مثنى حارث الضاري الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد: فحرب المصطلحات حرب دقيقة مبرمجة، طويلة النفس، متعددة الوسائل، منوّعة المقاصد. وسنحاول في هذه العجالة([1]) معرفة بعض جوانبها وأبعادها الخطيرة؛ نظرًا لأهمية هذا الموضوع النابعة من أهمية المصطلح نفسه، سواءً أكان في تراثنا الحضاري أم في واقعنا المعاش في هذه الأيام. ويقتضي عنوان ما نحن فيه، أن نتحدث عنه في خمسة أقسام: الأول: أهمية المصطلح، والثاني: مفهوم الغزو المصطلحي، والثالث: أهداف الغزو المصطلحي ووسائله ومقاصده، والرابع: الأمثلة والتطبيقات، والخامس: واقع حرب المصطلحات في العراق. أولًا- أهميّة المصطلح: للمصطلح أهمية بالغة في عالمنا المعاصر، الذي يعيش مرحلة الانتقال إلى آفاق غير معلومة حتى اللحظة في مجال وسائل الاتصال؛ حيث أصبح تأثير المصطلحات شائعًا بين مجاميع كبيرة من البشر وليس بين فئات مختصة بعلم أو بفن أو باهتمام ما فحسب، بل أصبحت وسائل الإعلام الحديثة ولاسيما وسائل التواصل الاجتماعي ترفدنا يوميًا، ليس بالعشرات أو بالمئات فحسب؛ بل بأكثر من ذلك من المصطلحات الجديدة أو التحويرات والتغييرات والتعديلات والتبديلات والتحريفات لمصطلحات قديمة، فهي تُشبه في تدفقها الكبير هذا؛ غزوًا هائلًا من جيوش المعلومات المصطلحية. وأهمية المصطلح من الوجه المتقدم، ظاهرة للعيان لا تحتاج إلى أدلة،وإذاما رجعنا قليلًا إلى إرثنا الحضاري وتراثنا الإسلامي فسنجد أنّ هذا الموضوع قد عُنيَ به عناية فائقة قد تكون هي الأكبر والأفضل في تاريخ الأمم. والوقائع الدالة على ذلك كثيرة ابتداءً من أقوال الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأفعاله وتقريراته، ومن فعل علماء المسلمين عصرًا بعد عصر. وشواهد هذه العناية هي مئات المؤلفات والمصنفات الموضوعة في المصطلح وما يتعلق به في مختلف الفنون، ليس في اللغة ومتعلقاتها فحسب، وإنما في التفسير وعلوم القرآن، والحديث وعلومه، وأصول الفقه وتاريخ التشريع، والفقه والسياسة الشرعية، والعقائد، والتاريخ والحضارة، والجغرافية والبلدانيات، والفلك، والطب، والرياضيات والهندسة، وغيرها من المجالات، حتى إذا ما وصلنا إلى مؤلفات إلى العصر العباسي وجدناها تتحدث عن الطبخ، واللباس والأزياء ومصطلحاتها وأوصافها الضابطة لأفرادها والفارقة بعضها عن بعض. هذا هو إرثنا الحضاري، إرث واسع وزاخر في هذا المضمار. والمصطلح أيضًا هو أحد ضرورات التصوّر الصحيح لمنظومة الإسلام القيمية؛ حيث يعتني الإسلام دينًا والشريعة منهجًا بالمصطلح، ويرعى الألفاظ والأسماء حق رعايتها، فالمعجزة الكبرى للرسول (صلى الله عليه وسلم) هي القرآن، ومعجزة القرآن الأولى هي اللغة والبيان، والمصطلح في اللّب منهما. ومن هنا جاءت العناية الفائقة بمدلولات الألفاظ والأسماء ومعطياتها المنطوقة والمفهومة، وإدراك أثر المتغيرات العرفية في اختلاف مستويات الدلالة وتعددها بحكم الاستعمال المحلي هنا أو هناك. وتظهر وجوه هذه العناية في وقائع وأمثلة وشواهد كثيرة، طالما استدل بها المعنيون بهذا الموضوع المهم في دراساتهم وأبحاثهم، ولعل من أبرز ما يمكن إيراده هنا هو عودتهم جميعًا إلى الوضع الأول للغة، في قصة سيدنا آدم (عليه السلام) وتعليم الله عزّ وجلّ إيّاه الأسماء كلها في قوله تعالى: )(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ((([2]). وهو ما يستدل به أهل التفسير ومن بعدهم الجم الغفير من أهل العلوم الأخرى على تعليم آدم (عليه السلام) أسماء المخلوقات جميعًا: حسيّها ومعنويّها([3])؛ ليعرفها ويستعين بهذه المعرفة في العرض على الملائكة، ثم في مهمته الأرضية استخلافًا وأداءً بعد هذا التعليم؛ فكانت (المعرفة) التي علَّمها إيّاه الله سبحانه وتعاله هي (المصطلحات)، التي لابد منها في كل عمل؛ لتحديد المفاهيم ووضع الحدود الواضحة والصريحة لها؛ حتى تؤدي الأهداف المطلوبة والمرجوة منها. وحاصل ما تقدم أنّ سيدنا آدم عليه السلام عُلِّمَ أسماء المخلوقات والموجودات؛ ليعرفها ويفرّق بينها ويتعامل مع ما تدل عليه وتنطبق، وهذه هي وظيفة المصطلح في زماننا وفي كل زمان، حيث يتحقق مطلوب البشر في التحديد والوصف، وتستبين الأمور وتنفصل المعاني بعضها عن بعض في دلالتها على الحسيّات أو المعنويّات، وتستقيم أمور الناس ويتعارف أهل كل لغة وجنس ولون وصنف وجهة وعمل وفن وحال؛ قواعد حديثهم ومسائل منطقهم بلا إمتٍ ولا عوج([4]). وتمثل هذا الحرص على المصطلح وتأطيره ورسم حدوده ورسومه عند الرسول (صلى الله عليه وسلم)، في أحاديث ووقائع عدة مارس فيها عملية الضبطين: الضبط اللفظي والضبط الدلالي للمصطلح، قولًا أو فعلًا، وكان (صلى الله عليه وسلم) حريصًا في هذا المجال على: تعديل المصطلح وضبطه أو تغييره عند الاقتضاء بقدر الإمكان في مختلف جوانب الحياة، فقد وجَـدَ مصطلحاتٍ وألفاظًا وأعرافًا قبل الإسلام، فأقرَّ منها قسمًا، ولم يقرَّ قسمًا آخر، وهو ما كان منها متعارضًا مع الثوابت العقدية ومقتضياتها، أو مما يُكره أو يُستبشع، فألغى الأولى أو استبدلها بالمأثور الشرعي، واستبدل الثانية بما هو أفضل وأنسب. وأشار (صلى الله عليه وسلم) بلفظ صريح إلى ظاهرة التغيير اللفظي والإبدال الدلالي اللذَينِ سيحدثان لاحقًا، في بعض جوانب الحياة عامة والتشريع خاصة، بقوله: ((لَيشربنَّ أناسٌ من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها...))([5]). وهذا ما وقع حقيقة. ويمكن رصد أمثلة عدة اتبع فيها متقدمون ومتأخرون سُبلًا غير صحيحة في هذا المجال، وشابهوا أهل الخمر في صرف اسمها إلى لفظ يريدونه ويٌدلسون به على وصفها الحقيقي وفعلها الخطير، وواقع اليوم شاهدٌ على أفعال هؤلاء التي لا تحوجنا إلى دليل. وفضلًا عما تقدم؛ فإن المصطلح في حضارتنا وتراثنا ليس منقطعًا عن غيره كما هو في الثقافات الأخرى؛ بل هو مرتبط أشد الارتباط بمنظومة التشريع الإسلامي، التي بدأت بذرة ثم أصبحت وارفة الظلال، يروم بعضهم اقتلاعها فلما عجز عن ذلك؛ عاد إلى أغصانها قطعًا وتخريبًا. و(الإرث اللغوي) لدى الأمة المسلمة، غير منفكٍ عن إرث آخر هو (الإرث المصطلحي) في الرواية والنقل، الذي أبدعه علماء الحديث؛ فالأول: يُعنى باللغة التي هي وسيلة التخاطب وأداة كثير من العلوم. والثاني: يُعنى بوسيلة نقل هذه العلوم وهو السند. وكلا (الإرثين) -وهما فخر هذه الأمة- غير موجودين عند باقي الأمم بهذه الصورة وهذا التكامل؛ وقد اعترف بذلك كثيرون، ونبَّهوا على أهميتهما؛ لكننا للأسف، نجد أغلب هجمات الغزو الفكري والمصطلحي تتوجه صوب هاتين الوجهتين، في محاولات محمومة؛ لتحريف الأوعية الأولى والجذور الرئيسة لها، والتشكيك في قواعد تلقّيها، سواء أكانت سماعًا أو قياسًا في اللغة، أو سماعًا وتدوينًا في الحديث. وقد استلهم علماء المسلمين قواعد (الإرثين) السابقين، فبنوا قواعد أساسية لكل علم من العلوم، فضلًا عن قواعد أساسية في الاستنباط والاجتهاد الفكري، كما فعل الإمام الشافعي -رحمه الله- باني علم الأصول في (رسالته) الشهيرة، التي بدأها بمباحث البيان([6]). و(النص) في تراثنا وحاضرنا، واسع وممتد في دلالاته ومفاهيمه بحكم طبيعته وخصائصه، وبفضل ما تقدم ذكره من تأصيلات منهجية وقواعد بحثية، وهو قمين بكفاية علماء الاستنباط للإنزال على واقع الأمة وعلى نوازلها الشرعية واللغوية وغيرها. فهو غير محصور في حدود ألفاظ القرآن الكريم والسنة النبوية الظاهرة المتبادرة للفهم المباشر واليسير لكل الناس فحسب؛ فمعاني القرآن الكريم والسنة لها أوجه عدة، وكان الصحابة (يثوّرون) الآيات والأحاديث([7])، ويستخرجون معانيها في كل مجال. وهو ما جعل التشريع الإسلامي قادرًا على وضع قواعد عامة وعلامات هادية لإدارة الشأن العام، فاسحًا المجال رحبًا للعقل المسلم في حرية الاجتهاد واستنباط الأحكام من هذه القواعد؛ تحقيقًا لمصالح الناس وتلبية لاحتياجاتهم، وبما يحقق النفع عامًا كان أو خاصًا. ومن شواهد الحرص المتقدم والعناية الفائقة بالمصطلح، وثمرات اهتمام متقدمي علماء الأمة بضبطه وتحصينه؛ وعيُهم الكبير بأن المصطلح وسيلة من وسائل البناء الحضاري، فقرروا لذلك قاعدة مهمة للوفاء بمتطلبات هذه الوسيلة الحضارية، فقالوا: (لا مُشاحّة في الاصطلاح). وهذه قاعدة نافعة ومجدية ومؤطرة لسياقات التعامل الصحيح مع المصطلح: منهجًا ومفردات وطريقة. وتنبع أهمية هذه القاعدة فضلًا عن هدفها؛ في تعارف أهل العلوم والفنون في العصور المتقدمة عليها، وموافقتها لمعطيات العقول السليمة، واستجابتها الإجرائية الفعّالة لمقتضيات تعامل الناس معها، أيام كانت عاملة ومحترمة غير مخرومة ولا معطلة، بخلاف عصورنا المتأخرة، وهي بلا شك تدل أيضًا على احترام قدرات العقل والأصل الضابط في هذه القاعدة، أمور ثلاثة: وخلاصة ما تقدم؛ أن المصطلح مهم في شريعتنا، مهم في ثقافتنا، ودلائل الاهتمام في إرثنا الحضاري كثيرة، والفتوى الشرعية تُلزم المسلم بالبحث عن الحكمة أينما كانت؛ لأن المسلم مأمور بإعمار الأرض، وإعمارها لا يكون إلّا بالسعي للوصول لكلِّ معلومة ولكل خير ولكل حكمة. ثانيًا- مفهوم الغزو المصطلحي: الغزو المصطلحي جانب من جوانب عدة للغزو الفكري، سواء تعرضت له أمتنا أو أمم أخرى، وهو الآن حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها في عصر الهيمنة القطبية، ليس في السياسة والاقتصاد والأمن فحسب؛ وإنّما في كل جوانب الحياة، ومنها الإعلام ومتعلقاته: فكرًا وأدوات. والغزو الفكري هو فرع عن الغزو بمفهومه العام، فغالبًا ما يصحب هذا الغزو أو يسبقه غزو عسكري، ينشر حالة من الضعف تستولي على أشلاء المضعوف (المغزو)، وتجعله -في الغالب- قابلًا لكل شيء بما فيها أفكاره الغازية ولغته ومصطلحه وطرائقه في التعبير([8]). وقد بُذلت جهود كبيرة منذ عقود طويلة؛ لبيان: وقد عُني كثير من الكاتبين والباحثين بهذه الأمور الثلاثة، وبما يغنينا عن الحديث عنه في هذا المقام([9])، الذي ننتقل به من معركة الغزو الفكري إلى معركة المصطلحات كما عبّر عنها الدكتور محمد عمارة في كتابه (معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام)؛ لنجد أنفسنا نعيش في أيامنا هذه (معركة مصطلحات) حقيقية، هي امتداد لمعارك القيم والتقاليد والأعراف وأنماط الحياة، المستمرة منذ أن وعت جماهيرنا واقعها وبدأت بمحاولات استعادة موقعها التاريخي وريادتها الحضارية منذ قرنين تقريبًا من الزمن. ومعركة اليوم هي الأكثر نشاطًا والأوسع انتشارًا، مما كان عليه الأمر في المراحل الزمنية التي كتبت فيها الأدبيات الأولى عن هذا الموضوع، والتي أشرنا إليها من قريب؛ حتى أضحى الوصف المناسب لما نعانيه ونكابده في هذه الأوقات، هو (الاجتياح) أو (الاحتلال) أو (الحلول والاستحلال)؛ حيث تم غزونا بالمصطلحات الوافدة السليم منها وغير السليم، والتي احتلت كثيرًا من (معسكرات) و(قواعد) و(مكامن) و(مواضع) الثقافتين العربية والإسلامية في هذا الزمن. والتعريفات المعطاة لهذا المصطلح كثيرة وعديدة في هذه الكتب، ولكن تيسيرًا واختصارًا، سنعمد هنا إلى فكرة تقريبية وطريقة إجرائية تناسب الفائدة العامة المرجوة من هذا المقام، وليس طريقة البحث العلمي الدقيق أو الدرس المختص الذي يقتضي تعريفًا جامعًا مانعًا محددًا؛ فنرسم الغزو المصطلحي بأنه: (محاولة تغيير الواقع الاصطلاحي في المجتمع: بإبدال دلالات ألفاظ، أو إحلال مصطلحات وألفاظ جديدة بدل غيرها، بما يحقق أهداف المُبدِّلين والمُغيّرين). وقد يتوهم بعضهم، فيفهم من سياق التنبيه على مخاطر الغزو المصطلحي، أن من ينحو هذا المنحى؛ سيكون حجر عثرة أمام كل مصطلح يأتي أو مفهوم يستجد أو دلالة تستدعيها الحاجة وأنه رفض للتطورات العلمية والأنماط الفكرية والثقافية الجديدة؟! وهذه مغالطة، وشبهة داحضة من أساسها؛ ولكنها تَـرُوج للأسف على الكثير. ويمكن ردّ هذه الشبهة بكل يسر وسهولة، يوذلك ببيان ما أقرّه العلماء المعنيون منذ زمن متقدِّم من قواعد ومناهج مُقررة عقلًا وواقعًا، ولها سندها في كليات الشريعة وقواعدها العامة في سياق الاحتفال بالمصطلح وهمومه وشجونه؛ أو ما أصّلوه من قواعد وأسس كلية وقواعد عامة، تفيد بأن هناك قدرًا إنسانيًا مشتركًا من الاستعمال والعادات والأعراف والثقافات والأفكار، وهو ما يُدعى بـ(المشترك الإنساني العام) الذي لا محيص عنه ولا حرج في العمل بمقتضاه. ويمكن الاستدلال لهذا المفهوم بالحديث المشهور: ((الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها))([10])، الذي تشهد له عمومات النصوص وكليات الشريعة وعموم قواعدها، وهو ما ارتضاه المتقدمون والمتأخرون، وقبلوه وعملوا بمنطوقه ومفهومه مع تأكيدهم على ضعفه([11]). وقد نصت فتوى لإحدى لجان الإفتاء بشأنه، على أن: ((الكلمة المفيدة التي لا تنافي نصوص الشريعة ربما تفوّه بها من ليس لها بأهل، ثم وقعت إلى أهلها، فلا ينبغي للمؤمن أن ينصرف عنها؛ بل الأولى الاستفادة منها والعمل بها من غير التفات إلى قائلها))([12]). هذا هو موقف الإسلام من المصطلحات والألفاظ الجديدة، سواء وجدنا دليلًا تفصيليًا جزئيًا لها أم لم نجد، فهناك مشتركات إنسانية عامّة تصلح للبشرية عامة؛ لأنها تخدم البشرية جميعًا وتنفعها، ولا تتعارض في الغالب مع معتقدات كثير من الأمم؛ لأنّها أوعية أو أدوات أو تعاملات أو مصطلحات أو تواضعات إجرائية وعملية ومهنيّة صرفة. والدليل على هذا هو تفاعل الأمم جميعًا مع هذه القاعدة، وتعاملهم بها في مستويات إدراكية مختلفة، ولا سيما الأمة المسلمة، التي لم يُحَجّر فيها على أي مصطلح له دلالة علمية مجردة محايدة، أو مصطلح له دلالة ثقافية منضبطة، أو مصطلح سياسي غير مرتبطٍ بأفكار معبرة عن خصوصيات منظومات ثقافية أخرى. ومن ذلك -على سبيل المثال- تعامل المسلمين وفقًا للقاعدة المتقدمة مع بيئات تختلف تمام الاختلاف عن بيئتنا ومنظومتنا القيمية، كالمنظومة الغربية القائمة على اعتقادات لا تتفق مع معتقداتنا كمسلمين، وها هم أبناء الإسلام، العلماء منهم وأساتذة الجامعات والأطباء والمهندسون والمثقفون والأدباء والشعراء وغيرهم؛ يعملون في بلادهم بهذه المصطلحات؛ فيتفوقون فيها ويبرعون، وينجحون ويبدعون ويخترعون، ويشتركون -أيضًا- في توليد مصطلحات وأفكار جديدة. ثالثًا- أساليب الغزو المصطلحي ووسائله ومقاصده: أساليب الغزو المصطلحي ووسائله ومقاصده، كثيرة ومتعددة، وحصرها وعدها مختلف فيه بين موسِّع ومضيِّق، وموجز ومسترسل. وكلٌ مصيب ولا ضير في اختلافهم؛ لأن ذلك نتيجة تعدد النظر بحكم التفاوت بينهم زمانًا ومكانًا، وتنوّع اهتمامهم ودرجته. وفي هذه العجالة سنجمل الأهدافًا العامة والمحاور الرئيسة لهذه الأساليب والوسائل، تاركين التفصيل والتمثيل المفصّل لمَن كتب في موضوع الغزو العام، أو الغزو الفكري، أو الغزو المصطلحي حصرًا. وستتغنينا هذه المحاور الرئيسة بعبارتها عن شرح مغزاها، وتفصيل أنواعها، ومن هذه المحاور ما يأتي: أما المقاصد فكثيرة، فمنها: إشاعة الأفكار والمفاهيم المغلوطة في الجوانب الحياتية المختلفة. ووسائل التواصل الاجتماعي الآن بارعة جدًا في هذا المجال، وهي الأداة الرئيسة لذلك. ومنها: المغالطة المنهجية لتحقيق أغراض وأهداف محددة، فمن ذلك على سبيل المثال -وهنا الحديث عن العراق- أنّ وسائل الإعلام المُوجَّهة أو المسيطَر عليها؛ عندما تتحدث عن التيارات الوطنية المناهضة والمقاومة للاحتلال تصفها -والمقاومة معها- بالإرهاب، والتمرّد، والتشدّد، والتنطُّع، وعدم الواقعية، وافتقاد المرونة؛ وذلك يعود إلى أن هذه الوسائل تفعل هذا خدمة لأهداف خاصة، بعيدة جدًا عن التوصيف العلمي القائم على أساس وصف الظواهر بأوصافها الحقيقية. يُضاف إلى ذلك أننا نجد في وسائل الإعلام هذه تصنيفات متعددة ومتنوعة، وسعيٌ حثيث لتعبئة أي ظاهرة غير مرغوب فيها بأهداف غير أهدافها الحقيقية، ووصفها بصفات مُنفّرة. ولا يقتصر هذا على وسائل الإعلام، وإنما يشمل أيضًا مراكز الدراسات والأبحاث العلمية، التي يفترض بها أن تكون بعيدة عن ذلك، ولكن هذا ما يحصل واقعًا في كثير من مراكز الدراسات الغربية، أمّا مراكز الدراسات الشرقية فحدّث ولا حرج. ومنها أيضًا: استيعاب رد الفعل الرافض لبعض المفاهيم والمصطلحات، فـتُـزَوَّقُ الألفاظ لأجل ذلك وتُلبس بلباس غير لباسها الحقيقي لتخفي تحته نياتها، أو تُستخدم ألفاظٌ لا تثير إشكالًا، ثم يُعاد تعبئتها بمفاهيم جديدة وتُبثّ في المجتمع ويُثار الجدال والنقاش بشأنها، كما مرّ في إخبار الرسول (صلى الله عليه وسلم) لنا بأنه سيُغَيَّر اسم الخمر مستقبلًا إلى أسماء أخرى. رابعًا- الأمثلة والتطبيقات: ليس كل مصطلح يأتينا من الغرب هو (غزو)، هذا هو والواقع. والإنصاف يقتضي منّا أن نقول ذلك؛ لكن في الوقت نفسه، إن أكثر ما يأتينا منهم هو من هذا القبيل، ولذا، لابد من (تقسيم ضابط) تُقسَّمُ وفقه المصطلحات والألفاظ التي تأتينا من المنظومة الغربية، ويمكننا أن نجعل هذه المصطلحات في ثلاثة أقسام، هي: القسم الأول: ألفاظ ومصطلحات غير محايدة في أصل وضعها الغربي؛ لكنّها محايدة المدلول عندما تُنقل إلى ثقافة أمة أخرى، وهذه ليست غزوًا. ولا تدخل ضمن حيّز (الغزو المصطلحي) الذي نتحدث عنه، وأمثلتها كثيرة في العلوم والمخترعات والأدوات والوسائل وبعض الجوانب الثقافية، فضلًا عن السياقات الإجرائية والأساليب العصرية ومستحدثات التعاملات الحياتية في جوانبها الحاجية والتحسينية. القسم الثاني: مصطلحات غير محايدة في الأصل وغير محايدة عند النقل، فهي معبّأة بأفكار المجتمع الغربي ومفاهيمه، حسب ما تقتضيه حاجاته ومتطلبات عيشه؛ لتحقيق أهداف معينة ذات خصوصية بتوجهه العقدي وبنيته القيمية ومرجعيته الفكرية، ثم تُنقل هذه المصطلحات إلى مجتمعنا المسلم، دون مراعاة لاختلاف طبيعة المجتمعات ومرجعياتها وحاجاتها المختلفة. أو تُنقل عمدًا لتحقيق أفكار شبيهة بتلك الأفكار والمفاهيم الغربية، فهذا من قبيل الغزو الفكري. ومن أمثلة هذا القسم: مصطلح (العَلمانية) الذي يُقابل (اللادينية)، فهذا المصطلح غير محايد في بيئته الغربية، وقد نُقل إلينا أيضًا- بصفته المنحازة؛ في إطار صراع معروف بين عوامل التجديد والتغيير وعوامل التخلّف في المجتمع الغربي، وفي مقدمة هذه العوامل الهيمنة الدينية والحَجْر على العقول في أوروبا في العصور الوسطى. وعلى الرغم من كل عوامل الافتراق والتباعد وعدم التوافق بين المجتمعين؛ فقد نُـقِــل إلينا هذا المصطلح وغُذيّ، فجُعل (عِلمانية) بالكسر وليس (عَلمانية) بالفتح؛ لإيهامنا بأنه مشتقٌ من (العِلم) الذي كان وسيلة مهمة وفعّالة في إحداث الإصلاح الديني في المجتمعات الغربية، ولكن المعنى الذي وضع له مصطلح (العَلمانية) في جانب، والنقل المعبأ لمصطلح (العِلمانية) في جانب آخر؛ لأن موضوع العلم في الإسلام مفروغ من أهميته ومكانته، وهو مراصف ومساوق لحالة الإصلاح والإحياء الديني في عالمنا، فضلًا عن مكانة العقل في الإسلام، التي لا تدانيها مكانة العقل في أية ثقافة أخرى، وإن أنكر ذلك منكرون، أو عطّله معطّلون، أو استغله مبطلون. ومنها أيضًا مصطلح: (التنوير)، وهو مصطلح غير محايد في بيئته؛ لأن مصطلح (التنوير) كان قرين (العَلمانية) وقرين (الإصلاح الديني)، وكلها كانت في مواجهة هيمنة الكنيسة في المجتمعات الغربية في ذلك الوقت. لكن مصطلح (التنوير) عندما نُقل إلينا استخدم استخدامًا غير محايد، فالتنوير من (النور)، ولا يخفى على كل ذي عينين وبصيرة، مدى احتفال تراثنا الإسلامي بـ(النور) مصطلحًا ودلالة. وعلى الرغم من ذلك، أُخذ هذا اللفظ (التنوير) وأُسقط على المروجين للأفكار الغربية المتأثرين بحركة الإصلاح الديني الغربية؛ ليُوصفوا به في مقابل من تصدّى لهم، من الذين وُصِفوا بمصطلحات مناقضة تمامًا، فأصبحوا: رجعيّين، وظلاميّين، وماضويّين، وتقليديين، وأصوليّين. القسم الثالث: هي مصطلحات محايدة في البيئة الغربية، ولكنها عند النقل تؤدي معنىً آخر وتدل على مفهوم مغاير، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها: (رجل الدين)، فهذا الوصف لا يثير إشكالًا في المجتمع الغربي؛ بحكم وجود تفرقة معلومة عندهم بين ما هو ديني وما هو دنيوي، فالمعني بالشأن الدنيوي هو: سياسي، أو اقتصادي، او مثقف، أو أي تسمية أخرى بحسب عمله أو اهتمامه أو نشاطه. والمعني بالشأن الديني يسمى (رجل دين)، ولا تعارض ولا اختلاف بينهما؛ بل هناك نوع من التكامل والاحترام والتقدير والتوقير، وكأنَّ (السلطات) قد وُزِّعَـت بينهما، فهذا له الدنيا، وهذا له الآخرة. والغريب هنا -ولا مستغرب في الغرب- أنّ كثيرًا من (رجال الدين) ممّن شأنهم (الدين) ليس الدنيا، أو (الآخرة) وليس الدنيا، دخلوا على القسم الأول، وتطفّلوا عليه، ووصلوا إلى أعلى المراتب فيه، فمنهم من حكم ومنهم من رام ذلك. ولم نسمع في يوم من الأيام أنّهم يُـنْـبزُون بنبز أو بوصف غير لائق -بعيدًا عن المماحكات السياسية التي هي من لوازمهم وأساليب عيشهم-. أما في مجتمعنا المسلم، الذي لايُفرّق أصلًا بين ما هو ديني وما هو دنيوي من حيث المبدأ والأثر والنتيجة، ويفخر بأن من خصائص شريعته أنها تجمع بين الجزأين الدنيوي والأخروي، وبُعدي الحال والمآل؛ فإنه يُعاب على (عالم الدين) السعي والنشاط في بعض المجالات الحياتية، وفي الشأن العام الذي هو من وظائفه الرئيسة؟! تأثرًا بدلالة المصطلح (المغلوطة) الآتية لنا من بيئة مخالفة وثقافة هي غير ثقافتنا. ولو كان معيار القبول والرفض متعلقًا بالقدرات الفكرية والثقافية والإمكانات والمهارات البشرية؛ لهان الخطب، فليس كل (عالم دين) مؤهل لذلك، كما هو الحال في غيره من الناس، ولكن أن يكون (المنع والتخوف والحذر والإنكار) متوجهًا صوب الوصف والمبدأ، فهذا مما لا ينبغي ولا يمكن أن يكون مُستصحبًا لا عقلًا ولا واقعًا. ومن ذلك أيضًا مفهوم (المدنيّة)، الذي نجده شائعًا عند كثير من علماء الإسلام ومصلحيه ودعاة التغيير والتجديد في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الميلاديين، ومستخدمًا عندهم رديفًا لمصطلح (العمران)، المقابل لمصطلح (الحضارة). وقد كتبوا فيه كتبًا ومقالات، ودبج الشعراء منهم قصائد كثيرة مفتخرة بـ(مدنيّة الإسلام)([13]). ولكن الاستعمال التداولي لهذا المصطلح في وقتنا الحاضر يُراد به أمر آخر، فيقال مثلًا (الدولة المدنية) ويقصد به الدولة العَلمانية بكل مقوماتها وأسسها، في مقابل تصور الدولة الدينية (الثيوقراطية)، الذي يرفضه الإسلام أيضًا. ومن هنا يُفهم الحذر الملاحظ في التعامل مع مصطلح الدولة المدنية، بهذا الإطلاق، في مقابل عدم تحرُّج المتقدمين من المدافعين عن الفكرة الإسلامية من استعماله؛ بل وتقدُّمهم على غيرهم في ابتكاره وتأصيله، فالوقوف بوجه هذا المصطلح ليس من حيث أصله، وإنّما من حيث ما غُذيّ به من دلالات جديدة، أعطته بعدًا آخر ليس بالضرورة أن نتفق معه. وقل مثل ذلك في مصطلح (الدولة الحديثة) الذي لا اعتراض عليه أيضًا من حيث كونه مصطلحًا مجردًا معبرًا عن تطور الجهد البشري في بناء الدولة وتعديل نظرياتها ومفاهيمها التفصيلية بناءً على مستلزمات التطور الإنساني والمتغيرات العالمية المؤثرة على هذا المجال من النشاط البشري؛ وإنما على المفاهيم الـمُدمجة فيه والبُنى الفكرية الأساسية التي يُراد له أن يُعبّر عنها، وعلى أيّ أساس تقوم؟ وعلى أيّ فكر سياسي تعتمد؟ فيكون هذا هو الفيصل حين ذاك في قبوله أو رفضه، فإنْ اتفقنا معه فلا ضير وإن اختلفنا فالأمر فيه متسع، فلكل بيئة ولكل أمة ولكل ثقافة خصوصيتها. يقول الدكتور (محمد الشاهد البوشيخي) وهو من المعنيين بالمصطلح ودراساته، ملخصًا المعاني المتقدمة قبل قليل: ((كيف يسوغ أن تتردد نفوس، في اعتبار الألفاظ القرآنية مصطلحات، وهي لها من الخصوصية والخصوبة المفهومية، بحكم قرآنيتها، ما ليس لمثلها من الألفاظ، في أي علم من العلوم، بحكم بشريتها؟ كيف يجوز أن تسلم النفوس بمصطلحية ألفاظ كل طائفة، أو فرقة، أو مذهب وعمدتها وأساسها ألفاظ ونصوص مؤسس الطائفة، أو الفرقة، أو المذهب ثم لا تسلم بمصطلحية (ألفاظ أصل الدين) وهي ألفاظ كتاب (رب العالمين). إن الغفلة عن هذه الحقيقة أحدثت أضرارًا بالغة، من أخطارها: عدم الالتزام بمصطلحات القرآن في عدد من علوم الدين، واستعمال ألفاظ أخرى بدلا منها، لا بد أن تحمل –بحكم طبيعة العلاقة بين الدال والمدلول والمصطلح والمفهوم– قدراً من التشوه أو التشويه، في فهم الدين وتبليغ الدين)). ويكشف السطران الأخيران من نص البوشيخي، عن ملاحظة مهمة؛ حيث إنّ من يعترض على دلالة ما في القرآن؛ فمن باب أولى أن يقبل الاعتراض على فهمه هو لهذا المصطلح أو على مصطلحاته الخاصة، وما يقصده بها من دلالات. ونضرب لذلك مثالًا: باستدلال بعضهم بقول الله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾؛ قائلًا: ليست الموجودات وليست المخلوقات، وإنّما علّمه أشياء معلومة في الذهن تحتاج فقط إلى تنبيه... لأنّها معاني سامية جدًا فعلّمه إياها!. فما هي هذه المعاني السامية، ولماذا الاقتصار على أحد أصلي اشتقاق الاسم، وهو (السمو) والاقتصار عليه، دون الأصل الآخر (الوسم)؟ وما هو مبرر هذا الاقتصار؟ ولماذا يُطالب صاحب هذا الفهم غيرَه بأن يُسلّم له قوله بشأن الدلالة الفلانية للمصطلح القرآني بأنها كذا وليست كذا، ولا يُسلم لغيره بالقبول، حتى ولو كان على سبيل (التنزُّل) له، أو من باب افتراض التساوي في الرأي، مع الأخذ بالحسبان الفارق في العدة الشرعية والذخيرة اللغوية!. إن العلاقة بين المصطلح والمؤسِّـس والواضع له مهمة جدًا، فهو جزء أصيل من حضارة كلّ أمة، ولا سيما الأمة المسلمة، ولعلَّ أكبر إرث حضاري في مجال المصطلح والعناية به هو ما لدينا من رصيد من الشواهد الدالة على مدى العناية بالمصطلح ومتعلقاته ولوازمه ومقتضياته؛ فنظرة عجلى في أيّ مكتبة ستكشف لنا عن العشرات من الكتب المعنيّة بالمصطلحات والمفردات، من: معاجم وقواميس وكتب تعريفات وغيرها. وهنا نستعير مرة أخرى نصًّا للشاهد البوشيخي يعالج فيه هذه الجزئية، قائلًا: ((كل المذاهب والتيارات، عندنا وعند غيرنا، تأسست على نصوص بعينها، استعمل أصحابها فيها ألفاظا بعينها، صارت بعدُ، لاستعمالهم إياها بمفاهيم معينة، داخل الرؤية العامة التي قدموها للناس، صارت لها دلالات خاصة، أي مفاهيم خاصة، تبنّاها من جاء بعدُ واستعملها، فهي في الحقيقة لم تصر مصطلحات بسبب الاستعمال الذي طرأ بعدُ -وإن كان ذلك أكد اصطلاحيتها- ولكن صارت مصطلحات لذلك التخصيص المفهومي الذي كان لها من قبَل المُؤَسّس))([14]). ويجرنا هذا إلى مكانة هذا المصطلح (الآباء المؤسّسون) في بعض الثقافات الغربية، ولاسيما (الأمريكية)، التي يُوقّر أبناؤها هؤلاء المؤسسين؛ ويجعلون لأقوالهم وأفعالهم قيمة معنوية كبرى، ويستلهمونها في بناء أفكارهم ووضع دساتيرهم وقوانينهم وسنّ أنماط معيشتهم؛ بل يقدسونها. فإذا كان غيرنا ممن يُنعى علينا عدم اللحاق بركب حضارته، لديه (مؤسّـسون) وأصولٌ يرجع إليها، ونصوصٌ يحتكم إلى مفاهيمها ودلالاتها على الرغم من أنها كلام بشر؛ فلماذا يعاب على غيرهم ذلك؟. وقد تصدى لظاهرة الغزو المصطلحي كثيرون، شأنه في ذلك شأن الغزو الفكري، وقد اتخذ هذا التصدي -وإن كان دون المأمول- طرقًا عدة ومستويات متنوعة بحسب مسؤولية كل جهة مشاركة فيه وباذلة جهدها في سبيله. وقد بدأ هذا التصدي منذ زمن مبكر على يد عدد من علماء اللغة والعلوم الإسلامية المختلفة، ولعل من أبرز معالمه إنشاء المجامع اللغوية والعلمية التي كانت وليدة هذا التصدي والحاجة إليه، ولكنه لم يقتصر عليها فقط؛ حيث واكبتها جهود وأعمال جليلة أخرى، فيما يأتي بيان خطوطها العامة، بما فيها (المجامع): واقع حرب المصطلحات في العراق المحتل في محاولة لكسر الالتزام المجتمعي في العراق بالتحدث باللغة الفصحى في وسائل الإعلام من عامة الشعب، حتى لو كان مقدار الخطأ في حديث المتكلم كبيرًا؛ بدأت بعض وسائل الإعلام بالتخفّف في إيصال رسالتها الإعلامية بدون دواعٍ تُذكر، فمالت إلى استخدام اللهجة العاميّة بشكل مُفرط في تقاريرها أو حواراتها، وهذا بحدّ ذاته متغير ضاغط على موضوع المصطلح، ومؤثرٌ بلا شك في إرباك مشهده في العراق، فضلًا عن التأثير المباشر السابق لذلك، وهو تأثيرات ما حصل في العراق بعد غزوه واحتلاله من الولايات المتحدة الأمريكية ومن معها، حيث كان من أوائل مشاريعها المقترنة بمشروعها العسكري هو المشروع الثقافي، ومحاولة إشاعة الأفكار والسياقات والمصطلحات التي تتناسب مع حالة الإذعان، التي كانت تُـمعن في فرضها على العراقيين، ثم التبعية الثقافية بعد تحقيق التبعية السياسية. وهكذا انفلت عِقالُ كثيرين في حمّى متسارعة لتحقيق هذه الأغراض، التي كانت تمثل احتلالًا ثالثًا مع الاحتلالين العسكري والسياسي، وانتشرت مفاهيم وأفكار معزَّزة بمنظومة مصطلحات جديدة أو قديمة بإهابٍ جديد، لعل من أبرزها: (التحرير) و(العراق الجديد) و(العراق الديمقراطي) و(أيتام النظام) و(الاجتثاث) و(الإرهاب)، فضلًا عن التوصيفات المقصودة في مجال التوظيف السياسي لمصطلحات لم تعهدها البيئة العراقية من قبيل: (الأكثرية) و(الأقلية) و(الطائفة) و(المذهب) و(الإثنيات) وغيرها كثير. وفي مقابل ما تقدم، كان كثير من العراقيين حريصين جدًا على التصدي لهذا (الاحتلال) الذي يريده المحتل، فحاولوا دفعه جنبًا إلى جنب مع محاولات الدفع الأخرى، وذلك بالتأكيد على خطر ما يجري والتنبيه عليه أولًا، ثم بذل الممكن في مقابله ثانيًا، وتمثل ذلك في الآتي: ([1]) أصل هذه المادة، محاضرة ألقيت في عمّان بالأردن، بتاريخ: (22/12/2018م). ([3]) انظر: تفسير ابن عطية: 1/349_350 (طبعة الدوحة، 1436ه_2015م)، وتفسير ابن كثير: 1/ 334_336 (طبعة دار ابن الجوزي، الدمام، 1431ه)، وتفسير الألوسي: 2/96_ 100 (طبعة دار الرسالة، دمشق، 1436ه_2015م). ([4]) لا تعنينا هنا التفسيرات الباطنة أو التأويلات البعيدة -القديمة والمعاصرة- لواقعة التعليم ومعنى الأسماء التي عُلِّمها آدم عليه السلام، فلكلٍ وجهة هو موليها وفكرة هو هاويها أو هاوٍ فيها. ([5]) سنن أبي داود: كتاب الأشربة، باب في الدّاذي (أي: شراب الفاسقين)، حديث رقم (3688) و(3689)، وسنن ابن ماجة: كتاب الفتن، باب العقوبات، حديث رقم (4020)، ومسند أحمد: مسند الأنصار، حديث أبي مالك الأشعري، حديث رقم (22900). ([6]) من هنا نفهم نقمة بعضهم على الشافعي وعلى قواعد أصول الفقه العامة التي قررها بما يتفق مع عقول الناس جميعًا وليس عقول المسلمين فحسب، وعلى أساسها بنت العقلية الغربية –بعد قرون- ما يسمى بـ(علم منطق المعايير) عند (جون لوك) الذين يفخرون به، بينما نحاول نحن أن نعود القهقرى؛ لنهدم ما وضعه من قواعد وأسس مستلهمة من روح الشريعة وحِكَمها وغاياتها وأسسها وخصائصها العامة، ومستمدة بالاستقراء من التطبيقات النبوية وتطبيقات الخلفاء الراشدين (رضي الله عنهم). ([7]) روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: ((من أراد علمًا فليثوِّر القرآن، فإنه خير الأولين وخير الآخرين)). وفي رواية أخرى لهذا الآثر: ((من أراد العلم فليثوِّر القرآن؛ فإن فيه علم الأولين والآخرين)). انظر: المعجم الكبير، الطبراني: (8665) و(8666) (طبعة الأوقاف، بغداد). والتثوير هو: تدبرهما والبحث فيهما وتقليب النظر في معانيهما. ([8]) المثال الأبرز للتعبير عن هذه الحالة هو مالك بن نبي –رحمه الله- ونظريته المشهورة (القابلية الاستعمار) التي تناولها تنظيرًا وتطبيقًا في كتبه المختلفة. ولاسيما كتابه: (الصراع الفكرى فى البلاد المستعمرة). ([9]) منهم: الأستاذ أنور الجندي في (تأريخ الغزو الفكري والتعريب) والاستاذ محمد جلال كشك في (الغزو الفكري) والشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني في (غزو في الصميم) ود. محمد عمارة في (الغزو الفكر؛ وهم أم حقيقة) ود. عبد الصبور مرزوق في (الغزو الفكري؛ أهدافه ووسائله) ود. عبد الستار فتح الله سعيد في (الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام) و د. ناصر بن عبد الكريم العقل في (الغزو الفكري للعالم الإسلامي) والأستاذ محمد واضح رشيد الندوي في (من قضايا الفكر الإسلامي؛ الغزو الفكري) وغيرها. ([10]) سنن الترمذي: أبواب العلم عن سول الله (صلى الله عليه وسلم)، باب ماجاء في فضل الفقه على العبادة، حديث رقم (2687)، وسنن ابن ماجة، كتاب الزهد، باب الحكمة، حديث رقم (4169)، بلفظ ((حيثما وجدها....)). ([11]) منشأُ ضعفه هو راويه عن أبي هريرة. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن الفضل المدني المخزومي؛ يُضعّف في الحديث من قِبل حفظه. انظر: الترمذي: 990 (طبعة دار ابن كثير، دمشق وبيروت، 1437ه_2016م). وقال عنه عبدالله بن أحمد بن حنبل عن أبيه، وأبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث، منكر الحديث، وقال البخارى والنسائي: مُنكر الحديث. انظر: تهذيب الكمال، المزي: 2/166 (طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت، 1402ه_1982م). ([12]) (اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء) في المملكة العربية السعودية: http://www.alifta.net/Search/ResultD...stKeyWordFound ([13]) نحو: (الإسلام والنصرانية؛ مع العلم والمدنية، محمد عبده) و(الإسلام روح المدنية، مصطفى الغلاييني) و(المدنية الإسلامية، شمس الدين سامي فراشري) و(إشراق أنوار المدنية الإسلامية على أوروبا من خلال جزيرة صقلية (مقال)، أحمد توفيق المدني) و(المدنية الإسلامية، عبد الرزاق السنهوري). وانظر أيضًا: (لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم، شكيب أرسلان)، وغيرها. ([14]) أولويات البحث العلمي في الدراسات القرآنية، محمد الشاهد البوشيخي، جريدة المحجة،الرباط، العدد (226)، 2005م: http://almahajjafes.net ([15]) انظر: إدارة الصراع مع العدو؛ العراق إنموذجًا، ورقة مقدمة إلى مؤتمر (غزة النصر)، اسطنبول، 12_14/2/09 20م: http://iraq-amsi.net/ar/news_view_32720.html
-كمدرك للعلوم- في صوغها ومراعاة إنزالها على الوقائع عند متقدمينا.