحرب الأميركية على العراق، كان انتقاده لفشل مجلس الأمن في الوصول إلى قرار بشأن العراق، أكثر منه انتقاداً للسياسة الأحادية التي تنتهجها الولايات المتحدة"([23]).

وهكذا نجد الولايات المتحدة، في كل تحركاتها لفرض الهيمنة، تحرص على أن يكون ملهمها العميق في السياسة الخارجية هو التصرف من جانب واحد ومن دون انتظار موافقة شركائها على ما تعتزم القيام به، وترى أنه يجب عليهم تقديم الدعم والمساندة لها على جميع الأصعدة التي تراها مفيدة لتحقيق مصالحها وأهدافها، وهو موقف معلن عبَّر عنه، من قبل، الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون (1969 – 1974) بالقول: "إننا لسنا مرتبطين بالعالم لأننا قطعنا على أنفسنا تعهدات بذلك، بل لأن مصالحنا هي التي يجب أن تضع تعهداتنا وليس العكس". وهذا ما تطبقه السياسة الأميركية اليوم، وما هو إلاَّ مزيج من الغرور والغطرسة والعنجهية والإستخفاف بالآخرين وحب الذات، وهو الذي جعل الولايات المتحدة تظن أنها بمنأى عن مشاكل الآخرين وأحزانهم، ويحق لها بالتالي أن تدوس على رقاب الآخرين من أجل مصالحها فقط، وتلك هي قمة الصلافة التي تمتاز بها السياسة الأمريكية حتى مع أقرب حلفائها. وتأسيساً على ذلك، وطّن الأميركيون أنفسهم للدخول في مغامرات لا نهاية لها عبّرت عن سياسة بلادهم الحمقاء التي قذفت بهم في خضم مشاحنات وحروب وعداءات عديدة. وسوف تبقى حادثة إلقاء القنبلتين الذريتين في 6 و9 آب (أغسطس) 1945 على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين بمنزلة بداية لتأريخ أمريكي أسود تتابعت فصوله بشكل مثير للدهشة ارتكبت خلاله جرائم دولية بنفسها، أو بالوكالة من خلال الربيبة "إسرائيل". وليس آخر الفصول ما شاهدناه ولا زلنا نشاهده في فلسطين منذ عقود، وفي العراق منذ عام 1991([24]).

العدوان على العراق مثل صارخ على عجز مجلس الأمن:

         تُعد الحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأميركيـة وحليفتها بريطانيا على العراق، في آذار/ مارس 2003، من أكثر حروب العصر الحديث إثارة للمشاكل القانونية، حتى يمكن القول إن هذه الحرب كانت حرباً قانونية قبل أن تكون حرباً عسكرية.

         ولقد أثبتت الأيام والأدلة أن هذه الحرب هي من ضمن استراتيجية أميركية كانت قد وضعت قبل غزو العراق للكويت. ولذلك فمن التقصير في البحث العلمي أن نبحث في موضوع مشروعية هذه الحرب بمعزل عن الدوافع والأسباب التي أدت إليها، وكيف أن قرارات مجلس الأمن كانت عاملاً مساعداً وقوياً في تحقيقها بسبب الهيمنة الأميركية وعجز مجلس الأمن الذي لم يملك من القوة إلا الإنحناء أمامها. لذلك سنبحث عدداً من المواضيع التي أدت في مجموعها إلى هذه الحرب، ومن ثم نبحث في احتلال العراق وعجز مجلس الأمن عن منع هذا الاحتلال أو حتى إدانته:

أولاً:   الأسباب الحقيقية لقيام الحرب على العراق في العام 2003:

         بعد انهيار الإتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، لم تعد القوة العسكرية هي المعيار الأول والرئيسي لتحديد من هي القوة الكبرى في العالم، فقد بدأ العامل الإقتصادي يأخذ أهمية متزايدة. وبنظرة مستقبلية رأت الولايات المتحدة أنه بازدياد أهمية العامل الإقتصادي لن تستطيع أن تكون قوة كبرى وحيدة بعد اليوم، فالإتحاد الأوروبي يعادل ناتجه القومي الناتج القومي للولايات المتحدة، وبدأ الناتج القومي الصيني يقترب من الناتج القومي الأميركي، كما أن القوة الإقتصادية لليابان يمكن تحويلها إلى قوة سياسية وأداة للتأثير والمساومة مع الولايات المتحدة، وذلك بالنظر إلى حجم الإستثمارات اليابانية في الولايات المتحدة وتمويل الرأسمال الياباني لثلث العجز في الميزانية الأميركية. ولذلك كانت أميركا بحاجة إلى ورقة اقتصادية تتعامل بها مع الغرب، ومع الصين، ومع اليابان وتتحكم فيها. من هنا جاءت فكرة السيطرة على النفط ليس لتوفير حاجة الولايات المتحدة فقط، بل لاستعماله أيضاً كسلاح أو ورقة ضغط في علاقات الولايات المتحدة مع القوى الإقتصادية الرئيسية الأخرى في العالم. ومن خلاله تستطيع أن تتحكم في توريده وأسعاره، وبالتالي تكون أوروبا واليابان والصين والهند كلها مرتهنة لها، خصوصاً وأن العراق يمتلك ثاني أكبر احتياطي للنفط في العالم([25]).

ومن ناحية ثانية فإن خروج العراق منتصراً من حربه مع إيران، وبروز دوره في المجال العربي القومي، وثقله في الدفاع عن القضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، جعل من واشنطن والغرب وإسرائيل تشعر بأن النظام العراقي بوضعه الحالي أصبح يشكل خطراً على أمنها وأمن إسرائيل، ومن ثم يجب تدمير قوته العسكرية، وتدمير نفوذه السياسي في محيطه العربي، وبعدها فرض تسوية على الشعب الفلسطيني بشروط إسرائيلية – أميركية. فالقضاء على العراق وعلى النظام الموجود فيه سيساعد على حلّ القضية الفلسطينية لصالح رؤية إسرائيلية – أميركية([26]).

كانت تلك هي أهم الأسباب والدوافع الحقيقية والكامنة التي تقف وراء الحرب الأميركية – البريطانية على العراق، والتي بدأت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها بالعمل على تحقيقها منذ العام 1988م.

ثانياً:  البداية الحقيقية للحرب:

يذكر الدكتور خير الدين حسيب (مدير مركز دراسات الوحدة العربية سابقاً)([27])، نقلاً عن كتاب شوارزكوف الذي نشر فيه مذكراته([28])، (وفيه قسمان: القسم الأول عن فيتنام، والقسم الثاني عن عاصفة الصحراء)، أنه في عام 1988 عُين شوارزكوف قائداً للقوات المركزية الأميركية، وهي ما كانت تسمى قوات التدخل السريع. وفي عام 1989 أرسل شوارزكوف إلى الشرق الأوسط حيث طُلبَ منه، بعد انتهاء الحرب الباردة، تحديد من هم أعداء أميركا في الشرق الأوسط. ويذكر شوارزكوف تفاصيل سفره إلى الخليج وإلى مصر والمقابلات التي أجراها، وأنه عاد أواخر عام 1989 وقدم تقريراً مفاده أن العراق هو الخطر الأول. وكان هناك تدريب سنوي للقوات المركزية، وكان يجري في العادة على أساس أن الإتحاد السوفياتي هو العدو. وبعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الإتحاد السوفياتي، بدأ التدريب السنوي في تموز/ يوليو 1990 على أساس أن العراق هو العدو، علماً أن هذا التحول حصل في أواخر عام 1989. وعلى هذا الأساس بدأ الكلام في العام 1990، وقبل دخول العراق إلى الكويت، عن امتلاك العراق المدفع العملاق وعن معدات صنع القنبلة النووية... إلخ. كل ذلك كان تمهيداً لإيجاد الذرائع لضرب العراق، وكان قد سبق لواشنطن أن أعطت العراق تسهيلات إئتمانية من خلال بنك الإستيراد والتصدير الأميركي أثناء الحرب العراقية – الإيرانية، ولكن ذلك توقف وبدأت الضغوط الإقتصادية على العراق، وكان العراق آنذاك يحاول جدولة ديونه مع معظم الدائنين. وبدأت الضغوط لتسديد هذه الديون لتحقيق الهدف الرئيسي لاحتلال العراق([29]).

ويقول الدكتور عبد الرزاق الهاشمي (وزير التعليم العراقي السابق) إنه "... في العام 1988، وقبل انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية بأيام، اتصل بي السيد جاك شيراك (الرئيس الفرنسي السابق)، حيث كنت سفير العراق في باريس آنذاك، وأبلغني بأننا (أيّ نحن العراقيين) لا نستطيع الجلوس مع الطرف الإيراني على طاولة واحدة لتسوية النزاع، وعليه يجب أن تتدخل كل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية لوضع النقاط الرئيسية لتسوية الخلاف. وطلب مني أن أُبلغ ذلك للحكومة العراقية. وفعلاً اتصلت بالسيد طارق عزيز (وزير خارجية العراق آنذاك) وأبلغته رسالة الرئيس الفرنسي (جاك شيراك)، وأبلغ السيد عزيز رئيس الجمهورية العراقية (صدام حسين) هذه الرسالة، فكان الجواب غير إيجابي وأنه يمكن أن نجلس مع الطرف الإيراني على طاولة واحدة وتسوية النزاع بدون تدخل من أيّ طرف خارجي. وهذا الرد لم يلقَ ترحيباً من السيد شيراك فأبلغني أن الديون التي بذمة العراق – وكانت طويلة الأمد – هي واجبة السداد حالاً"([30]).

ثالثاً:   أخطاء وخطايا أكبر منها:   

في هذا الوقت كان العراق بحاجة لكل دولار لتسديد بعض الديون التي كانت عليه. وبحاجة أيضاً، لإعادة إعمار البلد بعد خروجه للتو من حربه مع إيران. وكانت الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية تضغط على العراق لتسديد ديونه.وفي هذا الوقت قامت الكويت والإمارات، لأسباب غير مقنعة، بزيادة إنتاج النفط، مما أدى إلى انخفاض سعر البرميل من 23 دولار إلى 7 دولارات، نتيجة لزيادة العرض عن الطلب. وأدى ذلك بالتالي إلى انخفاض عائد العراق من نفطه المُصدَّر.

وفي اجتماع قمة بغداد عام 1990، وبحضور الأمير جابر أحمد الصباح (أمير دولة الكويت آنذاك) كرّر الرئيس العراقي (صدام حسين) أكثر من مرة عبارة "قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق"، بالإشارة إلى تصرفات الكويت. وفي ذات الوقت قامت الكويت بحفر نوع من آبار النفط تسمى "الآبار المائلة" قرب الحدود العراقية في منطقة الرميلة من أجل سحب النفط، ليس من احتياطيها الخاص بل من احتياطي العراق. ولم تفلح الجهود التي بذلها العراق من خلال الوساطة السعودية لحل هذه المشكلة([31]).

وأكد السيد خير الدين حسيب هذا الكلام. وكذلك محمد حسنين هيكل في كتابه "حرب الخليج: أوهام القوة والنصر، للعام 1992". وهناك كذلك مراسلات بين المسؤولين في الكويت ووكالة المخابرات الأميركية (السي. آي. إي) حول الضغط الإقتصادي على العراق([32]).

والكاتب لا يبرر غزو العراق للكويت أبداً. فليس للشعب الكويتي أيُّ ذنب بما تقوم به حكومته. والعراق أخطأ بغزو الكويت. صحيح أن الكويت أخطأت في البداية، ولكن لا يمكن معالجة الخطأ بخطايا أكبر. إلاّ أن العراق أقدم على غزو الكويت لأنه كان متوقعاً أن الضربة آتية، سواء اجتاح العراق الكويت أم لا، فنفطه ونفط الخليج كانا مستهدفين من قبل أميركا. وكانت أميركا تعتقد، ومعها إسرائيل، أن العراق عقبة في وجه التسوية ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين(*). وكان العراق خلال الحرب العراقية – الإيرانية قد استفاد من التقانة التي زودته بها أميركا وبريطانيا – لأحداث بعض التوازن العسكري بين العراق وإيران، فبدأ يطور سلاح الردع الذي أصبح يمثل خطراً على استراتيجية أميركا وإسرائيل في المنطقة([33]). ناهيك عن أن العراق يملك موقعاً استراتيجياً مهماً ويعد قلب الوطن العربي.

ونذكر هنا أن السيد طارق عزيز قال للسيد جيمس بيكر (وزير الخارجية الأميركي الأسبق) لدى اجتماعهما في جنيف بتأريخ 9/1/1991، في إطار الأزمة بين العراق والكويت: "... نحن مقتنعون بأن هناك تحالفاً بين الولايات المتحدة وإسرائيل وحكام الكويت سابقاً لتدمير العراق، وقد ضربنا أحد أطراف هذا التحالف، وهو الذي كان باستطاعتنا أن نضربه مباشرة، ومن هنا يأتي الربط، ومن هنا يأتي وصفنا لعملنا بأنه دفاعي"([34]).

وعلى هذا الأساس، ونتيجة لتصرفات الحكومة الكويتية الخاطئة تجاه دولة عربية مجاورة (العراق)، قامت الحكومة العراقية بغزو الكويت بتأريخ 2 آب (أغسطس) عام 1990. ونؤكد مرة أخرى بأننا لا نبرر غزو العراق للكويت، إذا كانت الكويت قد ارتكبت خطأً في ظرف عصيب فلا يجوز معالجة الخطأ بخطايا تحمل وزرها الشعب الكويتي.

رابعاً:  قرارات مجلس الأمن (الحالة بين العراق والكويت):

بعد دخول القوات العراقية إلى الكويت بتأريخ 2 آب (أغسطس) 1990، بعدة ساعات، عقد مجلس الأمن جلسة في الساعة الرابعة وخمس وأربعين دقيقة صباحاً بتوقيت نيويورك بطلب من المندوب الدائم للكويت والمندوب الدائم للولايات المتحدة الأميركية، وأصدر المجلس في نهاية الجلسة القرار رقم 660/1990، وقد جاء فيه أن المجلس يقرر وجود خرق للسلم والأمن الدوليين في ما يتعلق بالغزو العراقي للكويت، وأنه يتصرف بموجب المادتين 38 و40 من ميثاق الأمم المتحدة، وأنه على هذا الأساس:

-       يدين الغزو العراقي للكويت.

-       ويطالب العراق بأن يسحب جميع قواته فوراً ومن دون قيد أو شرط إلى المواقع التي كانت توجد فيها في 1 آب (أغسطس) 1990.

-       ويدعو العراق والكويت إلى البدء فوراً بمفاوضات مكثفة لحل خلافاتهما، ويؤيد جميع الجهود المبذولة في هذا الصدد، وبوجه خاص جهود جامعة الدول العربية.

-       يقرر أن يجتمع ثانية حسب الإقتضاء للنظر في خطوات أخرى لضمان الإمتثال لهذا القرار.

         واعتمد القرار بأكثرية 14 صوتاً وعدم مشاركة اليمن في التصويت([35]).

         وبعد صدور القرار 660/1990 بأربعة أيام صدر القرار رقم 661 في 6 آب (أغسطس) 1990، والذي يتضمن فرض جزاءات دولية شاملة على العراق([36]). ثم تبعته قرارات أخرى تجيز استخدام القوة لتنفيذ قرار فرض الجزاءات، مثل القرار 665 والقرار 670. ثم استمر مجلس الأمن بإصدار القرارات ضد العراق حتى وصل إلى القرار 678 في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1990، الذي أعطى العراق مهلة حتى 15 كانون الأول (يناير) 1991 لكي ينفذ القرارات السابقة الصادرة عن المجلس، وأهمها القرار 660/1990([37]).

         ومن خلال الإطلاع على القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، ابتداءً من القرار 660/1990 حتى القرارات الصادرة بعد احتلال العراق في العام 2003، نلاحظ أنها تتسم بالسمات التالية:

1-   إن هذه القرارات صدرت جميعاً وفقاً للفصل السابع، وتحت بند (الحالة بين العراق والكويت)، باستثناء القرار 688/1991، الذي صدر وفقاً للفصل الرابع. والمستغرب في هذا الأمر أنه حتى بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 واحتلاله فيما بعد ظلّت هذه القرارات تصدر تحت بند (الحالة بين العراق والكويت) وبموجب الفصل السابع.

2-   الإسراع في اعتماد قرارات تتضمن تدابير عقابية ضد العراق من دون انتظار رد فعل العراق على القرار 660/1990.

3-   تفويت جميع الفرص المتاحة لحل عربي إقليمي، كما ورد في الفقرة الثانية من القرار 660/1990، والإسراع بإرسال قوات أميركية إلى المنطقة في اليوم التالي لصدور القرار 661، أي في 7 آب (أغسطس) 1990، واستخدام الجزاءات لتصعيد الأجواء واستبعاد المفاوضات بين العراق والكويت، فقد كان من المفترض أن يعزز مجلس الأمن الظروف الملائمة لتطبيق الفقرة الثالثة من القرار 660، أي البدء فوراً بمفاوضات مكثفة بين العراق والكويت لحل خلافاتهما([38]).

4-   استمرار فرض الحصار الشامل على العراق وعدم انتهاء الجزاءات حتى بعد انسحاب العراق من الكويت، فقد استمر هذا الحصار لمدة 13 عاماً، مما يؤكّد أن الهدف الحقيقي لهذه القرارات ليس إنهاء الاحتلال العراقي للكويت وإنما احتلال أميركي للعراق، وهذا ما حصل بالفعل.        

5-   إن ما ورد في الفقرة الثانية من القرار 678/1990 من استخدام جميع الوسائل اللازمة لم يقتصر على تطبيق العراق للقرار 660/1990 وما تلاه من قرارات، أي الإنسحاب من الكويت، وإنما أضيفت إليه عبارة "وإعادة السلم والأمن الدوليين إلى نصابهما في المنطقة". وهذا يعني أنه حتى لو انسحب العراق من الكويت فإنه (أي العراق) لا يكون قد طبق قرار مجلس الأمن رقم 678/1990، لأن مسألة تهديد السلم والأمن الدوليين تخضع لسلطة مجلس الأمن التقديرية وليست عليها أيّ رقابة دولية. وبالتالي سيبقى العراق يرزخ تحت الحصار إلى أن يقر المجلس (أو الولايات المتحدة) بأن السلم والأمن الدوليين ليسا في خطر ولا يوجد ما يهددهما([39]).

6-   لقد ورد في القرار رقم 660/1990 أن المجلس يتصرف بموجب المادتين 39 و40 من ميثاق الأمم المتحدة. بينما القرار 661/1990، المتضمن فرض جزاءات دولية على العراق، يشير إلى أنه يستند إلى المادة 51 من الميثاق التي تتعلق بحق الدفاع المشروع، في حين أن القرار 687/1990 جاء خالياً من الإشارة إلى أيّ مادة سوى القول بأن المجلس يتصرف بموجب الفصل السابع. لقد كان الأولى بالمجلس أن يشير إلى هذه المادة (51) في القرار 678/1990 وليس في القرار 661/1990. إلا أنه فعل ذلك للربط بين الجزاءات وحق الدفاع المشروع، وهذا دليل على أن القرار 661/1990 يعتبر فرض الجزاءات حرباً على العراق وأنها ليست تدابير معينة اتخذت لحمل العراق على الإنسحاب من الكويت([40]).

         كل ذلك يُثبت بما لا يقبل الشك أن الولايات المتحدة كانت تصوغ مشاريع القرارات ثم تطرحها على مجلس الأمن وليس أمام الأخير إلا أن يقول نعم، سواء بالترغيب أم الترهيب أم شراء التصويت، لتنفيذ سياسة الهيمنة والتوسع والسيطرة على العالم.

خامساً: إخضاع العراق لنظام التفتيش:

استطاعت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة وتحت علمها (وليس تحت علم الأمم المتحدة) تحرير الكويت وتدمير العراق بالكامل وإرجاعه مائة عام إلى الوراء وبمباركة من مجلس الأمن. وانتهت الحرب بوقف إطلاق النار بموجب قرار مجلس الأمن رقم 687 الصادر في 3 نيسان/ أبريل 1991. وبموجبه تم إخضاع العراق لنظام التفتيش، على أن يعلن عن كل ما يملكه من أسلحة دمار شامل ومنشآت وبرامج تصنيع خاصة بها. وهذه البيانات من قبل العراق تخضع بدورها للتحقيق من قبل لجنة الأمم المتحدة الخاصة بشأن بالعراق (أونسكوم)، التي تتولى الاهتمام بمجالات الأسلحة البيولوجية والكيميائية والصواريخ البعيدة المدى، فيما تتولى الوكالة الدولية للطاقة الذرية مجال الأسلحة النووية. وقد أُلزم العراق بالتعاون، إذ ما من دولة كان سيسمح لها باستيراد النفط من العراق قبل أن يقوم مجلس الأمن، بناءً على تقارير المفتشين، بالتأكد من القضاء على كل المواد والبرامج المحظورة([41]).

واستكمالاً للإستراتيجية الأميركية تجاه العراق، وتمهيداً لاحتلاله وإسقاط النظام السياسي فيه، قام مجلس الأمن بإصدار القرار 688 في 5 نيسان/ أبريل 1991، أيّ بعد يومين فقط من إصدار القرار رقم 687/1991 الذي وُصف من أكثر من باحث دولي بأنه معاهدة (استسلام) فرضت على العراق المهزوم عسكرياً بأبعادها السياسية المستقبلية. وهذا ما توضح بالاحتلال الأميركي للعراق الذي استغل آليات تطبيق القرار المذكور لتهيئة البيئة المناسبة للاحتلال([42]).

وقام مجلس الأمن بإصدار القرار 688/1991، وطالب الحكومة العراقية باحترام حقوق الإنسان وبوقف القمع الذي يتعرض له السكان المدنيون في العراق. إلاّ أن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا أعلنت منطقة حظر جوي تشتمل المناطق الواقعة شمال خط العرض 36، وذلك في حزيران/ يونيو 1991 لتطبيق "عملية توفير الراحة" في شمال العراق، وحظر جوي في المناطق الجنوبية، جنوب خط العرض 32، علماً أن الولايات المتحدة وبريطانيا قامتا بقصف متكرر داخل وخارج منطقتي الحظر، وكانتا تزعمان أن مجموعة من قرارات الأمم المتحدة تعطيهما، وفقاً لرأيهما، التفويض القانوني لفرض منطقتي الحظر والقيام بالقصف الجوي. وكان القرار الذي توسلته الحكومتان أكثر من غيره قرار مجلس الأمن رقم 688/1991([43]).

وعودة إلى نظام التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل، ففي هذا الظرف المأساوي الذي لا يحسد العراق عليه، بدأت لجان التفتيش بالدخول إلى العراق وقد ثبت بالدليل أنها تقوم بعمليات "تجسس"(*) أكثر من قيامها بالتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل. وبدأت لعبة "الإثبات". والحقيقة أنها لعبة معقدة وطويلة، استمرت 12 عاماً ادعت فيها الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، دون أن تملك الدليل على ذلك، ودون أن تعلم أين توجد هذه الأسلحة. ومعنى ذلك فرض نتيجة معينة تمثّل وجهة نظر الولايات المتحدة وبريطانيا مقدماً حول عمليات التفتيش، وبالتالي القيام بالضغط على مجلس الأمن للتعامل مع هذه النتيجة المفترضة سلفاً. والملفت للنظر في هذه المسألة وبعكس طرق الإثبات التي تفرض على من يدعي شيئاً عبء الإثبات، أن الولايات المتحدة ابتكرت نظرية جديدة للإثبات مفادها: أن الولايات المتحدة تدعي، ولا يوجد لديها دليل إثبات، والواجب على العراق إما إعطاء دليل لادعاء الولايات المتحدة أو نفي هذا الإدعاء وتقديم دليل على أنه لا يملك أسلحة دمار شامل، أو تقديم دليل على أنه دمر هذه الأسلحة. ولا يكفي التصريح بذلك، وإلاّ انتهك العراق قرارات مجلس الأمن الدولي.

وهذا ما أكده وزير الدفاع الأميركي، دونالد رامسفيلد، في حديث مع هانز بليكس عندما قال: "إن غياب الدليل ليس دليل غياب"([44]). صحيح أن العراق كان يمتلك برنامجاً نووياً وطنياً اتخذ مُنذ عام 1987 صيغة مشروع البيتروكيمياويات (PC3) وكان المسؤول السياسي المشرف على هذا البرنامج حسين كامل (وزير الصناعة والتصنيع العسكري)، إلا أن هذا البرنامج واجهته عدة إشكالات، بعضها يعود إلى ظروف موضوعية، وبعض الآخر يعود إلى المنهجية التي كان يدار بها البرنامج من قبل حسين كامل. وفي العام 1991، وبعد دخول المفتشين الدوليين إلى العراق وفشل حسين كامل في إخفاء المعدات والأجهزة، اتخذ الرئيس العراقي (صدام حسين) قرارين: أولهما تشكيل لجنة تتولى تصريف شؤون العلاقة بين العراق والوكالة الدولية. وكانت هذه اللجنة برئاسة السيد طارق عزيز وعضوية اللواء صابر الدوري (رئيس جهاز المخابرات)، وقصي صدام حسين (المشرف على الحرس الجمهوري الخاص)، وأحمد حسين خضير (وزير الخارجية)، ومحمد سعيد الصحاف (وزير الدولة للشؤون الخارجية). أما القرار الثاني فيتضمن تدمير جميع مخلفات البرنامج النووي، على أن يتولى الحرس الجمهوري الخاص تنفيذ عملية التدمير. وفعلاً بدأ هذا الحرس بتدمير جميع المعدات والأجهزة بالمتفجرات، دون تدوين محضر بإجراءات التدمير وسجل بالمعدات والمواد التي دمروها([45]).

وفي كل مرة كان المفتشون يفشلون فيها في العثور على أسلحة الدمار الشامل يصفون العراق بأنه لا يتعاون معهم، ومن ثم يبدأ القصف الأميركي – البريطاني على العراق، من غير تفويض من مجلس الأمن، وبتصرف انفرادي يثبت عجز المجلس عن اتخاذ أي موقف إزاء ذلك. وهكذا أصبح العراق بين مطرقة القصف الجوي والبحري وسندان قرارات مجلس الأمن المليئة بالتهديد والوعيد، والتي ازداد عددها بشكل لم يعد العراق يعرف ما عليه أن يطبق منها وما هو القرار "المرجع" الذي يستطيع أن يستند إليه. وفي الوقت الذي كان مجلس الأمن يطلب من العراق تنفيذ قراراته، كانت الولايات المتحدة وبريطانيا تقوم بشن هجمات على العراق. ويمكن أن نشير إلى أهم هذه الهجمات:

1- بتأريخ 17 كانون الثاني / يناير 1993 قصفت البوارج الأميركية الموجودة في الخليج العربي المجمع الصناعي في الزعفرانية قرب بغداد بحجة أن المجمع يضم منشأة نووية([46]).

2- بتأريخ 11 آذار / مارس 1994، وبعد زيارة الرئيس الأميركي جورج بوش الكويت، قامت القوات الأميركية بقصف العراق بمجموعة من الصواريخ من بوارجها في الخليج العربي بحجة أن المخابرات العراقية كانت مشاركة في خطة لاغتيال الرئيس بوش عند زيارته الكويت([47]).

3- وجه السيد مسعود البررزاني رسالة إلى الرئيس العراقي (صدام حسين) بتأريخ 22 آب (أغسطس) 1996، بيّن فيها أن مدينة أربيل تتعرض لعدوان مشترك من مجموعة الطلباني وإيران. وطلب تدخل القوات المسلحة العراقية لمساندة حزبه ودفع الخطر الأجنبي. وقررت الحكومة العراقية تقديم المعونة العسكرية إلى البرزاني. وكان ردّ فعل الولايات المتحدة على ذلك أن ضربت العراق بالصواريخ في يوم 3 أيلول (سبتمبر) 1996. وفي اليوم ذاته، أرسلت وزارة الخارجية الأميركية رسالة إلى العراق، أكدت فيها أنه تمّ توسيع منطقة الحظر الجوي في الجنوب من خط العرض 32 إلى خط العرض 33 شمالاً.

4- بتأريخ 16 كانون الأول (ديسمبر) 1998، وبأمر من الرئيس الأميركي بيل كلينتون، تم توجيه ضربات جوية لمدة أربعة أيام على أهداف أمنية وعسكرية في العراق بحجة أنها تسهم في قدرة العراق على إنتاج أسلحة دمار شامل وخزنها وصيانتها. وأطلق على الهجوم اسم "عملية ثعلب الصحراء". ويذكر هانز كريستوف فون سبونيك (المسؤول الدولي عن أمن موظفي الأمم المتحدة في العراق، سابقاً)، أن 200 مدني فقدوا أرواحهم عدا العسكريين، وتم تدمير 70 مبنى في بغداد وحدها.

5- أُعلن في 25/1/1999 عن وقوع غارة صاروخية أميركية على حيّ في البصرة، تسبب في وقوع خسائر بشرية ومادية كبيرة. وفي 1/3/1999 تم قصف إحدى المنشآت النفطية العراقية في شمال العراق. وتعرضت بغداد في يوم 16/2/2001 لغارة جوية، وأعلن أن الطائرات الأميركية والبريطانية دمرت مواقع صواريخ سام، المضادة للطائرات، في جنوب بغداد وخارج إطار فرض حظر الطيران. وأعلن الرئيس جورج بوش بعدها أنها عملية روتينية([48]).

         وبالرغم من جميع هذه الأعمال العدوانية لم ينظر مجلس الأمن في أسبابها وظروفها أو القيام بإدانتها، ولم يحدد المسؤول عنها. وبالرغم من إرسال العراق عدة مذكرات إلى الأمين العام للأمم المتحدة ورؤساء مجلس الأمن يطالب فيها بإتخاذ التدابير اللازمة لوقف العدوان، إلا أن المجلس لم يدرجها في جدول أعماله، أو يناقشها، وبالتالي لم يتخذ أيّ تدبير بشأنها([49]).

         بعد "عملية ثعلب الصحراء" رفضت الحكومة العراقية عودة اللجنة الخاصة بالتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل ما لم ترفع عنه العقوبات. وبعد مداولات في مجلس الأمن في كانون الأول (ديسمبر) 1999 اتخذ المجلس قراراً جديداً يحمل الرقم 1284، تم بموجبه تغيير اللجنة الخاصة بشأن العراق (أونسكوم) بلجنة الأمم المتحدة للمراقبة والتحقيق والتفتيش (أونموفيك). وتضمن القرار إمكانية تعليق العقوبات في حال تعاون العراق على كل الصعد، وشجع مهمات نزع السلاح المتبقية([50]).

         ورفض العراق هذا القرار ولم يسمح بعودة فرق التفتيش إلاّ في 16 أيلول (سبتمبر) 2002، على أثر تهديدات أمريكية. فقد تلقى الأمين العام للأمم المتحدة (كوفي أنان) رسالة رسمية من وزير خارجية العراق (ناجي صبري)، في التأريخ المشار إليه، تنص على "السماح بعودة مفتشي الأمم المتحدة إلى العراق من دون أي شرط". إلا أن كل من الولايات المتحدة وبريطانيا كانتا تحضّران لقرار جديد في مجلس الأمن حول التفتيش. وكانت المناقشة حول إصدار قرار جديد تتم خلف الكواليس. وفعلاً تم إعداد مشروع قرار من قبل الدولتين، وتم تسليم السيد هانز بليكس نسخة منه في نهاية شهر أيلول (سبتمبر) 2002. وعلق هانز بلكس على مشروع القرار بالقول: "تسلمت نصاً أوقف الشعيرات القليلة الباقية في رأسي. وكأني أقرأ وثيقة لوزارة الدفاع الأميركية بدلاً من نص صاغته الأمم المتحدة"([51]).

سادساً: القرار 1441/2002 واحتلال العراق في العام 2003:

في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2002 أصدر مجلس الأمن القرار رقم 1441 بالإجماع. وتضمن القرار ديباجة تتكون من 17 فقرة. أما الفقرات العاملة فبلغ عددها 14 فقرة. وقد جاء القرار بصيغة صعبة جداً وتعجيزية من حيث التطبيق، فقد خلط بين موضوعات عدة، فتحدث عن أسلحة الدمار الشامل وعن تصدير الإرهاب وعن حقوق الإنسان في العراق، ومشكلة المحتجزين الكويتيين والممتلكات الكويتية. جاء في أهم فقراته ما يلي:

1-   إن العراق كان ولا يزال في حالة خرق جوهري لالتزاماته المنصوص عليها في القرارات ذات الصلة، بما في ذلك القرار 687/1991، ولا سيّما امتناعه عن التعاون مع مفتشي الأمم المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذريّة.

2-   منح العراق بموجب هذا القرار فرصة أخيرة للإمتثال لالتزاماته المتعلقة بنزع السلاح بموجب قرارات المجلس ذات الصلة.

3-   إن على حكومة العراق أن تقدم إلى لجنة الرصد والتحقيق والتفتيش والوكالة الدولية للطاقة الذريّة، وإلى المجلس، في موعد لا يتجاوز 30 يوماً من تأريخ هذا القرار، بياناً دقيقاً ووافياً وكاملاً عن الحالة الراهنة لجميع جوانب برامجها الرامية إلى تطوير أسلحة كيميائية وبيولوجية ونووية وغيرها من نظم الإيصال.

4-   إن على العراق أن يوفر للجنة الأمم المتحدة للرصد والتحقيق والتفتيش وللوكالة الدولية للطاقة الذرية إمكانية الوصول فوراً، ومن دون أي عوائق أو شروط أو قيود، إلى أي مسؤول أو شخص وإلى كل المناطق والمرافق والمباني والمعدات والسجلات ووسائل النقل التي تود أن تفتشها.

         يتبيّن من نص القرار وجود اتهام من دون أي دليل، وتهديد واضح، ومطالبة العراق بشروط تعجيزية، وإعطاء أعضاء كل من لجنة الرصد والتحقيق والتفتيش، وأعضاء الوكالة الدولية للطاقة الذريّة، صلاحيات وحصانات تفوق تلك التي يتمتع بها رئيس الجمهورية العراقية نفسه. ويعد هذا القرار من أشد القرارات التي صدرت في تأريخ المنظمة الدولية.

         ونؤكد أن العراق كان، منذ العام 1991، لا يملك أي برنامج نووي أو أي أسلحة دمار شامل. وهذا ما أكده الرئيس العراقي (صدام حسين) في مقابلة خاصة مع الدكتور خير الدين حسيب، بعد صدور القرار 1441، عندما قال: "ليس لدي أسلحة دمار شامل. أُذْكر ذلك شهادة للتأريخ"([52]).

         وهذا ما أكده أيضاً الخبيران العراقيان (جعفر ضياء جعفر، ونعمان سعد الدين النعيمي) المعنيان بنزع أسلحة الدمار الشامل في العراق، عندما قالا: "نستطيع أن نؤكد ونجزم بأن العراق لم يعد يمتلك أي سلاح للدمار الشامل بعد تدميره الأحادي الجانبي لجميع مكوناته صيف عام 1991، ولم يجدد نشاط أي منها، إذ لم يعد يمتلك البنى الإرتكازية لمعاودة هذا النشاط، ناهيك عن الحصار الجائر الذي قاسى منه العراقيون المرارة والبؤس والشقاء، ومن بينهم العلماء"([53]).

         وبالرغم من خطورة وأبعاد القرار (1441) الذي يتضمن إنذاراً وتهديداً للعراق، لم يعتمد المنظور الأميركي بتلقائية اللجوء إلى استخدام القوة. بل كان يجب الرجوع إلى مجلس الأمن في حالة حصول أي خرق مادي، وكان على المجلس أن يتصرف، بعد تقييمه للخرق المادي، بما يراه مناسباً. وهذا ما أكدت الفقرات (4 و11 و12) من القرار المذكور.

         وهذا ما أكده أيضاً مندوبو الدول الثلاث (فرنسا، وروسيا، والصين)، وكذلك جميع الأعضاء غير الدائمين ومنهم سوريا، التي أخذت ضمانات، من خلال الإتصالات التي جرت على أعلى المستويات، بأن هذا القرار لا يؤدي إلى شن الحرب على العراق. ولكن الولايات المتحدة وبريطانيا أعطيتا الحق لنفسهما في تجاوز القرار، واتخاذ التدابير اللازمة في حال عدم قيام مجلس الأمن بأي تصرف عند حدوث خرق مادي للقرار 1441 أو عند إثبات عدم التعاون من قبل العراق.

         ولو اطلعنا على كلمات مندوبي الدول الخمس الدائمة، عقب إصدار القرار 1441، للاحظنا أن مندوبي الدول الثلاث (روسيا، وفرنسا، والصين) قد أكدوا عدم السماح باستخدام القوة تلقائياً، وجوب الرجوع إلى مجلس الأمن لاتخاذ الموقف الذي يراه مناسباً([54]).

         وعلى هذا الأساس وافق العراق على هذا القرار، وبدأت أول عملية تفتيش في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2002. وكانت عمليات التفتيش تسير على ما يرام. وأبدى العراق تعاونه الكامل والسماح للمفتشين بالدخول إلى المواقع الرئاسية الخاصة وإجراء المقابلات مع المسؤولين والأشخاص العاديين. وكذلك قام العراق، في 8/12/2002، بتقديم بيانٍ بكل ما كان يملكه من برامج ومخططات ومعلومات بخصوص التطوير السلمي في المجال البيولوجي، وبكل ما يخص تطوير الصواريخ. إلا أن البيان لم يعجب الولايات المتحدة الأميركية لأنه كان خالياً من أي دليل يثبت أن العراق قد قام بخرق مادي.

         وبدأ صبر الولايات المتحدة ينفد، فراحت تطالب العراق "بقرار استراتيجي" يصدر عن الرئيس العراقي ويؤكد عدم نيّة العراق امتلاك أي أسلحة نووية. وحاولت بطرق اتسمت بالخداع والكذب على مجلس الأمن والرأي العام الدولي والأميركي، من أجل إثبات "الدليل المادي الدامغ" على خرق العراق للقرار 1441، فوقع الإختيار على كولن باول (وزير الخارجية الأميركي آنذاك) لعرض حالات الخرق الملموسة من جانب العراق. وهذه الطريقة في عرض الأدلة لها سوابق، فالصور التي عرضها آدلي ستيفنسون (مندوب أميركا في الأمم المتحدة) على مجلس الأمن في عام 1962 خلال قضية الصواريخ الكوبية، حققت نجاحاً كبيراً في إقناع العالم بالأمر. وفي 5 شباط (فبراير) 2003، غصّت قاعة المجلس بالدبلوماسيين والصحافيين الذي كانوا يودّون مشاهدة أدلة قاطعة. وبدأ باول ورئيس وكالة الإستخبارات الأميركية (جورج تينيت) بعرض صور منشآت نقالة ادّعيا أنها لتصنيع الأسلحة البيولوجية، وعرض بعض الأشرطة الصوتية المسجلة زاعمين أنها تعود إلى مسؤولين عراقيين وتبيّن كيفية نقل المواد وإزالتها وماهية التعليمات المهمة التي حُذفت ([55]).

         إلاّ أن هذا العرض البهلواني لم يمر مرور الكرام، لا على الوكالة الدولية للطاقة الذريّة، ولا على لجنة التحقيق والتفتيش، اللتين شعرتا بأن باول يريد إظهار ما تحتاج إليه الولايات المتحدة من إثباتات لإقناع الرأي العام الأميركي والعالم أجمع بوجهة نظرها، ولم تقنع تلك المسرحية الخبراء الروس الذين كتبوا، في تحليل لهم، أن المعلومات الأميركية لا تتفق مع الصور التي حصلوا عليها خلال سنوات طويلة من عمل الأمم المتحدة والوكالة الدولية والتفتيش في العراق، وأن هذه المعلومات تحتاج إلى دراسة مفصلة تقوم بها لجنة الأمم المتحدة للمراقبة والتحقيق والتفتيش والوكالة الدولية للطاقة الذريّة.

والغريب المخجل أن كولن باول صرح بعد انتهاء العدوان على العراق أنه كان غير صادق في عرضه المعلومات على مجلس الأمن وأن ضميره يؤنبه على ذلك([56]).

وبالرغم من كل هذه التأكيدات على عدم امتلاك العراق أسلحة دمار شامل استمرت الولايات المتحدة تعمل على قدم وساق للتأكيد على أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، وأصرت على الخيار العسكري والتسويق للحرب والإدعاء بأن خيار الحرب لا يتطلب إصدار قرار جديد من المجلس، وأن المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة تبيح للدول التصرف على أساس إفرادي أو جماعي في حالة الدفاع عن النفس، وبأن أميركا لا تحتاج إلى إرجاء دفاعها عن نفسها إلى حين ينتهي العراق من تحضيراته للهجوم عليها.

وهكذا بدت الولايات المتحدة، بترويجها للحرب على العراق، مستخفةً بالمجتمع الدولي، وخصوصاً من خلال تصويرها للعراق بأنه دولة تريد الاعتداء على الولايات المتحدة، علماً أن القوات الأميركية بلغ عددها في الخليج العربي 250.000 جندي مع وجود البارجات المحملة بالطائرات والدبابات وكافة المعدات. لا بل أكثر من ذلك فإنها راحت تفسر المادة (51) تفسيراً يتسق مع أهدافها والإدعاء بأن هذه المادة تبيح التحرك العسكري الفردي الوقائي.

وعقد مجلس الأمن قبل العدوان على العراق، عدة جلسات كان أولها في 27/1/2003 وآخرها في 19/3/2003، أي قبل الحرب بعدة ساعات. وساد فيه اتجاهان: الأول يتمثل في الولايات المتحدة وبريطانيا وإسبانيا، هي تدعو إلى الحرب. والثاني يتمثل في باقي أعضاء المجلس، بما فيهم الثلاثة الدائمون (روسيا، وفرنسا، الصين)، الذين اعتبروا أن العراق لم يشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين، وإنه ليس هناك حالة عدوان صريحة تتطلب استخدام القوة العسكرية – كما تدعى الولايات المتحدة وحلفاؤها – وبالتالي فإن أي تصرف انفرادي سيعد غير مشروع، ولا يتفق مع القوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة. وسعى التيار المعارض للحرب، بكل قوة، لعدم إصدار قرار يفوض الولايات المتحدة شن عمل عسكري ضد العراق. ولكنه لم يستطع أن يمنع الحرب.

لقد بدأت الولايات المتحدة خلال شهر شباط (فبراير) وآذار (مارس) 2003، بالتحرك والإتصال بعواصم دول مجلس الأمن، وممارسة الضغوط وتقديم الإغراءات للموافقة على مشروع قرار كانت قد أعدّته، يعتبر أن العراق أخفق في تنفيذ القرار 1441 ويعطي الحق في شن الحرب عليه. وفي المقابل قامت كل من روسيا وفرنسا بحشد أصوات الدول غير الدائمة لإسقاط المشروع الأميركي تحاشياً لاستخدام حق النقض. وقامت الولايات المتحدة، كعادتها، باستخدام أسلوب الرشوة أو التهديد بصورة علنية للتأثير في تلك الدول. ومع ذلك لم تستطع الولايات المتحدة وبريطانيا تأمين الأصوات التسعة المطلوبة، لاسيما بوجود ثلاثة دول دائمة العضوية لا تؤيّد المشروع، مع دولة أوروبية هي ألمانيا وأخرى عربية هي سوريا. وأعلنت بقية الدول غير الدائمة، وهي من دول حركة عدم الإنحياز أو من الدول الإسلامية، التزامها بموقف حركاتها وشعوبها المخالف للحرب، مما حدا بالولايات المتحدة وحليفتيها في المجلس (بريطانيا وإسبانيا) إلى سحب المشروع، علماً أن الولايات المتحدة عزت سحب المشروع إلى نقض متوقع من فرنسا. وكان ذلك غير صحيح، وإنما جاء بهدف إخفاء فشلها في حشد التأييد لمشروعها الذي سقط لعدم حصوله على تسعة أصوات([57]).

وفجر يوم 20 آذار (مارس) 2003، بدأ العدوان، وخلال يومي 20 و21 آذار (مارس) ألقى الغزاة أكثر من ألفي صاروخ، ونفذوا أكثر من ألف غارة جويّة.

والغريب أن مجلس الأمن عقد جلسة في 26/3/2003، بناءً على طلب مندوب العراق ومندوب ماليزيا. وكان أول المتحدثين كوفي أنان (الأمين العام) الذي وصف هذا العمل بعدم المشروعية، وقال: "سيتساءل العديدون من أرجاء العالم عما إذا كان مشروعاً لبعض الدول الأعضاء القيام بهذا العمل المشؤوم الآن، وهو عمل له عواقب بعيدة الأثر تتجاوز الأبعاد العسكرية المباشرة قبل التوصل أولاً إلى قرار جماعي يتخذه هذا المجلس". وحضر في هذه الجلسة 45 مندوباً من عدة دول، بما فيهم أعضاء مجلس الأمن. وانتهت الجلسة من دون إصدار أية توصية، أو إدانة للاحتلال، أو اتخاذ أي قرار أو بيان رئاسي يدين العمل العسكري ضدّ العراق أو يطلب وقفه فوراً وانسحاب القوات الغازية. كما لم يتقدم أحد من أعضاء المجلس بأي مقترح. ولم يلفت الأمين العام نظر المجلس إلى الوضع الناجم عن العمل العسكري كونه يهدد السلم والأمن الدوليين، عملاً بالمادة 99 من الميثاق. واكتفى الأمين العام بالحديث عن الجانب الإنساني الصعب للشعب العراقي دون المطالبة بإنهاء سببه. وكانت محاولة لصرف المجلس عن دوره الأساسي في حفظ السلم والأمن الدوليين([58]).

واجتمع المجلس بعد هذه الجلسة عدة مرات ولم يتخذ أيّ إجراء تجاه هذا الغزو، حتى يوم 22/5/2003، حين تم إصدار القرار 1483 الذي أقرّ بالاحتلال دون إدانته، وهي المرة الأولى في تأريخ مجلس الأمن التي يقر فيها بحالة احتلال ولا يقوم بإدانتها، أو حتى استنكارها أو الإشارة إلى مبادئ القانون الدولي التي لا تجيز استخدام القوة في العلاقات الدولية.

ويلاحظ أن القرار (1483) قد صدر تحت بند (الحالة بين العراق والكويت)، وأن جميع القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن، منذ 2/8/1990 وحتى بعد احتلال العراق، صدرت أيضاً تحت هذا البند. والقرار أنه يتضمن بعض التناقضات والمفارقات القانونية. فقد جاء في الفقرة الثانية من الديباجة أن المجلس يؤكد من جديد سيادة العراق وسلامته الإقليمية، في حين جاءت الفقرة 13 من الديباجة أن المجلس يلاحظ الرسالة المؤرخة في 8 أيار (مايو) 2003 الصادرة عن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، ويسلم بالصلاحيات والمسؤوليات والإلتزامات المحددة على هاتين الدولتين بوصفهما دولتين قائمتين بالاحتلال. فكيف يمكن التوفيق بين تأكيد سيادة العراق وسلامته الإقليمية، بينما يعتبر العراق محتلاً، فالاحتلال يشكل بحدّ ذاته انتهاكاً للسيادة والسلامة الإقليمية لأي بلد، كما استقرّت على ذلك قرارات الأمم المتحدة والفقه الدولي واجتهادات محكمة العدل الدولية؟ وجاء كذلك في الديباجة أن المجلس يُذكّر بجميع قراراته السابقة، ويؤكد أهمية نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية. وربطت القرارات (687/1991 و1284/1999 و1441/2002) بين نزع أسلحة الدمار الشامل ورفع الجزاءات الدولية التي فرضت على العراق. ولكن الفقرة العاملة العاشرة من القرار 1483/2003 جاءت لترفع الجزاءات دون التحقق من نزع أسلحة الدمار الشامل. وهذا يدل على أن استمرار الجزاءات لمدة أعوام طويلة لم يكن بهدف نزع أسلحة الدمار الشامل وإنما رغبةً في احتلال العراق والقضاء على النظام السياسي فيه([59]).

وإضافة إلى ذلك لم يرد أي نص في القرار يطلب من القوات المحتلة الإنسحاب من العراق. وأطلقت تسمية مختصرة على هذه القوات هي "السلطة" دون عبارة "سلطات الاحتلال. وهذه التسمية لم توضع اعتباطاً، ففيها تحايل على القانون الدولي لما تحمله من معانٍ تختلف عن عبارة "سلطات الاحتلال".

إن قرارات مجلس الأمن تجاه العراق، منذ القرار رقم 661/1990 وحتى القرار 1483/2003، لم تكن قرارات تتضمن تدابير لتصحيح مسار سلوك النظام السياسي في العراق وفقاً لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، وإنما جاءت لتهيئة الظروف لاحتلال العراق. وهذا ما تبين بعد الاحتلال عندما لم تثبت صحة الإدعاءات التي طرحتها الولايات المتحدة حول وجود أسلحة دمار شامل في العراق، مما يؤكد أن الجهة التي صنعت القرارات ضدّ العراق في مجلس الأمن لم تكن الدول الأعضاء فيه، بل الولايات المتحدة وحلفاؤها. وهذا يطرح تساؤلاً عن صدقية الأمم المتحدة التي أصبحت طرفاً عاجزاً إزاء الإنتهاكات الصارخة لميثاقها وللقانون الدولي من قبل بعض أعضائها، ومن دون أن تتمكن من اتخاذ أي تدابير سوى إصدار التقارير التي تجابه بالصمت المطبق من قبل مجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان.

وكل ذلك يؤكد، بوضوح، أن مجلس الأمن ساعد الولايات المتحدة في كل انتهاكاتها الدولية عن طريق إصدار قرارات تسوّغ لها هذه الإنتهاكات وتضفي عليها الشرعية الدولية، أو عن طريق المواقف السلبية من قبل أعضائه تجاه هذه الإنتهاكات. وما كان ذلك إلا بسبب الهيمنة الأميركية على مجلس الأمن من ناحية، وعجز المجلس المستمر عن القيام بواجباته الملقاة على عاتقه بموجب الميثاق من ناحية أخرى. وختاماً يمكن القول إن الحرب الأميركية على العراق تعدّ مثالاً صارخاً على عجز مجلس الأمن، يضاف إلى الأمثلة السابقة، وأهمها الصراع العربي – الإسرائيلي.


) *) باحث في القانون الدولي.

([2])   محمد المجذوب، التنظيم الدولي: النظرية والمنظمات العالمية والإقليمية والمتخصصة، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2006، ، ص 282. 

([3])   إينيس ل. كلود، النظام الدولي والسلام العالمي، ترجمة: عبد الله العريان، دار النهضة العربية ومؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، القاهرة، 1964، ص 20.

([4])   محمد طلعت الغنيمي، التنظيم الدولي: الأحكام العامة في قانون الأمم المتحدة والوكالات المتخصصة، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1974، ص 567. 

([5])   إينيس ل. كلود، مصدر سابق، ص 149 – 150. 

([6])   محمد المجذوب، مصدر سابق، ص 252. 

([7])   المصدر نفسه، ص 254. وكذلك هالة سعودي، الولايات المتحدة والأمم المتحدة. راجع ذلك في كتاب: الأمم المتحدة: ضرورات الإصلاح بعد نصف قرن وجهة نظر عربية. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1996، ص 22. 

([8])   حسن نافعة، دور الأمم المتحدة في تحقيق السلم والأمن الدوليين في ظل التحولات العالمية الراهنة. راجع كتاب: الأمم المتحدة، ضرورات الإصـلاح بعد نصف قرن، وجهة نظر عربية، مصدر سابق، ص 159. وكذلك: فتيحة ليتيم، نحو إصلاح منظمة الأمم المتحدة لحفظ السلم والأمن الدوليين، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2011، ص 125 – 127. 

([9])   محمد المجذوب، مصدر سابق، ص 253.

 [10] المصدر:Changing patterns in the use of the veto in the Security Council.

http://www.globalpolicy.org/security-council/tables-and-charts-on-the-security-council-0-82-/use-of-the-veto.html (20/4/2011).

([11]) راجع دراسة صلاح الدين عامر، القانون الدولي في عالم مضطرب، في مجلة السياسة الدولية، العدد 153، القاهرة، 2003، ص 90. 

([12]) حسن نافعة، دور الأمم المتحدة في تحقيق السلم والأمن الدوليين في ظل التحولات العالمية الراهنة، مصدر سابق، ص 160. 

([13]) فتيحة ليتيم، مصدر سابق، ص 125.

([14]) باسيل يوسف بجك، العراق وتطبيقات الأمم المتحدة للقانون الدولي (1990 – 2005) دراسة توثيقية تحليلية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2006، ص 365 – 366.

([15]) محمد المجذوب، مصدر سابق، ص 271. 

([16]) باسيل يوسف بجك، مصدر سابق، ص 99. وكذلك محمد المجذوب، مصدر سابق، ص 354. 

([17]) راجع دراسة حسين الرشيد، اغتيال الكفاءات العراقية، تراجع علمي ومستقبل مجهول، في مجلة الحضارة، مركز الأمة للدراسات والتطوير، العدد الأول، كانون الثاني، القاهرة، 2009، ص 191 – 213. 

([18]) صلاح الدين عامر، مصدر سابق، ص 86. 

([19]) باسيل يوسف بجك، مصدر سابق، ص 445 – 451. 

([20]) ديفيد م. مالون، الأمم المتحدة والولايات المتحدة، والإتحاد الأوروبي والعراق: تحديات متعددة للقانون الدولي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، أبوظبي، 2005، ص 21. 

([21]) مجلة المستقبل العربي، الأمم المتحدة أم الولايات المتحدة، افتتاحية العدد 301، آذار (مارس)، بيروت، السنة 2004، ص 6.

([22]) فتيحة ليتيم، مصدر سابق، ص 286.

([23]) المصدر نفسه، ص 290 – 291.

([24]) راجع دراسة رافع الفلاحي، الولايات المتحدة الأمريكية، بعض مفاهيم القوة وموجباتها، في مجلة الحضارة، مصدر سابق، ص 104 – 105.

([25]) خير الدين حسيب، العراق من الاحتلال إلى التحرير، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2006، ص 106. وكذلك هالة السعودي، الولايات المتحدة والأمم المتحدة، مصدر سابق، ص 43. ولمزيد من المعلومات حول الدوافع والأهداف الأمريكية لاحتلال العراق، يُراجع سلام عودة المالكي، الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، الدوافع والأهداف. العارف للمطبوعات، بيروت، 2010، ص 135 وما بعدها.   

([26]) طه عثمان المفرجي، المسؤولية القانونية الدولية للولايات المتحدة الأميركية في احتلال العراق، دار النهضة العربية، القاهرة، 2010، ص 145 – 146.      

([27]) خير الدين حسيب، العراق من الاحتلال إلى التحرير، مصدر سابق، ص 106.      

([28]) H. Norman Schwarzkopf, It Doesn't Take a Hero: General H. Norman Schwarzkopf, Autobiography, written with Peter Petre (London: Bantam Press, 1992).                           

([29]) خير الدين حسيب، مصدر سابق، ص 107.       

([30]) من محاضرة ألقاها الدكتور عبد الرزاق الهاشمي في أواخر شباط/ فبراير 2003، علينا نحن طلبة الدراسات العليا في جامعة المستنصرية/ المعهد العالي للدراسات الدولية والسياسية العليا.    

([31]) عبد الرزاق الهاشمي، مصدر سابق.      

([32]) خير الدين حسيب، مصدر سابق، ص 107.      

(*)  راجع، على سبيل المثال لا الحصر، الوثيقة الأميركية التي نشرت جريدة الشرق الأوسط ترجمة عربية كاملة لها في 2/1/2004، حول المقابلة التي تمت في السفارة العراقية في باريس بين هنري كيسنجر (وزير الخارجية الأميركي) والدكتور سعدون حمادي (وزير خارجية العراق) آنذاك، في 17/12/1975، والموقف الذي عبر عنه الدكتور حمادي حول موقف العراق من إسرائيل كدولة. راجع هذه الوثيقة في كتاب: خير الدين حسيب، مصدر سابق، ص 456.     

([33]) خير الدين حسيب، مصدر سابق، ص 108. وكذلك، عبد الرزاق الهاشمي، مصدر سابق.      

([34]) فؤاد البطاينة، مصدر سابق، ص 172 – 173.      

([35]) راجع نص القرار على الموقع الإلكتروني للأمم المتحدة:

http://www.un.org/arabic/docs/SCouncil/SC-Res/S-RES-660. (14/6/2011).      

([36]) راجع نص القرار على الموقع الإلكتروني للأمم المتحدة:

http://www.un.org/arabic/docs/SCouncil/SC-Res/S-RES-661. (14/6/2011).               

([37]) طه عثمان المفرجي، مصدر سابق، ص 150.

([38]) باسيل يوسف بجك، مصدر سابق، ص 89، وكذلك ص 145.      

([39]) باسيل يوسف بجك، مصدر سابق، ص 111.      

([40]) المصدر نفسه، ص 101.      

([41]) هانز بليكس، نزع سلاح العراق: الغزو بدلاً من التفتيش. ترجمة، داليا حمدان، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2005، ص 35 – 36.      

([42]) باسيل يوسف بجك، ص 137.      

([43]) هانز كريستوف فون سبونيك، تشريح العراق: عقوبات التدمير الشامل التي سبقت الغزو، ترجمة حسن حسن وعمر الأيوبي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2005، ص 252 – 255.      

(*)  لقد وصف سكوت ريتر الأميركي (رئيس اللجنة الخاصة بشأن العراق) في مقابلات خاصة، وفي الكتب لاحقاً، السيطرة الأميركية على اللجنة الخاصة وتعاونه الخاص والوثيق مع الإستخبارات الأميركية والإسرائيلية. حتى رأى الكثير من المختصين أن اللجنة الخاصة هي أداة تسيطر عليها أميركا إلى حد كبير أكثر مما رأوا فيها أداة تابعة لمجلس الأمن. أنظر: هانز بليكس، مصدر سابق، ص 49. ويذكر هانز بليكس، في المصدر نفسه، ص 39، عن دايفيد كاي (رئيس اللجنة الخاصة في عام 1991)، وهو أميركي الجنسية، أنه "من المؤكّد أنه كانت لكاي اتصالات بالإستخبارات الأميركية تتعلق بالمفتشين الذين يرأسهم.. ولم أدرك حينئذٍ أنه كان (عميلاً أمريكياً) فهو لم يأتِ من الكوادر المهنية للوكالة الدولية للطاقة الذرية... ولكنني لم أعتقد على أيّ من الوكالات المخابراتية الأميركية إرسال عميل – أو حتى مساعد فعال – لشغل هذا المنصب". وسطع نجم (ديفيد كاي) في ميدان التفتيش عندما ارتأى أن الاحتلال العسكري للعراق هو الحل الوحيد لإبادة أسلحة الدمار الشامل العراقية.

([44]) هانز بليكس، مصدر سابق، ص 120.      

([45]) جعفر ضياء جعفر ونعمان سعد الدين النعيمي، الإعتراف الأخير: حقيقة البرنامج النووي العراقي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2005، ص 121 – 160.      

([46]) باسيل يوسف بجك، مصدر سابق، ص 380.      

([47]) المصدر نفسه، ص 380.      

([48]) المصدر نفسه، ص 381 – 382.      

([49]) المصدر نفسه، ص 382.      

([50]) هانز بليكس، مصدر سابق، ص 50.      

([51]) المصدر نفسه، ص 85 – 87.        

([52]) يوسف باسيل بجك. مصدر سابق، ص 605.       

([53]) راجع دراسة جعفر ضياء جعفر ونعمان سعد الدين النعيمي، أسلحة الدمار الشامل: الإتهامات والحقائق، في مجلة المستقبل العربي، العدد 306، عام 2004، ص 57.      

([54]) تنظر كلمات المندوبين في محضر جلسة المجلس المنشورة على الموقع التالي:

http://daccess-ods-un.org/access.nsf/Get?OpenAgent & DS = S / PV. 4644 & Lang = A. (2/6/2011).      

([55]) راجع دراسة جعفر ضياء جعفر ونعمان سعد الدين النعيمي، أسلحة الدمار الشامل، مصدر سابق، ص 160.       

([56]) باسيل يوسف بجك، مصدر سابق، ص 409.       

([57]) فؤاد البطاينة، مصدر سابق، ص 144 – 145.       

([58]) راجع وقائع هذه الجلسة على الموقع الإلكتروني للأمم المتحدة، الوثيقة المترجمة s/pv.4726 في 26/3/2003:

http://www.un.org/arabic/sc/archived/SPV/spv03.htm. (10/6/2011).       

([59]) باسيل يوسف بجك، مصدر سابق، ص 461 – 462.       

مقالات اخرى

Melbourne Web Design & Development
menu-circlecross-circle linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram