الصادر عن القسم السياسي في هيئة علماء المسلمين في العراق المحور الأول: الانتخابات تناولنا في التقرير السياسي الدوري السابق بعض الأمور المتعلقة بالانتخابات، وأكدنا فيها على أن التحضيرات لها قد شهدت تصعيدًا واضحًا في الصراع بين الأحزاب الفاسدة، وتزايدًا ملحوظًا في الاتهامات وحملات الفضائح المتبادلة بينها، وأكدنا على أن الانسحابات الوهمية التي أعلن عنها بعض المشاركين في الانتخابات ليست حقيقية، وأنها مواقف متكررة ومعادة عن انتخابات سابقة، وقد ثبت صحة ما قلناه من خلال تراجع مُعلني الانسحاب واستمرارهم في حملاتهم الانتخابية. وأشرنا كذلك إلى الوسائل التي يتخذها السياسيون من أجل حث الناس على المشاركة في الانتخابات، وكسب التعاطف الشعبي معها ودعمها، والتي تجاوزت كل ما هو متوقع، ووصلت إلى ادعاءات بالتعرض لمحاولات اغتيال! وكل هذا يدل على المأزق الكبير لهذه الانتخابات ومحاولات تمريرها بأي صورة ممكنة في ظل أجواء شعبية رافضة لها، وقناعات متنامية بأنه لا قيمة لها ولا أثر في تغيير الوضع المأساوي الذي يعيشه العراق، وهي القناعات نفسها التي دعت غالبية العراقيين إلى مقاطعة الانتخابات في عام 2018م. وتشير مؤشرات وحيثيات كثيرة إلى أن الانتخابات المقررة بعد أيام ستشهد عزوفًا أكبر ومقاطعة أوسع، ولاسيما بعد توسع خيار المقاطعة والدعوة إلى عدم المشاركة فيها، وتبني قطاعات شعبية كبيرة لها ودعوتها علنًا إلى ذلك؛ وهذا ما جعل الحكومة الحالية وأحزابها والميليشيات تستخدم كل الوسائل الممكنة للضغط على الشعب للمشاركة فيها. ومن هذه الوسائل: ممارسة سياسة القمع السياسي والإعلامي تجاه كل من يتحدث عن مساوئ الانتخابات أو انتقادها، ومحاسبة القنوات والمنصات الإعلامية التي تتحدث عن سوء الأوضاع في العراق وعدم جدوى الانتخابات في تغيير الواقع المأساوي. ويمكن في هذا الصدد رصد الحالات الآتية: 1. عزوف الناخبين عن استلام البطاقات الانتخابية: وهذا أمر مهم يدل على عدم اهتمام الشارع العراقي الكبير بالانتخابات وترسخ مفهوم المقاطعة. وقد دفع هذا العزوف مفوضية الانتخابات إلى محاولة إغراء الناس بمبالغ مالية زهيدة مقابل استلام البطاقة الانتخابية (بطاقة شحن هاتف نقال مثلا)، في سابقة خطيرة تظهر مدى الانحطاط الأخلاقي والمهني الذي وصلت إليه المؤسسات في العراق؛ وشعورًا من المفوضية وأحزاب السلطة وميليشياتها بحجم المقاطعة الكبيرة، وهو إجراء سلكته أيضًا حكومة (الكاظمي) بإعطاء هدية لكل من يستلم بطاقة الانتخاب. 2. استخدام الترهيب والتهديد وسيلة لإجبار الناس على المشاركة في الانتخابات، ومن ذلك ما يحدث في (سنجار)، وممارسات حزب العمال الكردستاني الترهيبية، وإجباره السكان على استلام بطاقة الناخب، وتسليمها لمكاتب الحزب ومن ثم الحضور يوم الاقتراع وانتخاب من يوصي به الحزب. 3. تغيير معيار نسبة المشاركة في الانتخابات واختراع طريقة جديدة لاحتساب نسبة المشاركة فيها؛ فبدل أن تحسب النسبة لمن يحق لهم الانتخاب، استبدلت بنسبة الذين استلموا بطاقاتهم الانتخابية، والتي تدل مؤشرات عدة على أنها نسبة متدنية جدًا؛ مما دفع الحكومة وأحزابها ومفوضيتها إلى محاولة التغيير هذه؛ للتضليل وإعلان نسب غير حقيقية للتستر على المقاطعة المتوقعة بنسبة كبيرة جدًا. 4. تسخير المؤسسات والجهات الدينية الرسمية والحزبية والمساجد وشيوخها؛ لخدمة عمليات الترويج الانتخابي في ظاهرة جديدة من حيث حجمها وطرق تنفيذها، والدفع باتجاه إصدار فتاوى تفصيلية وجزئية متعلقة بإجراءات الانتخابات؛ تحليلًا أو تحريمًا، وعدم الاكتفاء بالفتاوى العامة كما هو المعهود سابقًا، وهذا تطور خطير، يدل على الجرأة الزائدة عن الحد في التعامل مع النصوص الشرعية، واستخدام المواقع والصفات والمنابر والنصوص الشرعية؛ لترسيخ مفاسد ومصالح غير معتبرة، وإظهارها بمظهر المصالح المعتبرة والمقاصد الضرورية! وقد استوت في ذلك شخصيات وهيئات ومجامع ووسائل إعلام، وغيرها، مبتعدة كل البعد عن مراعاة أحكام الشريعة فضلًا عن مقاصدها؛ لصالح أحزاب وقوى وشخصيات ليست بالضرورة أن تكون متفقة مع التوجهات الفكرية والخلفيات التنظيمية لهذه الجهات كما عهدناها سابقًا، وإنما هي التحالفات والمصالح الخاصة المتوهمة. ومما يُستغرب له أيضًا هنا هو الاستعانة بعلماء من خارج العراق للإفتاء لصالح المشاركة بالانتخابات، فبعد أن كان المشاركون في العملية السياسية من الإسلاميين (السنة) يقولون لا نقبل فتاوى العراقيين في الخارج؛ ها هم يعودون للاستنجاد بفتاوى خارجية لعلماء غير عراقيين! وهذا مما يثير الاستغراب والعجب؛ ليس تأييدا لأصل رفضهم، إنما لانتقائيتهم، وإلا فالحدود المكانية لا تمنع من الإفتاء بشرط معرفة المفتي بوقائع ما يفتي فيه. ولذا ينبغي لنا هنا بيان أن هذه الفتاوى –أو غيرها- ليست ملزمة للعراقيين؛ إلا إذا كانت مراعية لواقع الحال، ومبنية على تصور سليم للوقائع على الأرض، وتم تحرير محل النزاع فيها كما ينبغي؛ أما إذا جاءت الفتاوى مخالفة لكل ما تقدم، ولم يراع فيها تحري وجهات النظر الشرعية العراقية في هذا الموضوع؛ فإنها تكون قد حادت عن الحق وجادة الصواب، فضلًا عن كونها تتجاوز مسلمة مهمة مفادها: أنه لا اضطرار لصدور حكم شرعي في مثل هذه المسألة السياسية المصلحية، القائمة على تحري المصالح والمفاسد في النظام السياسي، فضلًا عن كون الفتوى مصادمة لإجماع متفق عليه في حكم استيلاء الغازي على بلاد المسلمين، وأقصى ما يمكن أن يقال في حقها لمن أراد الحكم الشرعي -ديانة والتزامًا لا لمصلحة سياسية-؛ هو الجواز خلافًا لأصل المنع؛ استجابة للضرورة، فإذا انتفت الضرورة فلا مخالفة للأصل وهذا ما أفتى به كبير علماء العراق الشيخ عبد الكريم زيدان في انتخابات عام (2005م) استجابة منه -رحمه الله- للضغوط والتوصيفات القاصرة وقتها لعدد من ممارسي السياسة من الإسلاميين العراقيين بعد فشلهم الذريع وتفريطهم، فما بالنا اليوم بعد ست عشرة سنة من الفشل المتراكم وتخلي بعض هؤلاء الإسلاميين حتى عن هويتهم الإسلامية وتبنيهم لأفكار ومشاريع أخرى، لا ترى للدليل الشرعي تأثيرًا ولا تقيم له وزنًا ولا تعطيه الاحترام اللائق به. وكنا نتمنى ممن يصدرون هذه الفتاوى من العلماء الأفاضل من غير العراقيين؛ أن يراعوا هذه الخصوصية وأن يجنبوا أنفسهم هذا الحرج، والتكلف في غير مكانه المناسب، وإن هم سمحوا لأنفسهم بهذا -من باب النصيحة والاهتمام، ونشكرهم على ذلك- فلا بد لهم إذن من بيان الحكم الشرعي في مسائل أخرى، من قبيل: حكم تخلي بعض إسلاميي العراق عن إسلاميتهم وانتمائهم لأحزاب غير إسلامية، أو حكم تعاونهم مع الاحتلال، أو حكم تحالفهم مع الأحزاب الطائفية التابعة لنظام الولي الفقيه، حيث إن منطلق ومستند بعض الفتاوى بوجوب المشاركة في الانتخابات للعراقيين؛ هو التصدي للضرر وتقليله ما أمكن؟! وهذا تناقض بيّن وظاهر، أو بيان الحكم الشرعي في سكوت بعض الأحزاب الإسلامية عن موضوع التطبيع، أو حكم التعامل مع النظام الإيراني في الساحتين العربية والإسلامية. ولو صدرت هذه الفتاوى في بداية الاحتلال لوجدنا لها بعض العذر – ولا عذر حقيقة- أما الآن وبعد انكشاف الأمور وافتضاح باطل العملية السياسية، وثبوت فشل نظرية تقليل الضرر المتوهمة، وتوجه غالب العراقيين لمقاطعتها فالأمر غير مبرر ولا معقول! ويدل على أن هذه الفتاوى تتعامل مع واقع لا تدركه، وتستقي معلوماتها من جهات بعينها، وتتغاضى عن آراء معتبرة لأسباب غير علمية، وإنما سياسية حزبية. 5. الصراع الانتخابي: معلوم للمتابعين أن الصراع الحقيقي في هذه الانتخابات؛ ليس من أجل نتائجها لأنها محسومة سلفًا ولن تأتي بجديد إلا بفارق قليل بين الأحزاب المتسلطة والمسيطرة على القرار في العراق فيما يتعلق بتوزيع المقاعد بينها ليس غير، وإنما المتوقع أن يكون الصراع الحقيقي بعد إجراء الانتخابات؛ حيث بدأت بوادره منذ الآن بين جهتين تمثلان المصالح الإيرانية في العراق، وتتصارعان على رئاسة الحكومة، وتدعي كلًا منهما أنها ستستحوذ على رئاسة الحكومة، وكلا الجهتين لديها ميليشياتها المسلحة. وهذا يعني أن الانتخابات القادمة ستفرز عن (مجلس نواب) أسوأ بكثير من المجالس السابقة؛ وأكثر خطرًا على العراق والعراقيين والمنطقة؛ لأن الميليشيات ستكون هي المشرّع والمنفّذ للمخططات الإيرانية بطريقة غير مسبوقة، وذلك بعد تأكد توجه المحسوبين على المحافظات المنكوبة إلى التزام السلوك نفسه الذي تسلكه الميليشيات وبالتنسيق معها؛ وهذا يعني أن الجميع الآن يعمل بشكل مباشر أو غير مباشر لتحقيق الأهداف الإيرانية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة؛ وخطورة هذا لا تخفى على أحد، ولن تتوقف عند حدود العراق. 6. الصراع الانتخابي في المحافظات المنكوبة من الاحتلال وحكوماته المتعاقبة وسياسيه المحليين: كما هي الحال في الصراع الانتخابي العام؛ فإن هناك صراعًا من نوع آخر في المحافظات المنكوبة، يجري بين تحالفين هشين لا يملكان من العزم ما يستطيعان به العمل على تقدم العراقيين، وكلاهما يحاول كسب تأييد عشائري وغطاء ديني بخطاب ساذج؛ للحصول على الأصوات في المحافظات المنكوبة التي تسيطر عليها ميليشيا (الحشد الشعبي)؛ ولكن الأهم في ذلك أنه على الرغم من التنافس بينهما إلا أنهما متحالفان سياسيًا مع الميليشيات الموالية لإيران ويحظيان بدعم نظام الولي الفقيه من طرق مختلفة؛ فمؤداهما واحد ونهايتهما عند صاحب النفوذ الأكبر في العراق؛ وهذا يعني أن كليهما لا يتنافسان من أجل مصالح الشعب العراقي أو المحافظات المنكوبة، وإنما من أجل مصالحهما الخاصة وسعيًا لإرضاء حلفائهم في الداخل والخارج؛ ولذلك يحظى الطرفان بدعم من أحزاب وميليشيات تعلن ولاءها الصريح لإيران؛ وكلا الطرفين له اتصالات بالواسطة مع الإيرانيين، ويستغلان معاناة المهجرين وإطلاق وعود إعادتهم إلى مناطقهم وإعمار المدن المنكوبة لأغراض الدعاية الانتخابية. 7. موقف الأمم المتحدة: أما موقف الأمم المتحدة وبعثتها في العراق فعلى الرغم من كل المساوئ المتعلقة بالانتخابات التي أقرت بها بعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) ووصفها الانتخابات بأنها خاضعة بكاملها لسيطرة الأحزاب المتسلطة وهي من تسمح بإجرائها من عدمه، وهي من تتحكم بالمشهد العراقي السياسي والأمني والاقتصادي، وأن هذه الأحزاب تستخدم القوة والمال السياسي في فرض نتائج الانتخابات، فضلًا عن تأكيدها على استخدام المال السياسي لشراء الولاءات وقمع الناخبين بالقوة وإجبارهم على انتخاب الأسماء التي تفرضها هذه الأحزاب، وإشارتها الواضحة إلى احتمالية تزوير الانتخابات بشكل كبير جدا؛ إلّا أنها ما زالت تدعم بقوة هذه الانتخابات -القاصرة وفق معايير الأمم المتحدة نفسها- وتدعو الشعب العراقي للمشاركة فيها، متجاهلة حالة العزوف الكبيرة للعراقيين عن المشاركة فيها، ودعوات المقاطعة التي تتصاعد بشكل واضح جدا؛ وهذا يعني أنها مستمرة في المنهج نفسه المعتمد: أمريكيًا وإيرانيًا لإجراء الانتخابات في العراق، عن طريق العمل على تحريك المشاعر الطائفية والعرقية والدينية ودفع الناس من خلالها للمشاركة في الانتخابات. 8. موقف الهيئة: نُذكِّر هنا بموقف هيئة علماء المسلمين من الانتخابات، ونقول بعبارة واضحة: إنه سبق لنا أن ذكرنا في مراحل الانتخابات السابقة أننا: لا ندعو شعبنا إلى مقاطعة الانتخابات، وإنما يكفينا أن نبين له مساوئها، ونشرح له أبعادها، وقد كفانا الشعب العراقي اليوم هذا الموقف؛ فهو يدعو علنًا إلى المقاطعة وعاد ليصطف معنا في موقفنا الكاشف لخطر العملية السياسية في ظل الاحتلال وتداعياتها، الذي أكدنا عليه منذ عام 2004م، وما كان موقفنا هذا إلا لخدمة وطننا ودفع الضرر عنه بحسب اجتهادنا واستشرافنا للأمور، ونفخر اليوم بأن غالب الشعب العراقي قد عاد إلى قناعاتنا التي وافقنا عليها كثيرون من أبنائه وقتها، وبنسبة لم تصلها أي عملية انتخابية أو حزب من الأحزاب القائمة أو المنحلة، ولكن حرفته وقتها عن هذا الموقف أحزاب السلطة وأدواتها. القسم السياسي في هيئة علماء المسلمين في العراق ـ 1 ربيع الأول 1443هـ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2021م.