توطئة: قسم الدراسات([1]) بعد حصار اقتصادي أممي للعراق استمر ثلاث عشرة سنة بدأت أمريكا – بالتحالف مع دول أخرى- حملة عسكرية لغزو العراق بدون تفويض أممي، وقد استخدمت أمريكا ذرائع عدة لتبرر ذلك الغزو كان من أبرزها (أسلحة الدمار الشامل) وحين عجزت قوات الاحتلال عن الكشف عن تلك الأسلحة في العراق بدأت التركيز على الذرائع الأخرى ومن أهمها تخليص العراق من الحكم الدكتاتوري وإنقاذ الشعب العراقي مما يتعرض له من انتهاكات خطيرة، ولذا فقد كانت الآلة الإعلامية الأمريكية ومن يتعاون معها يبشر الشعب العراقي بعهد جديد من (الديمقراطية) واحترام (حقوق الإنسان). لكن سرعان ما تبخرت هذه الوعود وانقلبت تلك الشعارات أمام ممارسات قوات الاحتلال الأمريكي سواء في الشارع أثناء قيام تلك القوات بدورياتهم أو عند قيامها بمداهمة منازل المدنيين بحجة البحث عن مطلوبين أو للتفتيش عن الأسلحة، وأخطر تلك الممارسات كانت في السجون حيث ارتكبت تلك القوات الكثير من الانتهاكات، ولولا تسريب الجنود الأمريكيين أنفسهم لصور تلك الانتهاكات لبقي العالم لا يصدق وقوعها؛ بل يصدق فقط إنكار قوات الاحتلال والتي تكذب تقارير كل المنظمات العراقية والدولية التي أصدرت عشرات البيانات توثق تلك الانتهاكات وتندد بها وتطالب العالم للتصدي لها. ورغم ذلك فإن تلك الانتهاكات لم تتوقف بل تصاعدت وتيرتها لاسيما على يد قوات الأجهزة الأمنية العراقية التي أسسها المحتل الأمريكي وقام بتدريبها وتجهيزها، ويعلم الجميع أن الأساس الذي تشكلت منه تلك الأجهزة هي الميليشيات التابعة للأحزاب المشاركة في العملية السياسية التي فرضتها إدارة الاحتلال الأمريكي، وقد كانت العملية السياسية الغطاء الشرعي الذي تتحرك تحته تلك الميليشيات وتمارس أبشع أنواع الانتهاكات الطائفية من قتل وخطف وتعذيب وتهجير؛ حتى أصبح العراق في قائمة البلدان الأكثر فسادا وانتهاكا لحقوق الإنسان. ورغم كل هذه السنين فلا تزال تلك الانتهاكات مستمرة بحق الأبرياء من أبناء الشعب العراقي والتي تتركز ضد طائفة أكثر من غيرهم ألا وهم (السنة العرب)، وبعد عقد من الزمان قضاه الشعب العراقي عقب غزو القوات الأمريكية واحتلالها له؛ فإننا وبكل أسف لا نلمس أي تحسن للوضع في العراق ولا تراجعا للانتهاكات المتنوعة، والسبب أن هذه الانتهاكات التي تجري بشكل ممنهج تتم برعاية (الحكومة العراقية) والتي لم تجد من يردعها أو يحاسبها لا من (شركائها) في العملية السياسية ولا من المجتمع الدولي. فرضية البحث: في موضوع الدفاع عن حقوق الإنسان فإننا نجد ثلاث حلقات: الحلقة الأولى: واقعة الانتهاك. الحلقة الثانية: توثيق تلك الواقعة والعمل على وصول الوثائق إلى المجتمع الدولي. الحلقة الثالثة: قيام المجتمع الدولي بواجبه في منع استمرار تلك الانتهاكات ومحاسبة المسؤولين عنها. أما الحلقة الأولى فإن انتهاكات حقوق الإنسان في العراق أمر لم يعد بحاجة إلى دليل إثبات؛ فكل التقارير المحلية والدولية تثبت وجود انتهاكات خطيرة وبصور بشعة وبأشكال متعددة، بل جاء إثبات هذه الانتهاكات في اعترافات عدة لمسؤولين في حكومات العراق التي جاءت عقب الاحتلال([2]). لكن الحلقة الثانية والثالثة تحتاج إلى دراسة وبحث وتأمل؛ حيث أن الحلقة الثانية تقع على عاتق المنظمات والناشطين في مجال حقوق الإنسان، أما الحلقة الثالثة فتقع المسؤولية فيها على عاتق المجتمع الدولي من منظمات أممية وحكومات العالم أجمع. من هنا ندرك أن موضوع (إثبات الانتهاكات) ما هو إلا خطوة ضمن سلسلة من الإجراءات غايتها: أولا/ إيقاف تلك الانتهاكات. ثانيا/ محاسبة المسؤولين عنها. ثالثا/ تعويض المتضررين بسبب تلك الانتهاكات. ولأجل تحقيق هذه الغايات تم تشريع القوانين والاتفاقيات والمواثيق الدولية، وأسست المنظمات الأممية ونشطت المنظمات المحلية والدولية، والسؤال الأهم هنا: هل قامت المنظمات الأممية بدورها وتمكنت من إيقاف تلك الانتهاكات وتقديم المسؤولين عنها للحساب؟ وهل تمكنت المنظمات الناشطة في مجال حقوق الإنسان من تنفيذ غاياتها فيما يتعلق بموضوع انتهاكات حقوق الإنسان في العراق؟ نحاول في هذه الورقة تقييم عمل المنظمات الأممية وعلى رأسها مجلس حقوق الإنسان في مجلس الأمن؛ وأبرز المنظمات (الدولية والمحلية) من خلال استعراض جهودهم في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان في العراق، وسنعمل على قراءة بعض التقارير الدولية والمحلية ومقارنتها بالإجراءات التي تم اتخاذها لمنع تلك الانتهاكات أو الحد منها؛ مستندين إلى مؤشرات انتهاكات حقوق الإنسان في العراق طيلة عقد من الزمان قضاه العراق عقب احتلاله. لقد أشارت التقارير الأخيرة لا سيما لمنظمة العفو الدولية ومنظمة (هيومن رايتس ووتش) –فضلا عن تقارير محلية - إلى تزايد حالات الانتهاكات بكل صورها ولاسيما (الاعتقال التعسفي والقتل خارج القانون والتعذيب للمعتقلين)، وتشير تلك التقارير إلى أن تلك الانتهاكات شملت الرجال والنساء وحتى الأطفال، هذا من غير انتهاكات خاصة بالصحفيين ونحوهم، كل هذا يدلل أن المسؤولين عن تلك الانتهاكات لم يجدوا ما يردعهم ولم يقدم أي منهم للمساءلة فضلا عن الإدانة؛ مما يؤشر أن دور تلك المنظمات – الأممية والدولية والمحلية – لم تصل حتى الآن إلى ما يرتجى منها، فهل هو تقصير؟ أم هو العجز؟ أسئلة نحاول في هذا البحث مناقشتها للوصول إلى إجابات تساعدنا في الوصول إلى مقترحات قد تكون سببا في إيقاف تلك الانتهاكات أو الحد منها قدر الإمكان ومحاسبة المسؤولين عنها. دور منظمات حقوق الإنسان: إن الأساس الذي نشأت فيه منظمات حقوق الإنسان- محلية كانت أو دولية أو أممية – هو الانتصار للإنسان وحماية حقوقه من أي انتهاكات يتعرض لها، وفي سبيل ذلك فإن عمل تلك المنظمات وجميع الناشطين فيها يتركز في الآتي: لقد جاء في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: (ولما كان تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني، وكان غاية ما يرنو إليه عامة البشر انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة ويتحرر من الفزع والفاقة. ولما كان من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكيلا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم)([3])، فهل حقق المجتمع الدولي ذلك في العراق؟ من أجل الوصول إلى تقييم عمل تلك المنظمات فيما يتعلق بالانتهاكات التي تقع في العراق لابد من القيام باستعراض أبرز نشاطات تلك المنظمات في السنوات العشر السابقة التي أعقبت الاحتلال في كل نقطة من النقاط السابقة، ونحدد ما هي المعوقات التي تقف في طريق تلك المنظمات وما هي أبرز النتائج التي وصلت إليها. المنظمات المحلية والأممية العاملة في العراق قبل البدء باستعراض نشاط تلك المنظمات وما آلت إليه أنشطتها؛ لابد لنا أن نتعرف بلمحة سريعة على تصنيف تلك المنظمات وتأثير مكان مكاتبها على نشاطها، ومن حيث العموم فإن المساحة الجغرافية لنشاط تلك المنظمات يفرض علينا تقسيمها إلى: أولا / منظمات أممية لا يختص عملها بدولة بعينها بل تعنى بكل بلدان العالم ولها أنشطة فيها، وتتفاوت تلك المنظمات من حيث حجم ذلك النشاط كما يتفاوت عملها من بلد لآخر بناء على ما يتوفر لها من غطاء وحماية في بلد دون آخر، ولذلك فإن نشاطها في العراق يأتي كجزء من نشاطها في بقية دول العالم. ثانيا / منظمات محلية وهي التي تعنى بالشأن العراقي تحديدا ولا تتحدث عن الانتهاكات في دول العالم إلا نادرا وبما له تعلق بالشأن العراقي كما في بعض الدول المجاورة([4]) التي لها تدخل أو نفوذ في العراق أو لها دور في الانتهاكات التي تحدث في العراق. وللمكان الذي تعمل فيه هذه المنظمات المحلية أثر في نشاطها، فمن يتخذ من العراق مقرا معلنا يكون عمله معرضا للخطر والضغوط بخلاف المنظمات التي استحصلت على موافقات في دول أخرى كأوروبا مثلا حيث تتمتع بمساحة كبيرة من الحرية. ولا يفوتنا هنا أن نذكر نوعا آخر من تلك المنظمات ألا وهي المنظمات الحكومية وأعني بها المنظمات التي ترعاها (الحكومة العراقية) فهذه لا يمكن التعويل عليها إلا من باب (من فمك أدينك) وإلا فغالب تقاريرها وأنشطتها – إن لم تكن جميعها – تصب في مدح (الحكومة العراقية) وأجهزتها الأمنية وتنفي عنهم ارتكاب أي انتهاكات، بل نجدها تدعي بأن (الحكومة) تقدم أعلى مستويات حماية حقوق الإنسان([5]). أنشطة منظمات حقوق الإنسان ذكرنا قبل قليل أهم الأعمال التي تقوم بها منظمات حقوق الإنسان والناشطين في هذا المجال، وأعتقد بعد ما تقدم قد حان الوقت للتفصيل في تلك الأعمال المتعلقة بالشأن العراقي، ولابد لنا أولا من الاعتراف أنه من الصعوبة بمكان الإحاطة بكل تلك المنظمات وأعمالها([6])؛ لاسيما وأن العديد منها عبارة عن أسماء وهمية والبعض ليس لهم موقع يمكن الاعتماد عليه لمعرفة نشاطاته والكثير غيرهم يقوم بعمله من خلال التعاون مع منظمات أخرى معلنة لها اسمها وسمعتها؛ لذلك سنحاول استعراض ما تيسر لنا الوقوف عليه كنماذج تؤشر للحالة العراقية ومستوى ما وصلت إليه أنشطة تلك المنظمات. أولا / توثيق الانتهاكات التي تقع: رغم كل التضييق الذي تمارسه (الحكومة العراقية) وأجهزتها الأمنية ضد المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان وجميع الناشطين وحتى الإعلاميين الذين يقومون بكشف الحقائق المتعلقة بالانتهاكات؛ رغم كل ذلك إلا أن الجهود التي تبذلها تلك المنظمات ومن يتعاون معهم قد كسر حاجز التعتيم الذي فرضته (الحكومة العراقية)، وقد جاء في تقرير لمركز جنيف الدولي للعدالة: (وبصدد المنظمات غير الحكومية والمدافعين عن حقوق الإنسان، وجد مركز جنيف أن السلطات العراقية ما زالت تهدّد المدافعين عن حقوق الإنسان، ولا تحترم حرية تكوين الجمعيات، وتتعرض الجمعيات المستقلة، وغير تلك الموالية للسلطات، إلى شتى أنواع المضايقات، ويتعرّض الناشطين فيها للمخاطر الحادة، بما في ذلك التهديد بالقتل(([7]). وبالرغم من أن النتائج لا تزال دون الطموح إلا أنها قياسا إلى الظروف الميدانية فإنها تعد نتائج جيدة، وقبل استعراضنا لنماذج من تلك الجهود وتحليلها لابد أن نعلم أن عملية توثيق الانتهاكات تهدف لأمرين: الأمر الأول : إثبات واقعة الانتهاك كدليل يستخدمه من وقع عليه الانتهاك للحصول على حقوقه ومنها التعويض مثلا. الأمر الثاني : إثبات حصول حالات الانتهاك لتجريم من يرتكبها وتحديد حجم تلك الانتهاكات في ذلك البلد لقياس مستويات الالتزام بالعهود والمواثيق الدولية. ومن هنا فإن عملية التوثيق التي قامت بها المنظمات المحلية والدولية قد حققت الهدف الثاني؛ فقد بات من المسلمات أن العراق ومنذ الاحتلال وحتى اليوم ترتكب فيه أشد أنواع الانتهاكات وبشتى الصور، لكن يبقى الأمر بالنسبة للهدف الأول بعيدا بالنسبة لآلاف بل لملايين الذين تعرضوا للانتهاكات، ولن يتحقق هذا الهدف بشكل مقبول إلا إذا توفرت العديد من الأمور أهمها الضغط الدولي لإيقاف تلك الانتهاكات والإقرار بوقوعها وضرورة محاسبة مرتكبيها وتعويض المتضررين. وإذا ما استعرضنا واقع الجهود التي بذلتها المنظمات في هذا الإطار فيمكننا أن نجد أنها قد أثبتت العديد من أنواع الانتهاكات نذكر منها يأتي: الاعتقال التعسفي: فقد أثبتت التقارير التي نشرتها منظمات حقوق الإنسان أن الأجهزة الأمنية (للحكومة العراقية) تشن حملات اعتقالات عشوائية بشكل مستمر، وتطال هذه الاعتقالات مئات الأشخاص شهريا، ومن أبرز ذلك التوثيق ما دأب عليه قسم حقوق الإنسان التابع لهيئة علماء المسلمين في إصدار تقرير شهري يرصد فيه حالات الاعتقالات التي تمارسها الأجهزة الحكومية ومثال على ذلك (رصد قسم حقوق الإنسان في هيئة علماء المسلمين في بيانات شهرية له حملات الاعتقال واسعة المدى التي تجري في أنحاء مختلفة من البلاد، واستطاع تسجيل (903) حملة دهم واعتقال وتفتيش نتج عنها اعتقال (7334) شخصا وخلال خمسة أشهر فقط للفترة من 1/12/2009 وحتى 30/4/2010 وهو ما تم رصده من خلال ما هو معلن من تصريحات بعض من الأجهزة الأمنية الحكومية بإسناد وتنسيق مع قوات الاحتلال الأمريكية)([8])، وكمثال آخر لما وثقته تقول (وفي إحصائية قام بها قسم حقوق الإنسان في هيئة علماء المسلمين لما هو معلن من عمليات الدهم والاعتقال من قبل القوات الحكومية بمفردها أو بدعم ومساندة من قبل قوات الاحتلال الأمريكية بحق المواطنين العراقيين التي حدثت خلال الفترة من نيسان 2011 الى آذار 2012 تم إحصاء 2416 عملية دهم نتج عنها اعتقال 16413 مواطن، بمعدل شهري 1368 معتقل أي ما يقرب من 46 معتقل يوميا(([9]). ومثال آخر ما جاء في تقرير للجمعية العراقية لحقوق الانسان في الولايات المتحدة الامريكية: (أخطر الملفات الموجودة في العراق هو ملف المعتقلين حيث يبلغ عدد النزلاء في السجون العراقية "34187" نزيلا ً منهم عشرون ألف متهم بالمادة 4 إرهاب وتم في عام 2012 اعتقال "12617" شخصا)([10])، ومن أغرب ما نشر في هذا الإطار: (إصدار/1067225/ (مليون وسبعة وستون ألفا ومائتين وخمس وعشرون) عملية إلقاء القبض، منذ عام 2004 وحتى شهر آب / أغسطس 2012، بقضاء سوق الشيوخ جنوب مدينة الناصرية، وان المنفذ من تلك العمليات بلغ/1067079/ عملية)([11]). وهذه الأعداد الكبيرة من الاعتقالات ليست سرا لا يعلمه إلا هذه المنظمات بل هو ما أثبته مكتب حقوق الإنسان التابع لبعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراقيين "يونامي" مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان في بغداد حيث جاء في تقريره لعام 2012م: ( بحسب وزارتي حقوق الإنسان والعدل يوجد (37014) شخصاً في مراكز الاحتجاز في العراق حتى 30 حزيران/ يونيو (2012) منهم (20996) كانوا قد أدينوا و (16018)بانتظار المحاكمة)([12]). وليس سرا أن هذه الأعداد المهولة من المعتقلين هم أبرياء؛ حيث (أعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن انتهاكات القانون الدولي الإنساني الذي سجلته اللجنة كانت منتظمة وعلى نطاق واسع، وقال ضباط عسكريون للجنة الدولية للصليب الأحمر أن بين 70 ٪ و90 ٪ من الأشخاص المحرومين من حريتهم في العراق أُعتقِلوا عن طريق الخطأ)([13]). هذه نماذج قليلة جدا من أنشطة المنظمات في إطار توثيق هذا النوع من الانتهاكات، وهي تكفي لإثبات دورها في هذا الجانب، نكتفي بها فليست الغاية أن نستقصي كل تلك التقارير. التعذيب: ربما يعد التعذيب من الظواهر المنتشرة في سجون العديد من بلدان العالم الثالث، لكن ما يحصل في العراق في هذا الإطار قد فاق كل تلك البلدان من حيث النوع والكم، ومما يستدعي الاستغراب أن هذا التعذيب يجري تحت عنوان (العراق الجديد ونشر الديمقراطية)، وقد أظهر تقرير منظمة العفو الدولية الأخير: (فإن تعذيب وإساءة معاملة المعتقلين كان واحداً من أكثر السمات ثباتاً وتفشياً في المشهد العراقي الخاص بحقوق الإنسان، وإن الحكومة لا تُظهر ميلاً يُذكر للاعتراف بحجمها أو لاتخاذ التدابير الضرورية لجعل مثل تلك الانتهاكات الخطيرة جزءاً من الماضي)([14]). وكما تقدم في الفقرة السابقة فرغم كل الصعوبات فإن نشاطات المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان في توثيق حالات التعذيب التي تجري في السجون العراقية قد أثبتت أن موضوع التعذيب قد بات ظاهرة متفشية في السجون العراقية السرية منها والعلنية، وقد تم توثيق هذا الأمر بشكل عام كما تم توثيق وقوعه لأشخاص معينين. وربما من أبرز الأدلة ما ورد على لسان رئيس وبعض أعضاء (لجنة حقوق الإنسان في مجلس النواب في الحكومة الحالية) في مؤتمر صحفي عقد في قصر المؤتمرات بتاريخ 25/1/2010 حيث قال: (إن هناك حالات تعذيب نفسي وجسدي، في المعتقلات التي تشرف عليها القوات الحكومية، ومن خلال زياراتنا للمعتقلات رأينا أن هناك من يتعرض لأبشع أنواع التعذيب، من أجل انتزاع الاعترافات منهم بالقوة، من بينها الرجّات الكهربائية، والتعليق من الخلف، إضافة إلى الممارسات اللاإنسانية الأخرى)([15]). وجاء في تقرير للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا: إن (أحكام الإعدام التي تصدرها المحاكم العراقية يلاحظ من الشهادات والوثائق التي تم استقاؤها من المتهمين أنفسهم قبل تنفيذ العقوبة ومن عائلاتهم أنها منتفية تماما ]أي الضمانات التي تكفل حماية حقوق الأفراد[ في كافة المراحل ولا سيما في المرحلة المهمة أثناء المحاكمة فالأدلة التي يتم الحكم بموجبها تم الحصول عليها من مخبر سري واعترافات انتزعت تحت تعذيب وحشي وقاسي للمتهم وأفراد عائلته)([16]). وجاء في تقرير قسم حقوق الإنسان التابع لهيئة علماء المسلمين (وفيما يتعلق بالسجون الحكومية فقد تم استخدام مختلف أساليب التعذيب ضد المعتقلين ومن بينها؛ الضرب بالأسلاك الكهربائية وخراطيم المياه، والتعليق لفترات طويلة من الأطراف، والصعق بالصدمات الكهربائية، وكسر الأطراف، ونزع أظافر القدمين بكماشات، وثقب الجسم بمثقاب، وقد كان المحتجزون لدى وزارة الداخلية أكثر عرضةً للتعذيب من غيرهم - بحسب الشهادات المتوفرة-)([17]). ونكتفي بمثال واحد على توثيق حالة تعذيب لأحد الأشخاص بشكل تفصيلي وهو ما أوردته منظمة الكرامة من تفاصيل وفاة الشيخ عبد الله الجوراني بسبب التعذيب بعد اعتقاله في ديالى([18]). أما مكتب بعثة الأمم المتحدة في العراق "يونامي" فيذكر الموضوع على استحياء حيث جاء في تقريره السنوي: ( بالرغم من وجود إطار قانوني قوي في العراق يحظر استخدام التعذيب لا تزال البعثة تتلقى تقارير موثوقة بشأن انتشار سوء المعاملة والإساءة وفي بعض الأحيان التعذيب ضد المحتجزين، وتتعلق المزاعم التي تتلقاها البعثة بالتعرض للإساءة أثناء الاعتقال وخلال فترة الاحتجاز قبل المحاكمة وبعد الإدانة)([19]). القتل والإصابات خارج القانون: ومن أشد أنواع الانتهاكات الجسيمة التي شهدتها الساحة العراقية عقب الاحتلال الأمريكي للعراق هي عمليات القتل خارج القانون والتي أصبحت تنتشر على نطاق واسع في مختلف مناطق العراق، واستمرت هذه الظاهرة في ظل الحكومات المتعاقبة بعد الاحتلال بل بدأت تتزايد يوما بعد آخر. ومن يتابع تقارير المنظمات المحلية والدولية يجدها قد وثقت هذا النوع من الانتهاكات كما وثقت غيرها، و أشار المتحدث باسم (جماعة حقوق الإنسان) في الأمم المتحدة في تصريح له بأنه (على الرغم من الاعتقاد السائد بأن النزاع المسلح في العراق قد انتهى على نحوٍ كبير، لا يزال العنف المستشري وعدم احترام حياة الإنسان يطالان حياة العراقيين، والمدنيون هم الضحايا بالدرجة الأولى)([20]). أما حالات الإعدام في السجون العراقية فيرصد التقرير السنوي الأخير لهيئة علماء المسلمين أنه (وطبقاً لبيان صادر عن مسؤولين بوزارة العدل في العراق؛ يبلغ إجمالي عدد الذين تم إعدامهم حتى يوم 8 تشرين الأول/أكتوبر عام 2012،(119) شخصاً، ليصبح العراق في مصاف أولى الدول التي تستخدم عقوبة الإعدام)([21])، وفي السياق ذاته تؤكد الجمعية العراقية لحقوق الإنسان في الولايات المتحدة: ( يعتبر العراق من البلدان الأولى في المنطقة التي تتبع عقوبة الإعدام بقضايا إرهابية وقضايا جنائية أخرى ....وقد نفذت السلطات العراقية خلال عام 2012 ( 119 ) حالة إعدام مقابل ( 68 ) حالة أعدمت في عام 2011)([22]). وربما ما شهدته الساحة العراقية قبل أيام قليلة من ارتكاب الأجهزة الحكومية مجزرة بحق المدنيين الأبرياء المعتصمين في (الحويجة) وسقوط عشرات الشهداء والجرحى خير دليل على استمرار مسلسل القتل خارج القانون، وبقاء المسؤولين عن تلك المجزرة بدون محاسبة يعطي الضوء الأخضر لهم للمضي في هذا الطريق، وقد جاء في تقرير المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا قولها: أنها (تؤكد أن جرائم الحكومة العراقية بقيادة السيدة نوري المالكي فاقت كل تصور وتؤذن بانفجار الوضع في البلاد الأمر الذي قد يؤدي إلى إشعال حرب أهلية طائفية تمتد آثارها إلى الدول القريبة والبعيدة. إن الجرائم التي ارتكبتها حكومة المالكي قبل هذا الهجوم كان نصيبها الصمت المريع من قبل المجتمع الدولي والمنظمات والدول وكأن شيئا لا يحدث، ونأمل بعد هذا الهجوم أن يتغير الموقف ويقف المجتمع الدولي ممثلا بمجلس الأمن موقفا مسؤولا وجديا من الجرائم التي ترتكب يوميا في العراق)([23]). التهجير القسري: لقد شهد العراق حالات تهجير كبيرة جدا ونزوح للعوائل داخل العراق وخارجه، ولم تغفل المنظمات هذا الجانب بل وثقته في تقاريرها رغم الاختلاف في تقدير عدد اللاجئين بشكل دقيق إلا أن أعدادهم بالملايين، من ذلك ما ورد في تقرير للجمعية العراقية لحقوق الإنسان: (يحتل العراق المرتبة الثانية بعد افغانستان عالميا ً من حيث عدد اللاجئين المسجلين في مكاتب الامم المتحدة حيث يقدر عددهم ب (1,4) مليون لاجئ، منتشرين في مختلف بلدان العالم)([24])، وننبه هنا إلى كلمة (مسجلين) وإلا فتقديرات عدد اللاجئين العراقيين أضعاف هذا العدد بكثير. أما الأمم المتحدة عبر مكتبها في العراق فقد ركزت على موضوع النازحين داخل العراق ولم تتحدث عن اللاجئين خارج العراق إلا إشارة، معتمدة في موضوع النازحين على الإحصائيات الرسمية (للحكومة العراقية) حيث جاء في تقريرها: (بناءً على آخر إحصائية رسمية للحكومة، بتاريخ كانون الثاني / يناير 2012 ، فقد قامت وزارة الهجرة والمهجرين بتسجيل1,332,382 شخص ، 235,586 عائلة باعتبارهم نازحين)([25]). أما أوضاع اللاجئين العراقيين فمأساوية جدا نقتصر هنا على ما ذكرته الجمعية العراقية لحقوق الإنسان (ويتعرض اللاجئون العراقيون في دول الجوار إلى تجاوزات ومضايقات تصل لحد الذل، منهم من يعمل شهرا كاملا ثم يقولون له لا نعطيك الأجور ويبيعون لهم بأضعاف ما يبيعون للمواطن الأصلي ومنهم من يسكن في أماكن غير صالحة تكثر فيها الجريمة وانعدام الخدمات الأساسية، إلى جانب معاناتهم في موضوع التعليم والصحة وتأتي تركيا في مقدمة هذه الدول)([26])، واسمحوا لي هنا أن أذكر بأن العراقيين الذين كانوا لاجئين في سوريا قد أصبحوا بعد الأحداث الدامية فيها بين خيارات ثلاث؛ إما الرجوع للعراق والتعرض لما يهددهم، وإما الهجرة لبلدان أخرى وهو أمر تواجههم فيه صعوبات جمة أولها الإقامة، وإما البقاء تحت نار القصف وتحت تأثير نيران القتال، وأستثمر هذه الفرصة لتوجيه رسالة إلى الدول الشقيقة وعلى رأسها تركيا أن تنظر بعين الرعاية لهؤلاء العراقيين فتعينهم على مأساتهم ولا تكون سببا لتعرضهم وأطفالهم للخطر. نخلص مما تقدم أن عملية توثيق الانتهاكات التي وقعت وتقع في العراق قد قامت بها المنظمات الناشطة في مجال حقوق الإنسان، ورغم أنها لم تتمكن من حصر كل الانتهاكات بتفاصيلها التي تضمن حقوق جميع الأفراد الذين وقع عليهم الاضطهاد؛ إلا أنه توثيق لحوادث كثيرة جدا والأهم أن نتيجة هذا التوثيق هو إثبات وقوع تلك الانتهاكات، وإثبات مسؤولية (الحكومة العراقية) وأجهزتها الأمنية عن وقوعها. ولو أن المواطن العراقي يأمن على نفسه عند تقديم الشكوى؛ أو لو وجدت جهات محايدة تستقبل تلك الشكاوى وتتكفل بحمايتهم؛ لرأينا مئات الآلاف منها – إن لم نقل الملايين- ترفع من قبل مواطنين كتموا آهاتهم ووجهوا شكواهم لرب العباد بعد يأسهم من العباد وخوفهم من انتقام الجلاد. ثانيا / تعريف الرأي العام بالانتهاكات : ومن المهام التي تقع على عاتق المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان هو نشر ما يتم توثيقه من انتهاكات عبر وسائل الإعلام وفي أروقة السياسة، والغاية من ذلك هو تعريف الرأي العام العالمي من أجل القيام بتشكيل ضغط على الحكومات التي ترتكب تلك الانتهاكات لإيقافها، فإن تحقق هذا تكون المنظمات قد حققت إنجازا كبيرا في حماية أبرياء آخرين ينتظرهم الدور للوقوع ضحية تلك الانتهاكات، فليس الغاية من النشر التشهير من أجل الفضائح أو للتسقيط السياسي لجهات من أجل حساب آخرين؛ بل هو وسيلة مشروعة غايتها منع مرتكبي الانتهاكات من الاستمرار في جرائمهم حماية للأبرياء. ومن يستقرئ أنشطة المنظمات التي عملت في ملفات حقوق الإنسان في العراق يجد الكثير منها قد قامت بجهود كبيرة جدا في هذا المجال ونجحت في نشر تقاريرها وما لديها من وثائق، حيث سلكت الطرق الصحيحة في استخدام الإعلام وتنظيم الندوات والمؤتمرات ونشر التقارير وطباعة الملصقات ومعارض الصور ونحوها، كما نجحت العديد من تلك المنظمات في إيصال حقائق ما تم توثيقه إلى المسؤولين السياسيين والمنظمات الأممية وعلى رأسها (الأمم المتحدة) ولاسيما (مجلس حقوق الإنسان) المسؤول عن هذا الملف، وقد تمكنت العديد من المنظمات العراقية والدولية من إيصال تقاريرها إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وشاركوا في عدة دورات تتعلق باستعراضها الشامل لحالة حقوق الإنسان([27]). لكن لابد من الاعتراف أن هذه الوسيلة رغم ما بذل فيها من جهود بقيت قاصرة عن تحقيق غايتها، وهناك أسباب عدة؛ فمن جهة الإعلام لا تزال العديد من وسائل الإعلام تخشى أن تنشر الحقائق خوفا من بطش الحكومة الحالية، وبعضها تجامل (الحكومة) لمطامع في مكاسب مادية أو لأنها تسير ضمن برامج حزبية مؤيدة (للحكومة). أما من جهة الأروقة السياسية فالعديد من دول العالم تتعامل مع القضية العراقية عموما بحذر أو خوف من (أمريكا) ومشروعها في العراق، أو من مبدأ تقديم المصالح الاقتصادية لتلك الدول على مبادئ حقوق الإنسان وواجبها الإنساني في نصرة المظلومين والشد على يد الظالمين. نكتفي بمثال واحد يدلل على جزء يسير من الجهود السياسية التي تبذلها هذه المنظمات؛ حيث قامت منظمة الكرامة لحقوق الإنسان في جنيف باستضافة عدة شخصيات عراقية ناشطة في مجال حقوق الإنسان منهم محمد الدايني للفترة 29 – 31 أكتوبر/تشرين الأول 2008م (وقدم الوفد معلومات موثقة عن الحالة الراهنة لحقوق الإنسان في العراق، واجتمع مع مسؤولين من الأمم المتحدة ومن مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان ومن منظمات غير الحكومية في جنيف، كما تم بهذه المناسبة عقد مؤتمر صحفي بنادي الصحافة السويسرية وألقيت محاضرة عامة في دار الجمعيات)([28]). ثالثا / صياغة الشكاوى القانونية وتقديمها للجهات المختصة: إن جريمة انتهاك حقوق الإنسان شأنها شأن الجرائم الأخرى إذا ما أردنا محاسبة الجاني وتعويض المجني عليه؛ حيث لابد: فمن جهة الصياغة القانونية فالمنظمات العاملة في هذا المجال لا تقصر، والكثير منها مستعد للمساعدة سواء في إرشاد من يريد التقدم بالشكوى أو في تنظيم دورات وورش عمل لتعليم الناشطين للقيام بهذا الدور. أما ما يتعلق بالجهات المختصة فالاختصاص هنا نوعان؛ اختصاص محلي (المحاكم المحلية) واختصاص دولي (محكمة الجنايات الدولية) مثلا، أما تقديم الشكوى إلى المحاكم المحلية فيصطدم بالواقع العراقي حيث سيطرة الأجهزة الأمنية على مفاصل الدولة بما فيها القضاء المتهم أساسا بمشاركة قسم منه بتلك الانتهاكات وبعضه بالتستر عليها، وهو واقع يجعل الأشخاص الذين يتعرضون لتلك الانتهاكات يخافون تقديم شكاوى، فليس من المنطق أن يتقدم الشخص إلى القضاء بشكوى ضدهم وهو – أي القضاء - متهم أساسا بمشاركة قسم منه بتلك الانتهاكات وبعضه بالتستر عليها، وكذلك الحال لا يمكن الاستعانة بالأجهزة الأمنية – بما فيها مراكز الشرطة – لتأخذ الشكوى طريقها القانوني وهي تتهمهم بتلك الانتهاكات. أما محاكم الاختصاص الدولي فللأسف لم تقدم إلى الآن أي شكوى، ولم يتحقق إلى الآن انعقادها، والسبب الرئيسي غياب الإرادة الأممية لذلك رغم أن المنظمات قد أوصت في تقاريرها على ضرورة القيام بهذه الخطوة من ذلك ما ذكرته المنظمة العربية لحقوق الإنسان: (كما تؤكد المنظمة أن جراح العراقيين لن تشفى إلا بتقديم المسؤولين عن هذه الجرائم إلى العدالة وبالتالي يتوجب إحالة ملف الجرائم المرتكبة في العراق إلى المحكمة الجنائية الدولية بموجب الفصل السابع أو تشكيل محكمة خاصة على غرار المحاكم التي شكلت لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغسلافيا السابقة([29])(. لكن رغم ذلك فهناك بعض الدول الأجنبية تسمح قوانينها التقدم بالشكوى ضد جنودها الذين شاركوا في احتلال العراق، أو تسمح قوانينها التقدم بشكوى عالمية، وبالفعل تم رفع شكاوى ضد جنود بريطانيين شاركوا في تعذيب مدنيين عراقيين، كما رفعت شكاوى في إسبانيا ضد بعض جنودها الذين شاركوا في غزو العراق وغيرها، لكن لا يزال كل هذا نزر يسير جدا قياسا لما تم ارتكابه من انتهاكات في العراق، وقد ذكرت (هيومن رايتس ووتش) أنه: (في 8 سبتمبر/أيلول خلص تحقيق بريطاني قائم منذ ثلاث سنوات في وفاة بهاء موسى، وهو عامل استقبال في فندق قُتل أثناء احتجازه طرف القوات البريطانية إثر تعرض الجنود البريطانيين له بانتهاكات، خلص إلى إدانة إجراءات الاحتجاز وإخفاقات القيادة وضعف التدريب وعدم الالتزام بالانضباط العسكري وضعف "الشجاعة الأدبية" في أوساط الجنود فلم يبلغوا عن الانتهاكات. أدين جندي بريطاني واحد فقط بجريمة على صلة بعملية القتل هذه، وحُكم عليه بالسجن لمدة عام)([30]). وفي هذا الإطار تقول منظمة العفو الدولية في تقريرها الأخير: (في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، وبالرغم من التحقيقات في الحالات الفردية، لم يتم التحقيق بشكل منهجي في انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها قوات من هذين البلدين على نطاق واسع ولم تتم محاسبة المسؤولين عنها على جميع المستويات. وقد وجد الضحايا العراقيون لانتهاكات حقوق الإنسان التي اقترفتها الولايات المتحدة أن الطريق إلى الإنصاف في محاكم الولايات المتحدة مغلق(([31]). رابعا / محاسبة الجناة واستحصال تعويضات للمجني عليهم: وهذا الأمر في حقيقته هو غاية عمل المنظمات والناشطين في مجال حقوق الإنسان، فليس من اختصاصهم القيام بدور المحاسبة والتعويض، لكن أنشطتهم وسيلة للوصول لهذه الغاية بل هي غاية أساسية فضلا عن منع ارتكاب المزيد من الانتهاكات، فعمل تلك المنظمات هو السعي لتحقيق العدالة بالاقتصاص من الجناة ومحاسبتهم على ما ارتكبوه من جرائم ضد الأبرياء؛ وبتعويض الذين وقعت عليهم تلك الانتهاكات. والسؤال اليوم: هل تحقق شيئا من هذا؟ ومن المسؤول عن هذا الواجب؟ أما ما يتعلق بالشطر الأول من السؤال فنقول: نعم ربما تم تعويض أفراد قلائل من الذين تعرضوا لتلك الانتهاكات على يد قوات الدول الأجنبية المشاركة في احتلال العراق؛ حيث رفعت بعض الشكاوى في تلك البلاد وتم الحكم لهم، لكنها تبقى حالات فردية لا تشكل شيئا قياسا لمئات الآلاف من الذين تعرضوا للانتهاكات من قتل أو اعتقالات أو تعذيب وغيرها؛ أو الملايين الذين اضطرتهم تلك الانتهاكات للنزوح أو أجبروا على التهجير خارج البلاد. أما محاسبة الجناة فما تم حتى الآن عبارة عن محاكمات لبعض الجنود الأجانب – أمريكان أو بريطانيين – والأحكام التي صدرت بحقهم تعد مهزلة لا ترقى لمستوى المآسي التي وقعت في العراق وما قام به أولئك الجنود من انتهاكات، ويكفي أن نمثل على ذلك بالأحكام الهزيلة للجنود الأمريكان الذين تمت محاكمتهم على انتهاكاتهم للمعتقلين العراقيين في سجن (أبو غريب) سيئ الصيت والتي انتشرت صور تلك الانتهاكات في العالم أجمع، أو الأحكام المخففة على الجنود الأمريكيين الذين قاموا بجريمة اغتصاب الطفلة (عبير الجنابي) ومن ثم حرقها وعائلتها. المسؤولية الأممية: وهنا يأتي أوان الجواب عن الشطر الثاني من السؤال السابق؛ حيث يمكننا أن نستنتج مما تقدم أن دور المنظمات المحلية والدولية الناشطة في مجال حقوق الإنسان لم يكن قاصرا؛ بل يعد في بعض الأحيان جهدهم إنجازا كبيرا بالنظر للظروف التي يشهدها العراق، لكن المسؤولية في إيقاف تلك الانتهاكات في العراق ومحاسبة المسؤولين عنها والاقتصاص للأبرياء وتعويضهم؛ تقع على عاتق المجتمع الدولي الذي يغض الطرف عما جرى ويجري. وهذه النتيجة قد نصت عليها العديد من المنظمات وأوصلتها إلى المجتمع الدولي وتحديدا مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة من خلال تقارير تلك المنظمات وشهاداتهم فمن ذلك هذه الشهادة: (يصادف هذا العام الذكرى العاشرة لحرب العراق، وقد تم الإبلاغ عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان مخالفة للقانون الدولي أثناء وبعد الحرب على العراق، ومع ذلك فإن معظم هذه الانتهاكات المزعومة لحقوق الإنسان لم يتم التحقيق بشأنها بشكل سليم لا في التقارير المحلية ولا في التقارير الدولية، ولم يتم تقديمها للعدالة).([32]) ومثال آخر شهادة أخرى أمام مجلس حقوق الإنسان: (نشعر بالقلق البالغ والمتزايد إزاء استمرار الإفلات من العقاب لبعض منتهكي حقوق الإنسان الأكثر خطورة، ونأسف لأن كل من مكتب المفوض السامي ومجلس حقوق الإنسان قد فشلا في اتخاذ إجراءات كافية لمعالجة مقتل ما لا يقل عن ثلاثة ملايين شخص نتيجة للاستخدام غير المشروع للقوة ضد المدنيين في أفغانستان والعراق).([33]) وقالت محكمة بروكسل في تقريرها الذي أصدرته بعنوان (تفكيك الدولة العراقية) تعليقا على قيام (مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان "نافي بيلاي" بِحثّ العراق والولايات المتحدة للتحقيق في مزاعم التعذيب والقتل غير المشروع الذي كانا جزءا من الصراع في العراق الذي كشف عنه في وثائق ويكيليكس) قالت محكمة بروكسل: (إننا نستغرب جدا من هذا البيان، هل يعتقد المفوض السامي أنه من المناسب للمجرمين التحقيق في الجرائم الخاصة بهم؟) وبناء على ذلك تحدد بأن (المطلوب أن يتم إجراء تحقيق دولي تحت رعاية المندوب السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وينبغي إشراك خبراء مختصين مختلفين، فهنالك الخبير الخاص المعني بحالات الإعدام بدون أمر قضائي أو الإعدام التعسفي، والخبير الخاص المعني بتعزيز وحماية حقوق الإنسان أثناء مكافحة الإرهاب، والخبير الخاص المعني بالتعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة أو العقاب، وينبغي أن يعين الخبير الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في العراق على وجه السرعة)([34]). وقالت منظمة العفو الدولية في تقريرها بمناسبة الذكرى العاشرة لاحتلال العراق: (بعد مرور عشر سنوات على غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة الذي أطاح بالرئيس صدام حسين، لا يزال العراق يرزح تحت وطأة انتهاكات حقوق الإنسان، ولا تزال الجماعات المسلحة المعارضة للحكومة تقتل أعداداً كبيرة من المدنيين وتنكّل بهم جراء الهجمات والتفجيرات الانتحارية، وفي معرض ردها على ذلك، شنت السلطات حملات واسعة النطاق طالت الكثيرين بالاحتجاز والتعذيب والمحاكمات الجائرة والإعدامات، ويصف التقرير الحالي بعضاً من أسوأ انتهاكات حقوق الإنسان التي تُرتكب في العراق اليوم، ويدعو التقرير الدولة العراقية إلى ضرورة التحرك العاجل بغية التصدي لتلك الانتهاكات، وضمان تحقيق كامل أوجه المساءلة)([35]). ما ذكرناه ليس أوراقا تتداولها المنظمات فيما بينها، ولا وثائق منشورة في قنوات مغمورة، بل هي جزء من كم كبير من الوثائق التي يعلم بها المجتمع الدولي، وجميع الدول تدرك حقيقة الانتهاكات التي ترتكب في العراق، وقبل أيام تحدث "استرون استيفنسون" رئيس هيئة العلاقات مع العراق في البرلمان الأوربي في شهادته أمام البرلمان الأوربي تحدث عن مجزرة الحويجة الأخيرة وأثبت سقوط (70) قتيل وأكثر من (270) جريح على يد قوات الأجهزة الحكومية وأكد تورط مسؤولين كبار فيها، وأذيعت شهادته هذه في العديد من قنوات التلفزة. لكن رغم كل هذا بقي الحال على ما هو عليه فلا الجناة تمت محاسبتهم ولا المجني عنهم تم تعويضهم أو رد حقوقهم أو الاعتبار لهم بل ولا الانتهاكات توقفت، والسبب أن (الحكومة العراقية) تقرأ سكوت المجتمع الدولي عن جرائمها بأنه إقرار لكل ما تقوم به، وتفسر التجاهل الأممي لتلك الانتهاكات ضوءا أخضر للاستمرار فيها، ويبقى الشعب العراقي هو الضحية. ولكن يبقى الأمل في جهود المخلصين والعاملين في مجال حقوق الإنسان، وتبقى أعين الشعب العراقي بما يعانيه على كل ما يبذل في سبيل الانتصار لحقوقهم المنتهكة، وباسمهم أتقدم بالشكر لكل من يساهم في فضح تلك الانتهاكات وإثبات حق الأبرياء في استرداد حقوقهم، ومنها هذا المؤتمر وما يقدم فيه وما سيتمخض عنه من توصيات نأمل أن تكون عاملا مساعدا للتخفيف عن معاناتهم. التوصيات: ([1]) ورقة مقدمة ضمن المشاركة في الندوة العالمية: "حقوق الإنسان والحريات الأساسية في العراق" التي نظمها الاتحاد الدولي للحقوقيين بالتعاون مع جامعة يني يوزييلفي إسطنبول. ([2]) من فمك أدينك- اعترافات لمسؤولين وسياسيين حول الأوضاع المزرية في العراق، مركز إكرام لحقوق الإنسان، 2013م. ([3]) الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في عام 1948م. ([5]) كمثال على ذلك (وزارة حقوق الإنسان في الحكومة العراقية) ([6]) ذكر مركز جنيف الدولي للعدالة أنه تولى (عملية تنسيق واسعة النطاق اسفرت عن تقديم عدّة تقارير بالاشتراك مع عدد كبير من المنظمات غير الحكومية تضمنت مختلف جوانب انتهاكات حقوق الإنسان في العراق في الدورة 22 لمجلس حقوق الإنسان، وقد اشترك في تقديم التقارير بالإضافة الى مركز جنيف الدولي للعدالة ما يقرب من 300 منظمة غير حكومية)، تقريره المقدم إلى مجلس حقوق الإنسان في الدورة 22. http://www.gicj.org/index.php?option=com_content&task=view&id=247&Itemid=160&mylang=arabic&redir=1 ([7]) ينظر: الرابط الآتي: http://www.gicj.org/index.php?option=com_content&task=view&id=177&Itemid=163 ([8]) تقريرها المقدّم إلى الأمم المتحدّة ـ مجلس حقوق الإنسان الدورة التاسعة تشرين الثاني 2010م، ص 3. ([9]) تقرير هيئة علماء المسلمين (العراق في السنة التاسعة من الاحتلال للفترة الواقعة بين نيسان 2011 ونيسان 2012) ص 3. ([10]) التقرير السنوي عن حالة حقوق الانسان في العراق لعام 2012، ص 79، http://www.ihrsusa.net/details-315.html. ([11]) مصدر أمني حكومي في شرطة محافظة ذي قار في تصريح للوكالة الوطنية العراقية للأنباء/نينا/ نشر في 6/8/2012. ([12]) تقريرها لحقوق الإنسان في العراق ( كانون الثاني / يناير - حزيران / يونيو 2012م)، ص 4. ([13]) تقرير محكمة بروكسل (تفكيك الدولة العراقية) مجلة حضارة التي يصدرها مركز الأمة، العدد 12 لسنة 2011م، ص 224. ([14]) منظمة العفو الدولية مارس/آذار 2013، http://www.amnesty.org/ar/news/iraq-still-paying-high-price-after-decade-abuses-2013-03-11 ([15]) من فمك أدينك- اعترافات لمسؤولين وسياسيين حول الأوضاع المزرية في العراق،مركز إكرام لحقوق الإنسان،2013م، ص5. ([16]) تقريرها بعنوان (أنقذوهم قبل أن يواجهوا نفس المصير) في2013-04-09. http://www.aohr.org.uk/details.php?id=561 ([17]) تقرير مقدّم إلى الأمم المتحدّة ـمجلس حقوق الإنسان الدورة التاسعة للاستعراض الدوري الشامل تشرين الثاني2010، ص3. ([18]) التقرير السنوي لمنظمة الكرامة لحقوق الإنسان، 2008 م، ص 29. ([19]) تقريرها لحقوق الإنسان في العراق ( كانون الثاني / يناير - حزيران / يونيو 2012م)، ص 8. ([20]) تقرير هيئة علماء المسلمين مقدّم إلى الأمم المتحدّة ـمجلس حقوق الإنسان الدورة التاسعة للاستعراض الدوري الشامل تشرين الثاني2010، ص2. ([21]) التقرير السنوي لقسم حقوق الإنسان في هيئة علماء المسلمين للفترة الواقعة بين نيسان 2012 ونيسان 2013، http://www.iraq-amsi.com/Portal/news.php?action=view&id=67466&7b6c9899b181485e1041dc81e6f98b6e ([22]) الجمعية العراقية لحقوق الانسان في الولايات المتحدة الامريكية، ص83. http://www.ihrsusa.net/details-315.html ([23]) http://www.aohr.org.uk/details.php?id=572 ([24]) الجمعية العراقية لحقوق الانسان في الولايات المتحدة الامريكية، ص98. http://www.ihrsusa.net/details-315.html ([25]) تقريرها لحقوق الإنسان في العراق ( كانون الثاني / يناير - حزيران / يونيو 2012م)، ص 24. ([26]) الجمعية العراقية لحقوق الانسان في الولايات المتحدة الامريكية، ص99. http://www.ihrsusa.net/details-315.html ([27]) الأمثلة كثيرة: من ذلك مشاركة مركز إكرام لحقوق الإنسان في الدورة السابعة للاستعراض الدوري الشامل ( مراجعة حالة حقوق الانسان في العراق ) والمنعقد في شباط/ فبراير 2010وقدمت تقريرا بعنوان (المحاكم اللاشرعية والإعدامات غير القانونية)، كذلك مشاركة قسم حقوق الإنسان التابع لهيئة علماء المسلمين في الدورة التاسعة للاستعراض الدوري الشامل ( مراجعة حالة حقوق الانسان في العراق ) والمنعقد في تشرين الثاني 2010 وقدمت تقريرا بالتعاون مع مؤسسة البصائر، وذكرنا سابقا ما أوردته منظمة جنيف الدولية من تعاونها مع 300 منظمة في المشاركة بالدورة 22 لمجلس حقوق الإنسان، ومشاركتها سابقا بالدورة 19. ([28]) التقرير السنوي لمنظمة الكرامة لحقوق الإنسان، 2008 م، ص 65. ([29]) المنظمة العربية لحقوق الإنسان 2013-04-23، http://www.aohr.org.uk/details.php?id=572 ([30]) http://www.hrw.org/node/104480 ([31]) http://www.amnesty.org/ar/news/iraq-still-paying-high-price-after-decade-abuses-2013-03-11 ([32]) كلمة السيدة كازوكو إيتو ضمن جدول اعمال مجلس حقوق الإنسان خلال الدورة 22 والذي عقد في 12 مارس 2013، http://www.gicj.org/index.php?option=com_content&task=view&id=284&Itemid=160 ([33]) كلمة السيدة جالا ماريك ضمن جدول اعمال مجلس حقوق الإنسان خلال الدورة 22 والذي عقد في 12 مارس 2013، http://www.gicj.org/index.php?option=com_content&task=view&id=284&Itemid=160 ([34]) مجلة حضارة التي تصدر عن مركز الأمة، العدد 12، سنة 2011م، ص 222. ([35]) منظمة العفو الدولية تقريرها بعنوان (العراق عقد من الانتهاكات) http://www.amnesty.org/ar/library/info/MDE14/001/2013/ar