عَوَامِلُ تَشْكِيلِ الْعَقْلِ الجَمْعِيِّ لِلشُّعُوبِ - الْمَوَانِعُ وَالحَلُّ -

21 أغسطس, 2021

هشام عبد الكريم البدراني

اللَّهُمَّ يَسِّرْ وَأَعِنْ يَا كَرِيمُ

الْمُقَدِّمَةُ

عندما تتحرَّكُ الشعوبُ في التعبير عن مشاعرها بالرضا أو الغضب، أو تنتفض على أمر ألَمَّ بها وأصابها بموْجِع، فذلك يدلُّ على اضطراب في ميزان التفاهم بين العقول الأربعة التي تحكم شعرةَ ميزان كفَّتَي الرضا أو السخط والهدوء أو الغضب، في مقابل الحق المُستَلَب والباطل الشائع، أو الكذب الحاضر والصدق الغائب، وفقدان مفاهيم العدل والأمانة في مجالات التطبيق لأعراف الأُمة وعاداتها وتقاليدها.

وهذه العقول الأربعة؛ هي: العقل الجمعي الشعبوي، والعقل الجمعي النخبوي، والعقل الجمعي السلطوي، ويتداخل في كل هذه العقول العقل الفردي.

والذي ينشط في هذه العقول الأربعة هي الأفكارُ وما يتولَّد عن دلائلها في مدارك الأذهان من مفاهيمَ ومقاييسَ وقناعات، تتحوَّل بالممارسة والتطبيق إلى عادات وتقاليدَ وأعراف، وبالتقادُم تصير موروثات سلوكيةً انطبع بها الشعورُ العام والتزم بها الإحساسُ الجمعي، ويكون من الصعب مغادرتُها أو التجاوزُ عليها.

وعن ذلك فإن أيَّ انتفاضة لشعب، ترتبطُ بمفاهيم هذه العقول وقدرتها على التناسُق بخصوص ما تحمله من مفاهيمَ مشتركة، وترجع إليه من أحكام لمقياس الأعمال وقناعات تحافظ على التوازُن للسلوك الاجتماعي العام، أو أنها ستقوم لإصلاح الأوضاع أو تغييرها وجوبًا.

وأيضًا فإن الأُمةَ التي لا تخنع للاستبداد، ولا تقبل الخضوعَ لقوة الجندي وصرامة القانون، تقوم إلى عمل يُنكِر هذه الأوضاع فتكون الانتفاضة، ومثل هذه الانتفاضة غالبًا ما تؤدي إلى إصلاح الأوضاع بالحكمة والنُّصرة للحق بالحق، وللأمانة بالعدل والإنصاف، وتكون الأُمة في حركتها الغاضبة تسير سيرًا طبيعيًا سويًّا بأفكار المبدأ الذي آمنت به وسنن أحكامه.

وأما إذا كانت انتفاضةُ الأُمة على قوىً أجنبيةٍ هدَمت كيانَها السلطوي، واغتصبت حقَّها في السلطان واختيار حاكمها، أو سلَّطت عليها من يسودها بالباطل، ويسوسها بالكذب والخداع، ويقودها إلى مهالك الخلل والخطأ، ويسومها بالظلم سوء العذاب، فإن هذه الانتفاضة إنْ لم تقُدْها النخبةُ وتدعمها القوةُ الفعلية القادرة على تغيير الأوضاع وإعادة السلطان لها؛ فإنها لن تثمرَ ما يجب من الغايات والأهداف.

وأما الخطرُ الأكبر إن استطاعت القوى الأجنبيةُ المهيمنةُ السيطرةَ على مقادير الحكم والسلطة، والتراتيب الإدارية، واشترت الذممَ، وأرهبت الناسَ حتى صار كثيرٌ منهم مستضعفين، وتقلَّبت الأمورُ الفاسدة والأحوالُ السيئة على جماهير الأُمة وأفرادها، وضعفت فيها مفاهيمُ المبدأ ومقاييسُ أحكامه، ووهنت القناعات، فإنه آنذاك لا يخدم الأُمةَ الانتفاضةُ العفويةُ بدافع الوجدان ومشاعره تجاه الظلم، ولا تنفع المطالبةُ بالحقوق من غير عقل جمعي نخبوي يتجسَّد بمنظمة قادرة على قيادة أفرادها، بوصفهم قيادةً سياسية مبدعة وصولاً إلى قيادة السلطة.

ولكي يحصل هذا، كانت هذه الدراسةُ البحثية الموجزة لمعرفة خطوط عريضة عن عوامل تشكيل العقل الجمعي للشعوب لإنجاح انتفاضتها.

مَحَاسِنُ الْعَقْلِ الجَمْعِيِّ وَمَسَاوِئُهُ

أوَّلاً: محاسنُ العقلِ الجمعيِّ:

إنَّ أربعَ قوىً إذا تلاحمت مع بعضها جعلت العقلَ الجمعيَّ يحافظ على هُويَّةِ الأُمةِ وديمومة وجودها، وهي:

الأولى: العقلُ الفرديُّ وقوامهُ القيادةُ الفكرية الصالحة الصحيحة، وهي تنطبع في حركتهِ بما يُنِيرهُ تجاه إنتاج السلوك الراقي، فيرتفع بأفكارها عن ضيق النظر والتدني في الرؤية، وصولًا إلى الإبداع أو دون ذلك من التقليد المعتبر؛ الذي يقوم على الفهم لمدارك الأفكار وجوبًا.

الثانية: العقلُ الجمعيُّ النخبويُّ المُنَظَّم، وهو عقلُ النخبة السياسية الواعية المبدعة، على حسب ما تتبناهُ من أفكار عملية قيمية، لتنظيم مجالات العمل النهضوي الاجتماعي والسياسي وترتيبها.

الثالثة: العقلُ الجمعيُّ الشعبويُّ القادرُ على توجيه طاقات الجماهير، وهو الإرادةُ الجماهيريةُ المتطلعةُ إلى العزة والكرامة بإدراكٍ متميِّزٍ للمبدأ، ووعيٍ لمفاهيمه في التطبيق والتنفيذ.

الرابعة: العقلُ الحاكمُ «عقل السلطة» الأمينُ على عقيدة الأُمة، والعادلُ في الحكم بين الناس فيطاعُ، أو أنه دون ذلك فيحاسَب، أو أنه خارجُ ذلك فيقوم عليه الجمهورُ ليغيِّرَه وجوباً.

فهذه أربعةُ عقولٍ تُشكِّل بُنية القوة للجماهير الحارسة والحريصة على وجودها الأُممي بين شعوبِ العالم ودولهِ.

قال الله تعالى: +ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ  ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙﱚ  " «آل عمران / 110». ونبَّه القرآن الكريم إلى ضرورة المحافظة على هذا النسق الفكري للعقل الجمعي في أُمة الإسلام، فقال الله تعالى: +ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ  ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﳚ ﳛ ﳜ ﳝ ﳞ " «آل عمران / 100».

بل نبَّه القرآنُ على حركة الفكر المستنير بالعقيدة وتقليب أفكاره وخواطر هذه الأفكار للوصول إلى المفاهيم المبلورة التي تُنضجها جدلياتُ الخصوم، فقال تعالى:+ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ  ﱉﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ" «آل عمران / 101».

وأوجبَ الشرعُ أن يُبنى هذا العقلُ الجمعيُّ على أصوله الفطرية من العقل الرشيد والعاطفة المبنية على الأُلفة والمحبَّة بالفكرة عقيدةً ومعالجاتٍ، قال تعالى: + ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦﱧ  ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ  ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ  ﱻ ﱼﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ" «آل عمران/103» بدلالة + ﱢ ﱣ " الوحي المتمثل بالكتاب والسُّنة.

والوحيُ هو القاعدةُ الفكريةُ عقيدةً، والقيادةُ الفكريةُ توجيهاً لتنظيم العقل الفردي بما يُصلحه لجزئية منظَّمة العقل الجمعي النخبوي، ويُصلحه لعضوية مجتمع العقل الجمعي الشعبوي، أو يؤهِّله لقيادة الأُمة في المجال التنفيذي للسلطة، فالوحيُ مصدرٌ للعقل الجمعي أفرادًا وجماعاتٍ.

ولَمَّا لم يكنْ كلُّ الأفراد قادرين على هذا التفكير الاستنباطي وليسوا بالمستوى نفسه في الذكاء، حرَّضَ الشرعُ على وجود الأفراد المبدعين، وعلى تجمُّعهم في فريق عمل إرشادي للعقل الجمعي، وهم النُّخبةُ أو جماعةُ الإصلاح والتغيير، فقال تعالى: + ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ  ﲎ ﲏ ﲐﲑ ﲒ ﲓ ﲔ" «آل عمران / 104».

والفريقُ الجماعيُّ أو التكتُّلُ النخبويُّ للإصلاح، هو نمطٌ من العقل الجمعي المبني على أصوله الفكرية العميقة والمستنيرة، والحريصُ على أهدافه النهضوية للإصلاح الفكري والتغيير السياسي، لهذا حرَّضَ الإسلامُ على جعله نقيًا بنقاء الفكرة الإسلامية، وصافيًا في التعبير عنها، وحذَّره – أي حذَّرَ الإسلامُ العقلَ الجمعيَّ – من الانتكاس والسقوط بأمراض السلطة والتجبُّر، فقال الله تعالى: +ﲖ  ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟﲠ  ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ  " «آل عمران / 104».

ثانياً: مساوئُ العقل الجمعيِّ:

وأما مساوئُ العقل الجمعي، فأولها: أنه من نمط التفكير السطحي الساذج، بسبب تفاوت المستوى التعليمي لأفراد الجماهير، وشيوع الجهل بسبب تلقي الموروث من الأعراف والعادات والتقاليد من غير تدبُّر أو فكرٍ، فينساقُ هذا العقلُ للسيطرة على العقل الفردي بأصنافه، ويتَّجهُ بها إلى اتباع الأهواء وكَبْت النشاط المغاير له؛ بحجة الأمن أو أن العقلَ الفرديَّ المعيَّنَ جاء بما هو غيرُ معهود أو متعارَف عليه، فلا ينظرُ في حُجَّته ومدى صلاحيته للأفضل.

مثالُ ذلك: عندما جاء نبيُّ الله موسى S بالبيِّنات يعاونه أخوه هارون، ما كان جوابُ العقلِ المُتسلِّط وأتباعِهِ إلا أن +ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ  ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ  " «يونس /78».

ولقد حذَّر القرآنُ منبِّهًا العقلَ النخبويَّ للجماعة الْمُصْلِحَةِ حماقةَ أفراد العقل الجمعي الشعبوي، واستبداد العقل السلطوي للجماعة الحاكمة، ونبَّهَ إلى مقياس إقامة العدل بالإنصاف، وبيان الحُجَّة بالدليل والبرهان، والاحتكام إلى شرائع الهدى، قال تعالى:+ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ  ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ  ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟﱠ  " «الزخرف/23-24».

ثانياً: من مساوئ العقل الجمعي: أنه يخضع لإرادة الفئة الحاكمة غالبًا في زمن الاستبداد، ولذلك فإنه كثيرًا ما  يقهرُ الأفرادَ أو يضطرُّ الجماعات إلى الحلول التي يُريدها ويرضى عنها.

والخطرُ في ذلك إذا تجاوب العقلُ الفرديُّ المبدعُ أو العقلُ النخبويُّ للحلول الوسطية الإرضائية، فإنه آنذاك سيبدأُ الانحدارَ الحضاريَّ للأُمة عن المستوى المناسب لمرحلته أو اللائق بعقيدة الأُمة ومبدئها عن الحياة.

وعن هذا، نجد أن السلطةَ عندما تحيد عن الحوار الفكري والبيان السياسي المقنِع، وتلجأُ إلى البطش والتجبُّر، فإن الأُمةَ سرعان ما يدبُّ فيها الانحلال والانحطاط.

ومن ذلك، ما صنعَ فرعونُ حيث كان في بدءِ دعوة موسى لبني إسرائيل، يُجادلهم بالبيان، ولكنه عندما أخذتْهُ العزةُ بالإثم وبطشَ بهم وأذاقهم العذابَ تغيَّر حالُهم، قال الله تعالى:+ﲞ  ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ  ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬﲭ ﲮ ﲯ  ﲰ ﲱ  " «القصص / 4».

فما كانتْ عاقبةُ بني إسرائيل إلا زيادةً في الجهل بالخضوع لرأي فرعون، والجدل بمفاهيم الخوف منه، والجبن عن إرادة الحق، فكان التَّيْهُ عن مطالب الرفعة والسيادة.

ثالثاً: وأيضًا، من مساوئ العقل الجمعي وسلبياته: أنه يُحوِّل الإبداعَ في العقل الفردي إلى كسلٍ أو عزلةٍ، بعد أن كان يُضفي جمالاً في تفسيره للظواهر الاجتماعية والسياسية، وهو يعبِّر عنها تعبيرًا صادقًا مرهفَ الإحساس متدفِّقَ الشعور، فيُحوِّلُ العقلُ الجمعيُّ المتسلِّطُ شخصيةَ الفرد من الذكاء الرشيد الواعي إلى شخصيةٍ رتيبةٍ تضمحلُّ فيها المقوماتُ الفكريةُ المنتجةُ فتنخفضُ في التفكير وتنحطُّ في سلوكها.

ولقد نبَّه القرآنُ إلى مخادعة العقل السلطوي وإضلاله للشعوب، ومن ذلك ضلالةُ فرعونَ، فإنه احتجَّ بشيءٍ من العقل الخادع، وبيَّن أنه يأخذُ بأسباب الدليل لدحض حُجَّة موسى S، قال الله تعالى: +ﱧ ﱨ  ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ  ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ  ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ  " «القصص / 38».

بل العقل الجمعي إذا استمرَّ بالتسلُّط وفَرْضِ الرأيِ على العقل الفردي سيقوده إلى الضلال والعماية، وهو يقول للناس ويُكرِههم على رأيه + ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ  ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ  "«غافر/29» .

ومن أحطِّ مظاهر أخلاقية هذا المستوى في العقل الجمعي، أنه يستخفُّ عقولَ أفراد الجماهير ونُخَبِهم، فيجعلُ الفاسدين الفاسقين يتعدون على دعاة الهدى تحت طغيانه.

قال الله تعالى:+ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ  ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ  ﱲﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ  ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ  ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ  ﲑﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ  " «الزخرف / 51-54».

وهنا يتحوَّل المجتمعُ إلى حال القطيع الجمعي، الذي يعيش حالةَ الإحباط والتذمُّر والغضب والتسخُّط، وتسوده مشاعرُ الحرمان والتظلُّم، وهو بين التَّيْه عن مبدأِ الحق أو التفجُّر المفاجئ غير المدروس في لحظة من اللحظات.

رابعاً: ومن أخطر مساوئ العقل الجمعي المتسلِّط بجبروت فساده إذا لم تظهر في الأُمة فئةٌ نخبويةٌ مبدعةٌ، تحمل قيادةً فكريةً مستنيرةً، وهي تملك القدرةَ الواعيةَ على أخذ انقياد الجماهير بالإقناع، مع أن نضالَها سيكون صعبًا وطريقَها مليئًا بالعثرات والمفاجآت، وهو الحالُ الذي يجعل كفاحَها غاليًا دمويًا وخسائرَهُ فادحةً؛ وذلك إذا لم تتدارك الأُمةُ لطائفَ الحكمة ومواقفَ الشجعان العقلاء.

وما واقع الأمة الإسلامية في عواصمها وبلدانها إلا تعبير صارخ عن هذا العقل الجمعي الجبري بمساوئه، ولا سيما أنه بين كماشة فكي الديمقراطية التوافقية التي فرضتها منظومة الرأسمالية الليبرالية الاستعمارية، وأيضاً منظومة الحركات العلمانية الاستبدادية التابعة لها من جهة، ومن جهة أخرى العقل الجمعي للحشود من قطعان المنظمات الطائفية والدينية العنصرية الإقصائية.

إن غيابَ الفئة النخبوية ذات المصداقية يشنِّجُ الموقفَ ويحشر حالَ الجمهور المتطلِّع إلى إصلاح الأوضاع والتغيير المنشود لسعادته في زاوية ضيقة خانقة، ويُعرقل مشروعَ النهضة، لأنه يمانع الفكرَ ويعطِّل التفكيرَ بفكَّيه الاستبداديين: الديمقراطية التوافقية الخدَّاعة، والطائفية المُسَيَّسة العنصرية الحاقدة، وأحزابهما الإقصائية.

والأخطر من ذلك إذا بحثَ العقلُ الفرديُّ عن الخلاص بأيِّ شكل كان لمجرد الخلاص، وبحث العقلُ الجمعيُّ النخبويُّ عن الحل الوسط، أو بدأ يفكِّر بعقلية العدو وطريقته الديمقراطية والنظر من زاوية المواطنة، فهو في هذا التفكير يدور في فكرة الطائفية والقومية والمحاصصة من حيثُ يدري أو لا يدري؛ لأن تفكيرَ النُّخبة على وفق هذا المفهوم وعقلها الجمعي لم يرتقِ إلى الحل المبدئي.

إنَّ الحلَّ بالارتفاع الفكري قبل كل شيء، فلا عملَ ناجح من غير فكر ينهض بالإنسان أولًا وقبل كل شيء، والعمل الصحيح للناس هو الذي يقوم على أُسس فكرة صالحة صحيحة تهدي الإنسان إلى الرشد.

مُشْكِلاَتٌ وَوَاجِبَاتٌ أَمَامَ تَشْكِيلِ الْعَقْلِ الجَمْعِيِّ

إنَّ المطلوبَ لإعادة تشكيل العقل الجمعي للجماهير بما يخدم العقلَ الفرديَّ للإبداع وفي أقل تقدير أن يجعله ذكيًا، وأيضًا بما يُتيح للعقل الجمعي النخبوي في التعبير عن الرأي الصالح الصحيح وإحساس الجماهير وشعورها، فإنه لا بدَّ من تغيير العقل الجمعي للسلطة في نظام الدولة ورجالاتها بما يعبِّر عن كل هذا الإصلاح ويؤهِّلهم لقيادة الأُمة داخليًا وخارجيًا.

ولكي ينشأ هذا المطلوب، لا بدَّ من البدء بشعرة الميزان لحركة كِفَّتَيْهِ، كِفَّة الكيان الاجتماعي للأُمة، وكِفَّة الكيان السلطوي للدولة؛ وشعرةُ الميزان هذه هي العقلُ الجمعيُّ للنخبة على مختلف فئاتها وفصائلها، وتعدُّد أحزابها ومنظَّماتها.

إنَّ أوَّلَ الأمر هو إنشاءُ العقل الجمعي النخبوي «شعرة الميزان» وتأسيسُهُ على أصول النظر الصالح الصحيح في الواقع لمعرفة مشكلات الأُمة وحال جماهيرها، والاتجاه به إلى تكوين منظومة فكرية واسعة الرؤية، واقعية التعامل، عملية في انسجام مع مختلف المشاعر والأحاسيس والأفكار الشائعة في الأوساط الاجتماعية والمجتمعية؛ والاستعداد لقصد المعالجة على حسب المطلوب بما يجبُ من الفكر المستنير والثقافة الراشدة اجتماعيًا وسياسيًا.

قال الله تعالى: + ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ  ﱭ ﱮ ﱯﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵﱶ  " «الحجرات /13».

ويقتضي النظرُ في واقع الأُمة الوعيَ على المجتمع لمعرفة المطالب، وأن تكون النخبةُ مدركةً للأوضاع إدراكًا دقيقًا، لا من قبل القيادة للنخبة فحسب، بل من قبل كل فرد من أفراد العقل الجمعي النخبوي، بوصفهم كيانًا يقوم بأفراده كبنيان مرصوص، كلًا لا يتجزَّأ، وبوصفِ كُتلتهم كلًا أدركَ القاعدةَ الفكريةَ وتفاعل معها وآمنَ بها، وصاروا كالجسد الواحد، فهم كلٌّ فكريٌّ شعوريٌّ يتوحَّد فيه الإدراكُ والشعورُ، لأنه يتميَّز بعقلية التفكير العميق، والفكر المرهف الإحساس، ومع هذا كله سيواجه سيلًا متراكمًا من المشكلات وهو يحاول الشيوعَ في الأُمة، وأيضًا سوف تقعُ عليه أحمالٌ من الواجبات.

ومن تلك المشكلات للعقل الجمعي والواجبات بوصفه عقلًا جمعيًا عامًا شعبويًا، أو عقلًا جمعيًا سلطويًا؛ فكل هذه المشكلات ومتطلبات الواجبات يمكن أن نصنِّفها بما يأتي:

أوَّلاً: مشكلاتُ العقل الجمعيِّ وواجباتهُ:

  1. تدركُ الجماهيرُ في العالم الإسلامي فكريًا، أنها في واقع سيء، وأنها بحاجة إلى قيادة مخلصة واعية، وتشعر بذلك، إلا أن هذا الإدراكَ ليس إدراكًا كافيًا، لأنه يحيطه الغموضُ، فضلًا عن أنَّ الشعورَ مبهمٌ، ولا تستطيع الجماهيرُ التعبيرَ عنه.

والمشكلة أن الأُمةَ ضحلةُ التفكير حيثُ ثقافتُها هابطةٌ، وأيضًا ضعيفةُ الإحساس، حيث تسيطرُ عليها أخلاطٌ متفرقةٌ من الآراء والأفكار، وتستولي على مشاعرها عواطفُ مختلفةٌ، بل متناقضةٌ، فهي في مستوىً منخفضٌ فكريًا وشعوريًا أَوْهَنَ ثقتَها بنفسها.

والواجبُ يُحتِّمُ العملَ على رفع مستوى الثقة بالنفس، برفع المستوى الفكري عن طريق الثقافة المركَّزة والتثقيف بالأفكار اللازمة لإيجاد هذه الثقة، وأيضًا متطلَّبِ ذلك من الثقافة التي يحتاجها السلوكُ الراقي حتمًا، وهذه الوظيفةُ من مهمَّات عمل العقل الجمعي النخبوي ومسؤولياته، لرفع مستوى الإحساس في الشعور الجماهيري عن طريق تقديم المعلومات الكثيرة والقيام بالأعمال الموثوق بها.

إن المشكلةَ والحالُ هذه، أن الأُمةَ سوف تدور في دوامة الغثائية بالجهل والتجهيل، والتحريف والتأويل، غير مدركة لما هي عليه من التخلُّف والتأخُّر والتبعية، من التخلُّف عن مقومات الريادة والتأخُّر عن ضرورات السيادة والتبعية لثقافات القوى الأجنبية ومفاهيم حضارتها.

والواجب هو إعادةُ تأهيل الجماهير للنهوض بحال الأُمة، والعمل الجاد على هذا التأهيل الذي يعني تهيئةَ أفكارها ومشاعرها بالمستوى المطلوب لاستئناف الريادة والسيادة، فإثارةُ ناحية التفكير العميق ومحاربة السطحية، واجبٌ مُلزِم، والحثُّ لها على أن لا تكتفي بالنظر إلى سطح البحر، وإنما لا بد من الخوض إلى أعماقه، فرضٌ محتَّمٌ.

كل هذا يستدعي جُهْدَ العقل الجمعي النخبوي المنظَّم بالضرورة وجوبًا، فلا بد من إثارة مشاعرها تجاه ماضيها، وتوجيه إرهاف حِسِّها إلى مستقبل مشرق مشرِّف، وجعل شوقها لحمل سيادة مبدئها إلى العالم أشدَّ وأقوى من شوقها لأي شيء آخر.

إن تهيئةَ الأُمة يعني العملَ على وجدانها لإعادة الثقة بنفسها أنها خيرُ أُمة أُخرجت للناس، بالإيمان بالإسلام أنه نظامُ حياة، والإيمان بالعمل لتطبيق نظام الإسلام في مجالات الحياة، والحرص على هذا الإيمان في التطبيق والحذر من مخالفته، وحمل دعوته إلى العالم.

والواجبُ أن تعلمَ الأُمةُ أن طريقَ هذه المعاودة لا يتم ما لم تصبح الأفكارُ الإسلاميةُ هي السائدة، ليس على مستوى الشعارات والعواطف الوجدانية، وإنما على مستوى العقل الجمعي الشعبوي، والعقل الجمعي النخبوي، والعقل الفردي المبدع الذكي، لينال هذا العقلُ موقعَ الصدارة من جديد، ويحقِّق سيادةَ الأُمة بالمبدأ في الدولة والحكم.

وأيضًا، هذه المعاودةُ للسير في طريق النهضة تتطلَّبُ ممارسةَ العقل الجمعي سلوكَ الطريق السياسي بالمفهوم الإسلامي، وأن تكون هذه الممارسةُ واضحةَ الطريقة تسودها الأفكارُ الصالحةُ الصحيحةُ المهيمنةُ على جميع الأفكار، وأنه ليس الأمرُ للهُوَّاة أو أن يُعطى له فضلةُ الوقت.

وأيضًا، يجب على العقل الجمعي النخبوي توضيحُ الطريق السياسي لا بثقافته فحسب، بل بتطبيق هذه الثقافة على الحوادث اليومية التي تحصل داخليًا أو في العالم، فيتوجَّبُ الإسراعُ بالعمل السياسي من دون تراخٍ، بحيث يتجلَّى في جُهد النخبة وهي تتبنَّى مصالحَ الناس وتكشف خططَ الأعداء.

الأول: أن الجماهيرَ تتجاذبها منظماتٌ متعدِّدةٌ وأفكارٌ مختلفةٌ، ومن الطبيعي أن الحسَّ الجمعيَّ والشعورَ الجماعيَّ يتأثَّر بالفكر السائد، بل لهذه الأفكار السائدة تأثيرٌ كبيرٌ على العقل الجمعي، وهذا التأثيرُ له سلطةٌ كبيرةٌ وقويةٌ أكثر من أيِّ سلطان آخر. فكان هذا العاملُ الأكثرَ نفوذًا في التأثير على العقل الجمعي الشعبوي؛ لأن الأُمةَ تكون بجانب المنظَّمة التي تحمل نفسَ الأفكار السائدة عندها، وبالتالي تصبح هذه الأفكارُ هي المسيطرةُ على العقل الجمعي، بحكم أنه يطغى فيه ما هو سائدٌ من الآراء، فيميل إلى هذه المنظَّمات المصطنعة بالتضليل والمخادعة.

الثاني: وهو تابعٌ للعامل الأول، ونتيجةٌ حتميةٌ تحصل لغياب المنظَّمة الصالحة الصحيحة التي تحمل هويةَ الأُمة وتابعيتَها انتماءً لعقيدتها وولاءً لجماعتها، وكنتيجة لهذا الغياب، وبضرورة التصاق الجماهير بمن يعبِّر عن فكرها الجمعي المتأثِّر بمفاسد الواقع وأدرانه، تكون الأُمةُ قد اعتادت العملَ الذي تُقدِّمه المنظَّماتُ الوافدةُ والدخيلةُ، وبتوجيهاتها تنساق الجماهيرُ مع الأعمال (الْمَشْغَلَةِ والْمَلْهَاةِ) فتقوم لداعي المظاهرات والاحتجاجات والبرقيات والخُطَب العاطفية، وهي مستمرةٌ بذلك لانضباعها بأساليب الغرب الرأسمالي، على الرغم من قناعتها بأن هذه الأعمالَ عقيمةٌ غيرُ منتجة على ما فيها من تضحيات.

والواجبُ لمعالجة هذه المشكلة في العقل الجمعي، تهيئةُ الجماهير ولا بد، بالمطالب قبل مباشرة العمل في الأوساط الاجتماعية، ومن ذلك التنبيه على ما يأتي:

والواجبُ معالجةُ هذه العوامل في الفكر للعقل الجمعي على الرغم من أن الناسَ الذين يعيشون في المجتمع مسلمون في عقائدهم، إلا أن إسلامَهم هذا وجدانيٌّ وليس إسلامًا عقلانيًا حكيمًا بالدليل والبرهان.

وأيضًا، من وجه آخر:  فإن الناسَ لا يزالون في شؤونهم الاجتماعية والفردية يسيرون حسبَ آداب الإسلام؛ إلا أن هذا السيرَ محدودٌ على مستواهم الفردي لا أكثر؛ قد غاب عن أذهانهم ما هو أكثرُ بجعل الإسلام نظامَ حياة لمجتمعهم وسلطانهم ودولتهم.

وأيضًا، فإن واقعَ العالم الإسلامي خالٍ من الحركات السياسية الصادقة المنتجة، وأن المنظومةَ الدوليةَ الاستعماريةَ قد وضعته في ظروف أدت إلى أن تقوم فيه أعمالٌ تتشابه مع الأعمال السياسية، فسُميت أعمالًا سياسيةً يحسبها غيرُ المُبصر أنها مُجرياتٌ سياسيةٌ عاديةٌ، وواقعُها ليس في حبال نظرية المؤامرة فحسب، بل هي في خطط حقيقة المؤامرة على هذه الأُمة.

والحقيقةُ أن هذه المنظماتِ السياسيةَ نشأت لأجل القيام بهذه الأعمال السياسية المصطنعة؛ فهي منظماتٌ مختلفةُ الأشكال، أُطلق على بعضها منظماتٌ سياسيةٌ، وهذا ما جعلها تشتبه على الناس فيظنون أنها تقوم بأعمال سياسية وأنها منظماتٌ سياسيةٌ، وهذا الظنُّ أوقع المجتمعَ تحت سيطرة هذه المنظمات المصطنعة، وجعله مسرحًا لتلك الأعمال الخداعة.

والحلُّ لهذا الاشتباه، يجب أن يُصحَّح المفهومُ عن المنظمات السياسية القاتل لحيوية الأُمة أولًا، بأن المنظماتِ الحزبيةَ تُعتبر أعلى أنواع المنظمات الموجودة في المجتمع، فالواجبُ فيها أن تُكوِّن العقلَ الجمعيَّ النخبويَّ الذي يعبِّر عن إحساس الجماهير وشعورهم بأفكار المبدأ وأحكامه، وأنها لا بد من أن تكون صمامَ الأمان في صناعة الوعي الجماهيري وتكوين الرأي العام، أي توجيه العقل الجمعي إلى خير أمره في السيادة والسلطان؛ وأن هذه المنظماتِ الفاشلةَ ما هي إلا صناعةٌ للمثال السيء الذي يؤخِّر نهضةَ الجماهير لتكوين أُمةٍ رائدةٍ في العالم.

وعن هذا، فإن الذي يُلحظ أن المنظماتِ السياسيةَ في العالم الإسلامي لم تكن كذلك على مستوى المثال الحَسَن الرائد للأُمة، لأنها لم ترتفع بمستوى العقل الجمعي للشعب من ناحية فكرية وسياسية، فهي من الناحية الفكرية لا تزال تعيش في مستوىً منخفضٍ عن التفكير العادي، ولم تصل بعدُ إلى مستوى التفكير العادي لمهامِّ الدولة والحكم، والأمة والسلطة؛ لذلك لم تصل بعدُ إلى حال كونها تُمثِّل منظماتٍ حزبيةً سياسيةً بالمعنى السياسي، حتى حسب مفهوم السياسة السائد في العالم، وهو يريد بناءَ دولة حقيقية.

وعلى الرغم من أن الجماهيرَ تبدي التذمُّرَ من الأحزاب والمنظمات، ويظهر عليها المللُ منها ومن أساليبها، بل اليأسُ من إنتاج طريقتها، ولكن العقلَ الجمعيَّ للجماهير لا يتوجه للبحث عن الأصيل بدل الدخيل، ولا يلتفت لإيجاد المنظمة الحقيقية بدل هذه الخيالات والألعاب المتوهِّمة والمُشغلة، وذلك لأن العقلَ الجمعيَّ لا يُدرك ضرورةَ وجود منظَّمة مبدئية على الرغم من إدراكه لضرورة وجود منظَّمة، إلا أنه لا يُدرك صفةَ المبدئية في هذه المنظَّمة.

وعن ذلك، فكان لا غرابة أن نرى الأُمةَ بمجموعها متأثِّرةً بالأشكال التي تظهر في هذه المنظَّمات، وتسير وراءَها سيرًا لا شعوريًا تبعًا لمُلهيات هذه الأشكال عن واجبات الوقت، بنمط العقل المستقيل والشعور اللامسؤول مع استمراء الواقع الفاسد.

وأيضًا نجد أن الناسَ قد تبلور ذوقُهم في ذلك، فصاروا يألفون هذا الوجودَ الدخيلَ مع إحساسهم بعُقمه وعدم جدواه، وهو الأمرُ الذي أوجد حالةَ الانفصام في العقل الجمعي، فتجد أن الشعبَ يدافع عن كيانه الوطني أو القومي أو الطائفي كشعب لا كأُمة إسلامية، مع احتفاظه بالإسلام وحرصه عليه من الناحية التدينية الروحية والاجتماعية.

هذه العوامل أوهنت العقلَ الجمعيَّ الشعبويَّ وأضعفت إرادةَ الأُمة للقومة بالفكرة من الإسلام، وأقعدتها عن النهضة لمعالي الأمور وسامق الأهداف ونبيل الأخلاق، ووجهتها إلى سفاسف الأمور، وجعلتها تدور في رحى الجهل والتخلُّف والتبعية على ما أوردناه آنفاً.

وهذه العوامل جاء مثالُها في آيتين من كتاب الله:

أولاً: الآيات من سورة الأعراف «127-129» في مشروع موسى S للتغيير، وفيهما:

  1. صورةٌ للأحزاب الفاسدة وللحاكم المُتسلِّط بالقهر، قال الله تعالى: + ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ  ﲊ ﲋ ﲌ ﲍﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ  ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ  ".
  2. صورةٌ للمنظَّمة الصالحة الصحيحة، قال تعالى: +ﲘ ﲙ ﲚ  ﲛ ﲜ ﲝﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ  ﲤ ﲥ ﲦﲧ ﲨ ﲩ  ".
  3. صورةٌ للعقل الجمعي وتفاعله مع القضية، قال الله تعالى: +ﲫ ﲬ  ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴﲵ ﲶ ﲷ ﲸ  ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ  ﲿ ﳀ ﳁ  ".

ثانياً: الآيات من سورة غافر « 38-45»:

  1. إدراك العقل النخبوي المنظَّم لمسؤوليته في الدعوة للتغيير، قال الله تعالى: + ﲠ ﲡ  ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ  ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ  ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻﲼ  ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ  ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ  ".
  2. تجاوب العقل الجمعي المُتبلِّد الإحساس والشعور والفكر، قال الله تعالى: + ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ  ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ  ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ  ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ  ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ   ".
  3. الصبر على الحق، قال تعالى: + ﱳ ﱴ ﱵ ﱶﱷ ﱸ ﱹ ﱺ  ﱻﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ  ﲅ ﲆﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ  ".

ثانياً: مشكلاتُ العقل الجمعيِّ النخبويِّ وواجباتهُ:

إن من أولَ عوامل تكوين العقل الجمعي النخبوي هو تبنِّي قيادة فكرية صالحة صحيحة ينبثق عنها نظامُ حياة، ثم العملُ على وضع الخُطط اللازمة لإنشاء عمل سياسي في الأمة يسعى من خلاله إلى توعية العقل الجمعي للجماهير، وتنوير العقل الفردي بما يُصلحه لعضوية المجتمع.

وأيضًا، أن يتحمَّل مسؤوليةَ قيادة الجماهير بوصفه جزءًا من منظَّمة سياسية حقيقة، قال الله تعالى:+ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ  ﲎ ﲏ ﲐﲑ ﲒ ﲓ ﲔ" «آل عمران / 104».

وتُدرِكُ هذه المنظَّمةُ أنَّ القوةَ الحقيقيةَ للعمل السياسي في الأُمة هي القوةُ الفكريةُ، فلا يصح أن تستعمل سواها، قال الله تعالى: + ﲱ ﲲ ﲳ ﲴﲵ ﲶ  ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼﲽ  " «سبأ / 46» وقال تعالى: +ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ  ﲛ ﲜﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡﲢ  " «النحل / 125».

وأنه كلما ارتفعت الناحيةُ الفكريةُ في الأُمة نضج العملُ السياسيُّ وارتقى العقلُ الجمعيُّ النخبويُّ في سلوكه الدعوي للسيادة والسلطان؛ لأن العملَ السياسيَّ هو عملٌ جماعيٌّ يقوم به مجموعُ أفراد المنظَّمة بوصفهم كلًا فكريًا شعوريًا شائعًا في جماهير الأمة.

وما المنظَّمةُ في العمل السياسي إلا هؤلاء المجموعة من الأفراد الذين آمنوا بمبدأ، وعلموا أنه يُرادُ منهم إيجادُه في الواقع، أي في العلاقات الرابطة بين الناس، بصفته أفكارًا لتنظيم تفكير الجماهير، وأحكامًا تُنظِّم سلوكَهم، وتوجِّه مشاعرَهم إلى التفاني في العمل واستفراغ الوسع لإنجازه وتحقيق أهدافه.

وأن القوةَ الفكريةَ حقيقةٌ موضوعيةٌ تتجلى في المبدأ بأفكاره الرفيعة الإنسانية والواقعية والعملية، وهي من السعة لتشمل جميعَ مرافق الحياة وما قبلها وما بعدها، ففيها من الحلول ما يُعالج مشكلات العقل الجمعي العام وسلوك الناس، ويُعالج العقلَ الجمعيَّ النخبويَّ وتصرفات أفراده، ويُعالج العقلَ الفرديَّ وصلاحَهُ على المستويات كافة.

وإذا عُلِمَ أن المنظَّمةَ الحقيقيةَ هي مجموعةُ أفراد آمنوا بأفكار يُراد إيجادُها في واقع المجتمع؛ ليتكوَّن بها الوعيُّ التامُّ، ويتشكَّل بها العقلُ الجمعيُّ العامُّ، فإن العملَ الجماعيَّ لهذه المنظَّمة سيكون عملًا سياسيًا محضًا في عقلهم الجمعي النخبوي، ولا يكون غيرَ سياسيٍّ مطلقًا. فيجب أن يجهد أفرادُ المنظَّمة، بل يجب أن يجتهدوا في استفراغ وسعهم في الأعمال الرعوية والدعوية لأخذ انقياد الجماهير إلى التجاوب مع مبدئهم عقيدةً ونظامًا بالإقناع.

وآنذاك تتميز أعمالُهم بإشاعة ثقافة أفكارهم التي آمنوا بها، ثقافةٌ مركزةٌ في حلقات التعليم والدرس، أو ثقافةٌ عامةٌ بمختلف سبل إيصال الأفكار ووسائلها وأدواتها، هذا فضلًا عن تبنِّي مصالح الجماهير بالحق والعدل والإنصاف، وأيضًا بطرائق كشف خطط الأعداء الذين يتطلَّعون من خارج الأُمة لتذويب هويتها، والمنافقين والفاسدين ودناءة تصرُّفاتهم في داخلها.

وبهذا العمل المتميِّز ستفرض المنظَّمةُ احترامَها على مقوديها بالطاعة، وعلى الخصوم باستمرار الحوار والتفاوض والخضوع لتأثيرها وجوبًا.

وقطعًا، ستواجه العقلَ الجمعيَّ النخبويَّ مشكلاتٌ تتحدى عملَه لتنظيم عقل الجماهير وعلاقاتها، ولا بد من أن يكون لديه الحلُّ لهذه المشكلات لمعالجة تحدياتها أو أن يتَّخذ الإجراءَ المناسب؛ وهي في الغالب كما يأتي:

  1. لَمَّا كانت المنظَّمةُ الناجحةُ تحملُ الدعوةَ للمبدأ قيادةً فكريةً تنبثق عنها أنظمةُ الحياة في المجالات كافة، الاجتماعية والاقتصادية والأمنية وغيرها، وهي تتَّخذ السياسةَ الطريقَ الوحيدَ لهذه الدعوة للإصلاح والتغيير، فإنها ستواجه ثلاثَ فئات تقف أمام سيرها أو حجرَ عثرة أمام أخذ انقياد الجماهير، وهي: الفئات الحاكمة، والظلاميون، والمضبوعون بالثقافة الأجنبية.

ومن خطة الدول المهيمنة على إرادة الشعوب الإسلامية أن تضع هذه الفئات الثلاث أمام عمل المنظَّمة، كصخور تقوم في الطريق لتُعيق عن الوصول إلى الهدف؛ وحتى تكسب هذه القوى الاستعماريةُ الزمنَ، وهم يعلمون أن هذه الفئات الثلاث لا تحول دون الجماهير الواعية والوصول إلى الغاية، ولكنها تضعها في طريق السير لعرقلة السائرين.

ولمعالجة هذه المشكلة يجب على المنظَّمة ما يأتي:

أو لا بد - وعلى الأقل - أن يُفهم لديها وأن يكون واضحًا عندها، وأيضًا عند الجميع أنها وسائلُ استعماريةٌ للعدو، حتى يذهب أثرُها إنْ لم يكن بالإمكان تحويلها إلى الاصطفاف مع الأُمة.

أما المعركةُ الفكريةُ بين حركة المنظَّمة والأفكار الأخرى كافة، فهي حتميةٌ لا يمكن التخلِّي عنها للحظة واحدة؛ لأنها هي التي تُقرِّر مصيرَ جميع الأفكار السائدة وتقضي عليها، والحذرُ كلُّ الحذر من أن يتَّجه الصراعُ إلى غير الناحية الفكرية من الدفاع عن الأشخاص أو المصالح الآنية الأنانية.

وكلما ارتفعت المنظَّمةُ بفكرها عن الواقع لتنظرَ المطالبَ وتعالجَ المزالقَ، وكلما قلَّبت الأفكارَ ونقَّبَت فيها لتنظيفها مما علق بها من مفاسد الواقع وأدرانه، كانت قادرةً على التأثير واجتذاب الناس للمبدأ ولها في آنٍ واحدٍ، وكلما ربطت أفكارَ الإسلام بوصفها معالجات بالحوادث اليومية التي تحصل، استطاعت المنظَّمةُ أن تورث التأثيرَ في العقل الجمعي العام.

فمثلاً: لا يصحُّ السكوتُ عن بعض البُلْه وهم يقولون إن العقيدةَ الإسلاميةَ عقيدةُ روحيةُ كعقائد أهل الكتاب، فلا بد من التنبيه إلى خطأ هذا الاعتقاد بأن العقيدةَ الإسلاميةَ عقيدةٌ روحيةٌ بنظام وليس كعقائد أهل الكتاب؛ لأن عقائدَهم روحيةٌ بلا نظام.

أو يأتي بعضُ أنصاف المتعلِّمين ويزعم: أن الأحكامَ الشرعيةَ لا بد أنْ تخضع للقياس العقلي فنعرضها على العقل، فنقبلها أو نردها، فيُردُّ عليه: بأن الأحكامَ الشرعيةَ تُؤخذ بقوة الدليل من الكتاب والسُّنة ولسان العرب، وأن الأفكارَ الإسلاميةَ والأحكامَ الشرعيةَ مصدرُها الوحيُ، وتنشأُ في الأذهان باجتهاد المجتهدين، وتُتَبنَّى بقوة الدليل، ويعلمها العالمون وينقاد لشرائعها المخلصون عن طريق الإقناع بالأدلة النقلية لا بالحجج العقلية.

أو يأتي بعض المضبوعين بالثقافة الغربية، فيُشبِّه مجلسَ الشورى بمجلس النواب، ويُشبِّه الخلافةَ بالامبراطورية، أو الخليفةَ بالملك ورئيسِ الجمهورية. فيُردُّ عليه بأن مثلَ هذا التصوُّرَ خاطئٌ، وسيُبعد صورةَ الحكم الإسلامي عن مفاهيم العقل الجمعي العام إنْ لم يُشوِّهها، ويجب أن يُشرح لمثل هؤلاء وغيرِهم مفاهيمُ أحكام الشورى والخلافة كما جاءت في الفقه الإسلامي؛ لتكون صورةُ نظام الإسلام واضحةً في الأذهان.

ومثلًا: إذا صار بعضُ المهووسين بالإعلام، وأخذ يفضِّلُ السياسةَ الأوربيةَ على السياسة الأمريكية ويقارن بينهما، بحجَّة أن الثانيةَ جشعةٌ طامعةٌ، والأولى ثقافيةٌ وأكثرُ انفتاحًا، وأن الاستعمارَ الفرنسيَّ غيرُ الاستعمار الإنكليزي وغيرُ الأمريكي. فيُلفت نظرهُ إلى أن المبدأَ الرأسماليَّ هو الذي يحكمهما ويتحكَّم في سياستهما، والتاريخُ الأوربيُّ يشهد بحقده على العالم الإسلامي، وما الأمريكان إلا من بناتُ هذا التاريخ.

وإذا رأى المسلمُ أحدًا يعزو الموبقات كشرب الخمر والزنى والسرقات إلى فقدان الأخلاق، لَفَتَ نظرَهُ إلى أن هذا ناتجٌ من عدم التقيُّد بالحكم الشرعي من جهة هؤلاء الآثمين، وأيضًا هو شيوعٌ ناتجٌ عن عدم ردع الجريمة وترْكِ الحاكمِ تنفيذَ الحدِّ الشرعي في حق هؤلاء المجرمين، وأن حرمات الله لا تُصان في العقل الجمعي إلا بحدود الله تعالى، وأن أحكامَ الإسلام وشرائعَهُ يجب أن تُقام للمحافظة على أمنِ المجتمع وسلامة أمنِ الناس.

وعن هذا فيجب أولًا أن تهتمَّ المنظَّمةُ ببنيتها الثقافية وقيادتها الفكرية، فتعمل على تثبيت ما تتبناهُ من مفاهيم عن الإسلام لسياسة الجماهير باتِّجاه الرفعة والرقي، والعزة والكرامة، فهذه المفاهيمُ هي حجر الزاوية لثبات المنظَّمة باتِّزان في خط السير على طريق الهدى والرشاد.

ولأجل ذلك تعملُ المنظَّمةُ على الثقافة المركَّزة في الحلقات، وأن تصحبَ هذا التركيزَ الثقافةُ الجماعيةُ في الأوساط، لأجل انتزاع سلطان الأفكار التغريبية السائدة في العقل الجمعي العام، ثم قَلْعِها من جذورها، وإحلالِ الأفكار الإسلامية محلَّها.

وهذا الجهدُ الثقافيُّ التثقيفيُّ يجعل نشاطَ المنظَّمة منصبَّـًا على توعية العقل الجمعي العام، ويكون هو سياستُهُ أولَ الأمر، ويجري بشكل طبيعي يلفت النظرَ عند الأكثر إحساسًا والأكثر انتباهًا، وأيضًا يجعل أفرادَ المنظَّمة أكثرَ التصاقًا بالجماهير، حتى يثقَ الجمهورُ بعقل هؤلاء النخبة ويلجأَ إليهم في الملمات والمهمات، بل حتى في الأمور العادية للأفراد من أجل الاطمئنان.

والقاعدةُ العمليةُ في هذا المجال: أن حقيقةَ العمل الناجح هو باقتران الفكر بالعمل، وأن يكونا من أجل غاية يهيمن على الإتقان والإيمان، أي اليقين بالعمل أنه عبادةٌ وطاعة.

والسياسةُ في ذلك: أن كونَ الفكر والعمل من أجل غاية معينة هو المراد، فكان لا بد أن يكون لكل عمل قصدٌ من الجهتين الروحية والسياسية، بل هُوَ هُوَ كما في الأثر: مثل الصانع الذي يحتسب لله في عمله وهو محسنٌ، كمثل أُمِّ موسى تُرضع طفلَها وتأخذُ عليه أجرًا.

وهذا الشعورُ الجمعيُّ لا بد من وجوده لدى المنظَّمة باعتبارها كلًا، ولدى كل فرد من أفراد أعضائها، وأن يُربي هذا القصدُ العمليُّ فكرًا في الأذهان، وشعورًا في النفوس.

ولا يتناسب مع هذه القاعدة التواكُلُ وانتظارُ ما تأتي به الظروف، ولا الركونُ للعفوية من جهة المنظَّمة أو أفرادها، وحصول مثل هذا معناه التأخُّرُ والنكوسُ والتأثُّرُ بالواقع المرَضي المرادُ علاجُه.

ولأجل ذلك لا بد من دَوامِ التفكير بمراجعة ما تمَّ عملُه، وما هو في سبيل الإنجاز من العمل، وما يجب عملُه، ولا يصح أن ينتظر الظروفَ الملائمةَ أو ما تأتي به الظروفُ، بل على المنظَّمة وأفراد العقل الجمعي النخبوي قادةً ومقودين إيجادُ الظروف وأن يستفاد من الظروف التي تحصل.

والذي يحمي من الظروف هو قاعدةُ العمل الناجح، أي وجودُ القصد في العمل، ومعنى (قَصَدْتُ) يدلُّ على التفكير في المطالب ودوامِ التفكير في الدعوة والدأبِ عليها، وعدمِ الركون إلى ما يأتي توافقًا أو عفويًا دون بذل الجُهد، ولأجل ذلك يجب أن يكون حاضرًا في العقل الجمعي النخبوي قاعدةُ السَّببيَّة بربط الأسباب بالمسبَّبات، والابتعاد عن تصوُّرات القدرية وانتظار المجهول من الغيب، فالتوكُّل غير التواكُل، ولا يكفي الإيقان من غير إتقان، فلربما الإيقان يبعثُ على شعور معيَّن، فلا يصح أن يَركن إليه المرءُ حتى ولو كان هذا الشعورُ صادقًا من غير التفكير به على أصول قاعدة العمل الناجح وقاعدة السببية أنه عبادةٌ لله تعالى.

قال الله تعالى:+ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ  ﱧ" «الأنفال /2» وقال الله تعالى:+ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ  ﱼ" «الشورى /36».

ولأجل معالجة هذه المشكلة، يجب أن يدرك العقلُ الجمعيُّ للمنظَّمة، الصعوباتِ التي يمرُّ بها والتي ستواجهه، وأن يدرك ظروفَ العمل الذي يقوم به، وأيضًا الظروفَ التي يمكن أن تحيط به حين يريد أن يباشر عملًا من الأعمال، وهذا يلزم عليه أن يدرك أولوياتِ ما يجبُ إدراكًا تامًا، والمواضعُ التي يصلح لها هذا النظرُ في الأولويات أو لا يصلح لها.

نعم، إن الأساليبَ والوسائلَ والأدواتِ تتقرَّر بحسب نوع العمل، إلا أنها تختلف في الإجراءات بحسب ما يطرأُ من ظروفٍ لم تكن في الحُسبان، ولذلك كان اختيارُ الأولويات عند مباشرة العمل وفقَ هذه العوامل يتقرَّر في حينه حسب خطةِ العمل وثقافةِ العاملين وقدرتِهم على التقديم والتأخير بذكاءٍ عملي وسرعةٍ بديهة.

وهنا لا بد أن يقدِّر العقلُ الجمعيُّ للنخبة من المنظَّمة قواه التي يملكها إدراكًا صحيحًا، فنجاحُهُ بمعرفة قدر نفسه في مدى تأثير الأجواء التي أحدثها لإنتاج عمل ناجح، يمكن أن يؤسَّس عليه خطواته الدعوية.

وأيضًا، نجاحُهُ يرتبط بمعرفته لمدى ما أوجده في الأوساط من عوامل التأثير المحرِّك وللتهيئة للعمل قبل القيام بمباشرته، سواء كان هذا التأثيرُ في أفراد المنظَّمة من جهة تشرُّبهم بفكرة العمل إتقانًا وإيقانًا، أو من جهة العقل الجمعي للجماهير عن طريق الثقةِ بعموم المبدأِ، والثقةِ بقدرات أفراد العقل الجمعي النخبوي وأعضاءِ المنظَّمة.

إن معرفةَ العقل الجمعي النخبوي لقوته في كل هذا، تجعله يعرف كيف يقدِّر المسؤوليةَ حقَّ قَدْرها؛ لأنها إنْ قُدِّرت أكثرَ من حقيقتها حصل منها خطرُ التخاذُل، وإن قُدِّرت أقلَّ من حقيقتها كان منها خطرُ التهوُّر، لذلك كان تقديرُ المسؤولية على وجهها الصحيح أمرًا ضروريًا وجوبًا.

قال الله تعالى: +ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥﲦ" «الرعد / 11».

ثورة تشرين وأثرها في النفوذ الإيراني في التوازنات الداخلية

والإقليمية والدولية

حاتم كريم الفلاحي([1])

المقدمة:

يبدو أن المظاهرات التي انطلقت في شهر تشرين الأول تُطل علينا بمرحلة جديدة ووعي سياسيَ جديد في جميع الساحات التي خرجت فيها، وهي تنادي وترفع شعاراتٍ ومطاليبَ تختلف عما سبقها من حراك خلال المدة الماضية، والتي استمرت منذ عام 2003 وإلى عام 2019 والتي تمثَّلت في المشروع السياسي الذي جاء به الاحتلال الامريكي- البريطاني، والمشروع الإيراني الإقليمي الذي لعب دورًا رئيسيًّا وتخريبًا وفاعلًا بجميع الساحات (العراق-لبنان-اليمن- سوريا-البحرين) وعلى مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والعقدية والمذهبية، بعد أن  فُتحت أبواب المنطقة للأجندة الإيرانية على مصراعيها، كون العراق يمثِّل المرتكزَ الأساسيَّ والبوابةَ الرئيسيةَ للتمدُّد الإيراني في المنطقة، والذي أخذ أشكالًا متعدِّدة منها استخدام القوة الناعمة والتي تمثَّلت بأحزاب سياسية ومنظمات خيرية وفكرية ومدارس دينية وإعلامية وسياحة دينية ومصالح اقتصادية، بالإضافة إلى القوة الخشنة التي تمثَّلت بميليشيات مسلحة حتى وصلنا إلى رفض النفوذ الإيراني في جميع هذه الساحات التي لم يقدَّم فيها إلا القتلُ والتخريبُ والطائفيةُ، تحت شعار المقاومة وحماية المذهب والمقدسات والتي اكتشف الشارع زيفها وبطلانها.

المتغيرات الدولية والاقليمية:

          لقد استفادت إيران من المتغيرات الدولية والإقليمية ومنها تغيُّر نظام الحكم في العراق وأفغانستان، وخروج العراق من دائرة التأثير وموازين القوى الإقليمية في المنطقة، والذي رافقه ظهور أنظمة سياسية جديدة موالية لإيران، والتي تعتبر بداية التغيير والانطلاق للمشروع الإيراني التوسُّعي الذي بدأ بالتوسُّع الناعم من خلال التغلغل في المؤسسات الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، والذي استمر منذ الاحتلال وحتى الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011م حسب الاتفاقية الأمنية الموقَّعة بين الطرفين، ليدخل التمدُّد الإيراني مرحلةً جديدةً تمثَّلت بملءِ الفراغ الناجم عن الانسحاب الأمريكي، والذي اعتُبِر فرصةً ذهبيةً للمشروع الإيراني للتمدُّد ليس في العراق فقط، وإنما في سوريا لدعم نظام الأسد بحجة حماية المراقد المقدَّسة، واستمر الأمر حتى وصلنا لحزيران عام 2014م والتي شهدت استيلاء تنظيم الدولة على مساحات واسعة ومدن متعدِّدة في العراق وسوريا، مع بُطئ استجابة الولايات المتحدة الامريكية وهي الداعم الرئيس لنظام الحكم في العراق الذي كان يمر بمرحلة حرجة جدًا تُهدِّد النظامَ السياسيَّ المدعوم إيرانيًا، حيث قدَّمت الدعمَ بأشكال متعدِّدة منها تقديم الدعم المالي والإداري واللوجيستي والعسكري، بما في ذلك تقديم الأسلحة والأعتدة والمعدَّات العسكرية والصاروخية والمعلومات الاستخبارية، مع إرسال الخبراء والمستشارين والمدرِّبين الإيرانيين واللبنانيين، بالإضافة إلى وجود قوات الحرس الثوري الإيراني بشكل مباشر وعلى رأسهم قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني مسؤول العمليات الخارجية، والذي عُيِّن مستشارًا للحكومة العراقية ليبدأ فصل جديد من الهيمنة الإيرانية الكاملة على الساحة العراقية والسورية.

ساحات التواجد العسكري الايراني في المنطقة:

إن الدعم الإيراني المقدَّم للأدوات والأذرع الإيرانية في دول المنطقة، يندرج ضمن إطار المشروع الإيراني ومحور المقاومة الذي أعلن عنه زعيم ميليشيا "عصائب أهل الحق" قيس الخزعلي في مايو/أيار عام 2017 بتشكيل "البدر الشيعي" بعد أن اكتمل "الهلال الشيعي" لنصرة المستضعفين في المنطقة، وأصبحت الفرقُ القتاليةُ متكاملةً، مشيراً إلى تنسيق ميليشيات الحرس الثوري الإيراني وجماعة الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق وسوريا، بهدف إكمال مشروع "الامبراطورية الفارسية" فإيران تتحدَّث عن احتلال أربع عواصم عربية، وامتداد نفوذها إلى شواطئ المتوسط وباب المندب، وقد صرَّح علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني في مارس/أذار عام 2015 عندما تحدَّث عن سيطرة إيران على العراق والعالم العربي قائلًا: "إن بغدادَ أصبحت مركزَ الإمبراطورية الإيرانية الجديدة" في إشارة إلى الإمبراطورية الساسانية الفارسية قبل الإسلام، ومن أهم الساحات التي تتواجد فيها هي:

أولًا: الساحة العراقية: لقد اكتسب العراق أهمية كبيرة في الاستراتيجية التوسُّعية الإيرانية ومشروعها الامبراطوري في المنطقة، كونه يمثِّل المرتكز الأساسي والبوابة الرئيسة للتغوُّل الإيراني الذي يقوم على التوسُّع وزعزعة الاستقرار لدول المنطقة، من خلال توظيف البعد الديني والمذهبي لمشروعها التوسُّعي الذي ارتكز على تشكيل أحزاب سياسية وميليشيات مسلحة طائفية تدين بالولاء للولي الفقيه في إيران، والتي أُطلق عليه فيما بعد ميليشيات الحشد الشعبي، والتي يتجاوز عددها (67) ميليشيا، يقاتل الكثير منها في سوريا، حيث يقول مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية السابق ديفيد بتريوس، إن "خطر ميليشيات الحشد الشعبي أكبر من خطر تنظيم الدولة" كما يقول القائد العام للحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري في تصريح له: "إن الحرس الثوري قام بتجنيد (200) ألف عنصر في العراق وسوريا" في مقابلة أجراها جعفري مع مجلة "سروش" ونشرتها وكالات إيرانية، كما أشار جعفري إلى أن بلاده قامت بتجنيد (100) ألف عنصر في العراق، ونفس العدد في سوريا، مؤكداً أن هذا الإجراء هو من ضمن سياسات إيران في دول المنطقة.

ثانيًا: الساحة السورية: لاشك أن التدخل الإيراني في سوريا ليس وليد المرحلة التي يمر بها نظام بشار الأسد، فقد كانت العلاقات بينهما قوية ومتينة منذ زمن بعيد، يعود إلى المساعدات التي قدَّمتها سوريا للنظام الإيراني أثناء الحرب العراقية الإيرانية (صواريخ أرض-أرض) والتي استمرت ليومنا هذا، فالنظام السوري الذي فقد السيطرة على المظاهرات التي خرجت لإسقاطه، جعل من سوريا ساحة مفتوحة للتدخلات الخارجية بسبب الاستنزاف الكبير في الموارد البشرية والاقتصادية، خصوصًا بعد أن توالت الخسائر والانشقاقات في صفوف القوات النظامية السورية، وتحول الحراك السلمي إلى حراك مسلَّح للدفاع عن نفسه من بطش النظام الذي استخدم كل ما يملك من وسائل القوة لإسكات الأصوات التي تنادي بالحرية والتغيير، فخرجت العديد من المدن عن سيطرة النظام حتى وصل التهديد إلى العاصمة دمشق، وهنا لجأ النظام الى إيران لاستقدام الميليشيات الطائفية والأجنبية لتعويض النقص الحاصل في قواته، ولتدارك الأوضاع، ومن أهم القوات الموالية للنظام والمتواجدة على الأرض السورية:

ثالثًا: الساحة اللبنانية: لقد اكتسب لبنان أهمية كبيرة في السياسية الخارجية الإيرانية منذ عقد الثمانينات من القرن الماضي، فالعلاقة بين حزب الله وإيران راسخة وقوية يدخل فيها البعد السياسي والديني العقائدي، فاللبنانيون الشيعة الذين يمثِّلون كوادر حزب الله تربطهم علاقات أيدولوجية متينة بالمرجعيات الدينية الإيرانية، ويعتبر مرشد الثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي أكبر مرجعية دينية بالنسبة لهم، ويسمى أمين عام حزب الله حسن نصر الله الوكيلَ الشرعيَّ لآية الله خامنئي، وقد جاء في بيان صادر عن الحزب في 16 فبراير/ شباط 1985 أن الحزب "ملتزم بأوامر قيادة حكيمة وعادلة تتجسَّد في ولاية الفقيه في إيران، حيث يتلقى الحزب الدعم المالي والسياسي والعسكري الكامل من إيران، وهذا باعتراف الأمين العام للحزب حسن نصر الله، وقد عمل الحزب ليكون الذراع الأقوى للمشروع الإيراني والمرتكز الأساسي له في المنطقة، والذي يعتبر من أقوى الأوراق الإيرانية التي تستخدمها لتهديد إسرائيل بما يمتلكه الحزب من إمكانيات وقدرات صاروخية حصل عليها من إيران، وقادرة على ضرب العمق الإسرائيلي كجزء من سياسية الردع الإيراني، كما أن الحزب تدخل في الساحة السورية منذ عام 2011 وفي الساحة العراقية منذ الاحتلال عام 2003 لتقديم المشورة ومساعدة الميليشيات في القضايا التدريبية والتنظيمية والأمنية واللوجستية، كما تدخل الحزب في الكويت في القضية المعروفة بخلية العبدلي، بالإضافة إلى تدخل الحزب في اليمن بتدريب ميليشيا الحوثي، وتدخله في البحرين فيما يعرف بخلية حزب الله البحريني، وخلاصة العلاقة بين إيران وحزب الله أعلنها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في 16 آب عام 2019 بمناسبة مهرجان الانتصار الكبير "نصر وكرامة" في مدينة بنت جبيل الذي أُقيم بمناسبة الذكرى الـ(13) للانتصار على العدو الاسرائيلي في العام 2006 قائلًا: إننا "اليوم  لدينا جبهة مقاومة ممتدة من فلسطين إلى لبنان وسوريا والعراق وإيران واليمن وقوى سياسية حية في البحرين وتونس والمنطقة والعالم" وأردف قائلا: "الحرب على إيران يعني الحرب على محور المقاومة" وأشار إلى أن "اللاعبين الصغار في منطقتنا ستحرق النار وجوههم وكياناتهم".

رابعًا: الساحة اليمنية: إن اليمن لا توجد فيها مراقد مقدسة، ولا تمثِّل عمقًا استراتيجيًا لإيران كي تتدخل فيها وتدعم ميليشيا الحوثي، ولكن الدعم الإيراني يندرج في إطار المشروع الإيراني لمحور المقاومة في المنطقة، والخلاصة في الملف اليمني أن الدعم الايراني لم يعد مقتصراً على الدعم الاستشاري بإرسال ضباط وعناصر من ميليشيا حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني، بل ترقى إلى تزويد الحوثي بالصواريخ الباليستية القصيرة والبعيدة المدى، بالإضافة إلى الطائرات المسيرة في انتهاك واضح للقرار 2216 حيث صرَّح نائب قائد فيلق القدس للحرس الثوري الإيراني اللواء إسماعيل قائاني في 24 مايو/أيار عام 2015 بدعم الحوثيين عسكريًا وتدريبيًا ولوجستيًا، وأن إيران لم تعد تُخفي رسميًا دعمها للحوثي فقد صرَّح الرئيس الإيراني روحاني في 10 ديسمبر عام 2017 باستمرار تدخلهم العسكري في اليمن الذي وجَّهته بضرب ناقلات النفط في مضيق هرمز، فقد كشف شريعتي مداري رئيس تحرير صحيفة كيهان عن توجيهات إيرانية من المرشد بأن جماعة "أنصار الله" ستقوم باستهداف ناقلات النفط السعودية في خليج عدن، كما تم استهداف منشأة النفط السعودية (أرامكو).

خامسًا: الساحة البحرينية: إن الأطماع الإيرانية في البحرين لها تاريخ طويل يمتد إلى الإمبراطورية الفارسية، ولا زالت هذه الأطماع مستمرة تعتمد على استغلال البعد الديني والطائفي على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لتنفيذ أجندتها التوسُّعية من خلال تشكيل ودعم وتدريب المجاميع الإرهابية (سرايا الأشتر- سرايا المختار- سرايا المقاومة الشعبية- حزب الله البحريني) والتي ترتبط مباشرة بالحرس الثوري وحزب الله اللبناني، حيث حرصت إيران على دعمها بالأسلحة والمتفجرات والأموال التي يتم تهريبها، بالإضافة إلى الأسلحة والمتفجرات والتدريب على تصنيع وتخزين المتفجرات لزعزعة نظام الحاكم والإضرار بالمصالح الاقتصادية للبحرين، كما حصل في عام 2011 حيث أدت إلى أضرار اقتصادية منها تأثُّر القطاع السياحي حيث تم استهداف أكثر من (200) مؤسسة تعليمية ومنشأة حيوية كمحطات الكهرباء وأبراج الاتصالات والبنوك التجارية، مما اضطر حكومةَ البحرين للاستعانة بقوات درع الجزيرة في عام 2011 لتأمين المنشآت الاستراتيجية من أعمال التخريب التي شهدتها المملكة بدعم إيراني، وقد أصدرت المحكمة الكبرى الجنائية الرابعة في البحرين في مايو 2016 أحكامًا صارمة بحقِّ مؤسسي جماعة إرهابية أطلقوا عليها اسم حزب الله البحريني، مما دعاها لسحب سفيرها من طهران وطرد القائم بالأعمال الإيراني بتهمة استغلالها الفئات المتطرفة وفتح المعسكرات للمجموعات الإرهابية وإيواء الهاربين من العدالة.

سادسًا: الساحة المغربية وطرد السفير: لقد اتخذت المغرب قراراتٍ مهمةً بعد أن تأكَّدت من الدور التخريبي الذي تلعبه السفارة الإيرانية في المغرب، فقد أعلنت المغرب في الأول من مايو/أيار عام 2018 عن طرد السفير الإيراني من الرباط وقطع العلاقات الدبلوماسية وإغلاق السفارة المغربية في طهران، على خلفية قيام إيران بدعم جبهة البوليساريو في الصحراء الغربية، والتي بدأت بحفر أنفاق في المنطقة العازلة بإشراف خبراء من حزب الله تمَّ تدريبهم وتزويدهم بالأسلحة والصواريخ حتى أصبحت وكراً للتشيع بالجزائر، وبتوجيهات من طهران، حيث تشير التقارير الاستخبارية بأن هناك نشاطًا يقوم به ضباط الاستخبارات بمساعدة عدد من رجال الدين لنشر التشيع في الكثير من المدن المغربية، حيث كشفت جريدة الصباح المغربية اليومية في عددها الصادر في 29 مارس/أذار عام 2017 أن النشاط الإيراني في المغرب يُهدِّد استقرارَ البلاد في الوقت الراهن ومستقبلًا، وكان هناك رصد لهذا النشاط في مدينة سباته -حي البيضاء-مراكش-الرباط-طنجة-مكناس وترى السلطات بأن دوافع هذا التشيع سياسيةً وليست مذهبيةً، وقد كان لإيران دور كبير في الاحتجاجات التي شهدتها المغرب مؤخراً .

سابعًا: الساحة الجزائرية وطرد الملحق الثقافي الإيراني: لقد كان للسفير الإيراني رضا عامري الدورُ الكبيرُ في التغلغل الإيراني في الجزائر، حيث كان نشاطه في الجزائر مكثَّفًا في السنوات الأخيرة، خصوصاً وأن الموقف الإيراني داعم للجزائر ضد المغرب التي كان لديها مشاكل حدودية مع البوليساريو المدعومة من قبل الجزائر، بالإضافة إلى نشر التشيع في الجزائر والذي يضر بالأمن القومي المغربي والجزائري، حيث أقدمت الجزائر في أيلول عام 2018 على طرد المدعو أمير موسوي الذي يعمل دبلوماسيًا وإعلاميًا ومحلقًا ثقافيًا وهو مقرَّب من استخبارات الحرس الثوري ومن المرشد الإيراني علي الخامنئي، والذي يُتقن التخطيط لحملات التشيع في البلدان التي يعمل فيها، لتجاوزه مهمَّته الدبلوماسية بما يُهدِّد الأمن القومي تحت غطاء التقارب والعلاقات الاقتصادية والثقافية، حيث نظَّم العديد من الرحلات إلى طهران وقُم والنجف، والتقوا مع جهاز الاطِّلاعات الإيراني والحرس الثوري ورجال دين شيعة لخلق لوبي شيعي معترف به في الجزائر.

تحليل الموقف الإيراني بعد مظاهرات تشرين عام 2019:

المظاهرات الإيرانية:

لاشك أن إيران تعيش أسوأ أوضاع اقتصادية منذ اندلاع الثورة في إيران عام 1979 بفعل العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الإدارة الأمريكية الحالية على النظام الإيراني، بسبب الملف النووي الإيراني وبرنامج الصواريخ الباليستية وتدخلها لزعزعة استقرار دول المنطقة، وهي تتعرض في هذه المدة لاستهداف غير مسبوق على المستوى الداخلي والخارجي، وهذا يجعلنا نقول بأن الأوضاع السياسية والاقتصادية السيئة هي الدافع الرئيس لخروج مظاهرات عارمة وشاملة ضد الحكومة الإيرانية ومرشدها، لمحاولاتهم تقزيم المظاهرات من خلال تسميتها بمظاهرات البنزين، وهذا بحدِّ ذاته يُعتبر تسفيهًا لمطاليب المتظاهرين التي أخذت منحىً سياسيًا ونادت بتنحي الزعماء الدينيين عن حكم البلاد، وطالبتهم بالكفِّ عن التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، وأطلقت الكثير من الشعارات التي تخصُّ سياسات النظام الحاكم وأبرزها: "اتركوا سوريا وشأنها واهتموا بأحوالنا" وشعار: "لا لغزة ولا للبنان روحي فداء لإيران" و"يسقط حزب الله" و" لا نريد جمهورية إسلامية" و"استقلال وحرية وجمهورية إيرانية" و"الشعب بدأ يتسوَّل" وهذا يعكس حالة الاستياء والحنق الشديدين تجاه السياسية الخارجية الإيرانية في التعامل مع ملفات المنطقة، في انتقاد واضح للسياسية الخارجية المتداخلة مع الاقتصاد في إيران.

          إن المظاهرات التي خرجت في 15 تشرين الثاني عام 2019 بإيران، كانت على خلفية قيام الحكومة الإيرانية برفع أسعار الوقود لثلاثة أضعاف، الأمر الذي تلقَّاه الشعب بالكثير من الغضب، وكان بمثابة القرار الكارثي الذي جاء في التوقيت الخاطئ مما أدى إلى اندلاع مظاهرات واسعة في أكثر من (189) مدينة وبلدة إيرانية، وشاركت فيها الطبقات العاملة والأشد فقراً في المجتمع الإيراني، وتعتبر هذه الموجة من الاحتجاجات الشاملة هي الأخطر والأكثر عنفًا وتخريبًا من الموجات السابقة التي انطلقت في المدة السابقة عام 2009 والتي سُمِّيت بالثورة الخضراء، وكانت في غالبها مظاهرات نخبوية ومن الطبقة المتوسطة والثرية، والتي خرجت ضد تزوير الانتخابات الإيرانية ضمن الصراع القائم بين التيار الإصلاحي وتيار المحافظين، كما أن الحراك الذي خرج في الأحواز عام 2005 كان يخصُّ العرب الأحوازيين، وكذلك المظاهرات التي خرجت عام 2017 وعام 2018 بالعاصمة طهران وما حولها كانت من الطبقة الوسطى، أما في هذه المظاهرات فالوضع يختلف تمامًا لأن الشريحة التي خرجت للمظاهرات غير مُسيَّسة وليس لديها توجُّه فكري محدَّد، وترى أنها مسحوقة كون أهدافها ومبادئها وقيمها لا ترتبط بالنظام الحاكم، وهي في غالبها تعيش تحت خطِّ الفقر كونها من الطبقة الفقيرة والمتوسطة التي تحولت إلى طبقة فقيرة بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها إيران، والتي تقدَّر بما يقارب (25) مليون إيراني، فليس لديها ما تخسره.

لقد استخدمت الحكومة الإيرانية مقاربة الحلِّ الأمني في التعامل مع هذه الاحتجاجات، حيث أقدمت الحكومة الإيرانية على قطع التواصل بين الداخل والخارج بإيقاف خدمة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي مع بداية الحراك، كما استخدمت قوات عسكرية متكاملة من الحرس الثوري والباسيج والشرطة المحلية لقمع هذه المظاهرات وإخماد الحراك وفرض حالة الطوارئ التي استمرت لمدة أربعة أيام فقط، وشملت كلًا من طهران والأحواز وشيراز وأصفهان وتبريز وشهر كورد وزنجان ومشهد وكردستان، وقد نشرت مواقع التواصل الاجتماعي كثيرًا من المقاطع والصور للعنف غير المسبوق والأشد دموية ضد المتظاهرين، حيث تُشير منظمة مجاهدي خلق المعارِضة إلى أن النظام الإيراني واجه موجة الاحتجاجات بالقمع الشديد، واستخدم الدبابات والطائرات المروحية والأسلحة الثقيلة والمتوسطة لقمع هذه المظاهرات التي وصفها الرئيس الإيراني بالمؤامرة قائلًا: "إن الإيرانيين هزموا مؤامرة العدو وإن إيران تحتفل بالانتصار" وقد اعتبر خامنئي الأحداث الأخيرة أعمالَ تخريبية يقودها مجموعة من الأشرار قائلًا: "لقد أرغمنا العدو على التراجع الأمني" فهكذا يصفون شعوبهم.!

المظاهرات العراقية:

إن بداية المظاهرات في العراق عام 2019 كانت نتيجة لخروج خريجين وحملة شهادات علياً للمطالبة بتوظيفهم في دوائر الدولة التي تم قمعها من قبل القوات الحكومية، ثم تم الإعلان عن موعد جديد للتظاهر يكون في الأول من تشرين الأول، وهي الموجة التي كانت غير متوقعة ومحسوبة من قبل أحزاب السلطة وميليشياتها المسلحة، أو حتى الدوائر الاستخبارية والمخابراتية في إيران، حيث انطلقت في بغداد والمحافظات الجنوبية مظاهرات عارمة كانت خارج الحسابات الداخلية والخارجية، وخاصة الحسابات الإيرانية كونها قوية وشرسة وثابتة، والتي استمرت إلى السابع من نفس الشهر لتعود مرة أخرى في الخامس والعشرين من الشهر نفسه، واستمرت إلى يومنا هذا حتى هزت أركان الحكومة وأحزابها السياسية وميليشياتها الطائفية المسلحة.

          إن من يتابع الموقف الرسمي الإيراني يرى العداء الوضح لهذه المظاهرات التي خرجت ضد النفوذ الإيراني في العراق تنادي باستعادة وطن تم مصادرة قراره السيادي من قبل ميليشيات وأحزاب تابعة لإيران، وقد وصف خطيب جمعة طهران محمد علي موحدي كرماني خلال خطبة صلاة الجمعة في العاصمة طهران، المتظاهرين العراقيين بأنهم "شيعة الإنجليز" أما المرشد الإيراني علي خامنئي فقد  وصف الاحتجاجات الشعبية المستمرة في العراق ولبنان منذ أسابيع، بأنها "أعمال شغب تديرها أميركا وإسرائيل وبعض دول المنطقة" كما دعا خامنئي في أثناء زيارته للجامعة العسكرية (تابعة للجيش) يوم 30 أكتوبر 2019 حينما قال: "إن على العراقيين معالجة حالة الفلتان الأمني بالدرجة الأولى" وأضاف: بأن "الأعداء يسعون إلى هدم بنية الدولة ونشر الفوضى في العراق، ولذلك على العراقيين أن يحققوا مطالبهم عبر الأُطر الدستورية والقانونية" وتابع أن إيران عملت بالتعاون مع حلفائها في العراق على تهدئة الأوضاع والحفاظ على حكومة عبد المهدي، ودعمت مواقف تيارات مقرَّبة منها، مثل الفتح وسائرون والحكمة، سياسيًا وإعلاميًا، وهذا يُبيِّن الاستراتيجية التي تتبعها إيران في التعامل مع العراق.

لقد قلبت المظاهرات العراقية الحسابات الإيرانية راسًا على عقب بعد أن حُرقت القنصلية الإيرانية في كربلاء والنجف، وحُرق العلم الإيراني وصور الخامنئي، وتعالت الأصوات بخروج النفوذ الإيراني من العراق، كما استطاعت المظاهرات أن تسقط الحكومة برئاسة عادل عبد المهدي، والتي بشَّرت إيران بتشكليها، وهذا يذكِّرنا بما صرَّح به محمد علي جعفري قائد الحرس الثوري الايراني بتاريخ 15 تشرين الثاني عام 2018 قائلاً: "تغلبنا على أميركا بـ(3- صفر) وإن الرئاسات العراقية الثلاث الحالية هم من المعسكر الإيراني الذي بدأ يترنح ويتداعى، وأصبح خروجه من العراق مطلبًا رئيسًا لا يمكن التنازل عنه، وفشلت الحكومة وأحزاب السلطة وميليشياتها في إلصاق التُّهم بهذه المظاهرات، فهم ليس سنة ليُقال عنهم: وهابية أو إرهابية أو بعثية، كون الفئة التي خرجت هم من جيل الاحتلال وأعمارهم تتراوح بين (15-25) سنة، كما وُسِم الحراكُ السنيُّ في العراق في المدة السابقة، لذا فالمطالب اليوم لا تخصُّ الخدمات، وإنما المطالب التي تُرفع اليوم هي حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة مع قانون أحزاب جديد وتعديل الدستور أو كتابة دستور جديد، وهذا ما ترفضه إيران وأحزابها وميليشياتها بالإضافة إلى الأكراد .

المظاهرات اللبنانية:

إن الوضع الاقتصادي في لبنان بدأ يزداد سوءًا مع دخول حزب الله إلى سوريا لدعم الأسد متجاوزاً سياسة النأي بالنفس، بالإضافة إلى تدخلاته في العراق واليمن والبحرين والكويت، فتسبَّب هذا التدخل بجملة من الآثار السلبية على الاقتصاد اللبناني من موجات اللجوء الإنساني من سوريا، وتدهور السياحة، وتزايد معدلات الفقر، وارتفاع معدلات البطالة، وزيادة التضخم، وتوقُّف النمو الاقتصادي، وزيادة الضرائب، وانحدار المستوى المعيشي، مما زاد من معاناة الناس حتى وصلنا إلى عام 2016 وظهور عجز في ميزان المدفوعات يؤكد وجود ضعف في تدفُّق الأموال مع خروج رؤوس الأموال من لبنان، وفي عام 2019 أصبحنا أمام أزمة في النقد داخل المصارف اللبنانية، وأصبح هناك سعران للدولار هما الرسمي غير المتوفر، والسوق السوداء الذي تجاوز سعر الصرف فيه 1600 ليرة لبنانية، مما دعا حكومة الحريري إلى فرض ضرائب جديدة في قطاع البنزين وتطبيقات الإنترنت التي كانت بمثابة القرار الخاطئ الذي اتُّخذ في وقت غير مناسب، علمًا أن حزب الله يسيطر على الموانئ وهناك تهديدات لنصر الله بحشد الشارع والحرب الأهلية للمحافظة على المكاسب التي يتمتَّع بها حزب الله، يشاركه في ذلك حركة أمل والتيار الوطني الحر وهؤلاء هم أكثر سيطرة على مفاصل الدولة اللبنانية، وهناك اتهامات لهم بتعطيل الحكومة فهم يريدون إبقاء لبنان كأداة وظيفية للمشروع الإيراني، كما إنهم لا يريدون إسقاط حكومة الحريري لأنه بحاجة لواجهة يعمل من خلالها وليس قناعة بحكومة الحريري.

لقد انطلق في 17 أكتوبر/تشرين الأول عام 2019 حراك شعبي فريد من نوعه على أثر الاجراءات التي اتخذتها حكومة الحريري، شاركت فيه مختلف الطوائف اللبنانية وبفئات عمرية مختلفة عمَّت جميع أنحاء البلاد بما فيها المناطق التي تقع تحت سيطر ونفوذ حزب الله ورئيس الحكومة سعد الحريري، والجميع ينادي برحيل النخبة السياسية الحاكمة والفاسدة التي أضعفت لبنان وحولته إلى دولة متناحرة داخليًا، كما أنهم يطالبون بإنهاء المحاصصة الطائفية بما فيها إسقاط الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة وتشكيل حكومة جديدة بعيدة عن المحاصصة وعن إيران، فأغلقت على أثرها المدارس والجامعات والمصانع مع تزايد أعداد المتظاهرين في بيروت وطرابلس وصيدا، مما دفع الحكومة إلى التراجع لإخماد فتيل المظاهرات وغضب الشارع الثائر الذي خرج على الفساد والركود الاقتصادي المستشري في كل مفاصل الدولة مع غياب الخدمات.

إن حزب الله يحصد نتاج تمسكه بالأجندة الإيرانية وبتعاليم المرشد الأعلى التي جعلت من سياسية لبنان الخارجية تابعة للمحور الإيراني في جميع القضايا التي تخص الأُمة، وهو بهذا يبتعد عن الخيارات الوطنية والعربية، فقد مارس حزب الله من خلال رفع شعار المقاومة، الخروجَ عن سيطرة الدولة والدستور والقانون، وسمح لحزبه أن يتعامل مع دول ومخابرات أجنبية كونه يمثِّل سلطة فوق القانون اللبناني بعد أن تلاعب بمستقبل اللبنانيين ومعيشتهم، وأدخلهم في حروب طائفية بالعراق وسوريا واليمن والبحرين باسم المقاومة والممانعة اللتين لا تصبان في مصلحة لبنان كشعب ودولة، وهذا يعني أن بقاء لبنان على ما هو عليه يقتضي عزله عن العالم العربي والإسلامي بعد أن رفضت المؤسسات المالية العربية والدولية تقديم المنح والتسهيلات والقروض البنكية لأي حكومة يشارك فيها حزب الله بعد إن تم وضعه على لائحة المنظمات الارهابية نتيجة تدخله في الشأن الداخلي لكثير من الدول العربية وتجارة المخدرات.

الخلاصات على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي:

على المستوى الداخلي:

إن الحكومة الإيرانية تعرف جيدًا مدى الحنق والاستياء الشعبي الداخلي بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها إيران، وهي تعلم جيدًا بأن الوضع قد ينفجر في أي لحظة خصوصًا مع تصاعد المظاهرات في العراق ولبنان، والتي تنادي بخروج الاحتلال الإيراني، وكان يجب عليها أن لا توتِّر الأوضاع في الداخل الإيراني أكثر مما هي عليه، ولكنها مع هذا أقدمت على رفع أسعار الوقود كي تتَّهم أيادي خارجية بزعزعة الاستقرار والأمن في البلاد، ولكي تُبرِّر القمع الحكومي لهذا الحراك الغاضب، والذي يُعد الاضطراب السياسي الأكثر دموية منذ (40) عامًا، والذي اختلف عن جميع الاحتجاجات السابقة من حيثُ اتِّساعُها الجغرافي والطبقي في عموم البلاد، مما زاد من مخاوف النظام الذي سارع إلى قمعها بكل قوة، وهذا بحد ذاته نقطة تحول خطيرة في مستقبل العلاقة بين النظام الإيراني الحاكم وهذه الطبقات المعدومة من الشعب، والتي ستؤدي إلى شرخ كبير وتصدُّع في العلاقة مما ستكون له تداعيات خطيرة على الأمن القومي الإيراني، خصوصًا أن الحكومة وصفت المظاهرات التي خرجت في 15 تشرين الثاني بالمؤامرة.!

إن استخدام العنف والقوة بكل أشكالها منذ اللحظة الأولى لخروج هذه المظاهرات مع قطع الإنترنت، يبين الوضع المتأزِّم الذي يمر به النظام الإيراني داخليًا وخارجيًا، فهو لا يعرف إلا القتل والقمع، ومن يراقب تصريح المرشد الذي يُثني فيه على أداء القوات الأمنية في خطاب عام لنجاحها قائلًا: "لقد تمَّ تحييد مؤامرة شديدة العمق ومتشعبة وخطرة" يصل إلى قناعة راسخة بأن هناك فجوة كبيرة وفقدان ثقة بين القيادة والشعب الذي يعاني من الفقر والبطالة وارتفاع أسعار المواد الغذائية، كما أنه يكشف مستوى الإحباط الذي يعيشه الشعب إزاء القادة الإيرانيين الذين يصفون ثورة الجياع بالمؤامرة، ويبين مدى التحديات والضغوطات السياسية والاقتصادية الخطيرة التي يعيشها النظام الحاكم في إيران، والذي يمكن أن يزعزع الجبهة الداخلية والخارجية إلى حد كبير، فشرعية الحكم في أي دولة تقوم على العلاقة بين الشعب ونظام الحكم، وأي اختلال في هذه العلاقة يعني أن شرعية النظام إلى زوال، وهذا ما لم يجري حاليًا.

          لقد بدأ النظام الإيراني يهتز من داخله في عقر داره، وسيُجبر على الانكفاء إلى الداخل بسبب المظاهرات العارمة التي خرجت في عموم المدن الإيرانية، بسبب فشل النظام الحاكم في توفير حياة حرة كريمة لشعبه، واتِّجاهه لتمويل مشاريع طائفية خارج بلاده في العراق ولبنان وسوريا واليمن والبحرين والكويت والمغرب والجزائر والسعودية، على حساب هذا الشعب المظلوم، لذا لجأ النظام لقمع المظاهرات بالقوة، وهذا يعطي رسائل متعددة للداخل والخارج، منها أن النظام الحاكم لا يزال قويًا ومتماسكًا وقادرًا على دعم حلفائه في دول المنطقة التي يتعرَّض نفوذها إلى هزة سياسية وأمنية كبيرة تهدد بزواله بالكامل، وهذا يشمل العراق ولبنان واليمن وسوريا، ولكن الحقيقة تقول غير ذلك.

على المستوى الإقليمي:

لقد بدأ النفوذ الإيراني يترنَّح، ومشروعه الإقليمي يتصدَّع ويهتزُّ ويتقهقر وينحسر بشكل كبير في دول المنطقة، وهو ينتقل من فشل لآخر، فقد فشل في البحرين والمغرب والجزائر والكويت، وهو يترنَّح في اليمن وسوريا، واليوم ينتفض الشعبان العراقي واللبناني ضد النفوذ الإيراني كالسيل الجارف ضد النظام الذي أشعل الحروب الطائفية في المنطقة وحوَّلها لدول ممزقة ومخربة ومدمرة وفاشلة، بسبب حروبه الطائفية ومشروعه الإمبراطوري الفارسي الذي اتَّخذ من الدين وحماية الشيعة والمذهب والمراقد المقدسة وتحرير القدس ذريعة لتدخُّله في دول المنطقة .

          لقد خرجت هذه المظاهرات عن الخطوط الطائفية التي فرضت على العراق ولبنان منذ فترة طويلة، وأبدت تمردًا ضد النظام السياسي القائم، فهو حراك عابر للطوائف والمناطق والمحاصصة والمحسوبية، ولأول مرة تُرفع الأعلام العراقية واللبنانية بدل أعلام الميليشيات المسلحة الطائفية التابعة لإيران، وتُطلق شعارات تنادي باستعادة الهوية الوطنية وترفض مشروع المحاصصة الذي مزَّق النسيج الاجتماعي، وتتمسَّك برحيل الطبقة السياسية بلا استثناء، فهي تدرك جيداً أن هؤلاء السياسيين أخذوا الفرصة تلو الفرصة ولكنهم فشلوا في بناء دولة توفِّر حياة حرة كريمة لشعوبها، فهم ينظرون لمصالحهم الشخصية والحزبية الضيقة ويقدِّمون مصلحة إيران على مصالح بلدهم، ويعتبرون كل من يخرج على النظام السياسي القائم هو مخرِّب وعميل ومتآمر على الدولة، ويجب أن يقتل أو يسجن وهذا ما يفعلونه حاليًا. 

لقد سقطت جميع الشعارات التي نادت بحماية الشيعة والمذهب ونصرة المستضعفين، حتى وصلنا إلى اليوم الذي تقوم به إيران وأذرعها بقتل الشيعة بدم بارد، لأنهم خرجوا يطالبون بحقوقهم بصورة سلمية، لذا فالنفوذ الذي كانت تتمتع به إيران يعود للمربع الأول وهو إلى التلاشي والانحسار، لذا فلن تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل مظاهرات تشرين الأول عام 2019 مهما قتلوا وفعلوا حتى ولو توقَّفت المظاهرات فلم يعد ينطلي على الشعوب المقهورة هذه الشعارات الزائفة، وعليهم أن يواجهوا حاضنتهم الأيديولوجية الداعمة لمشروعهم في المنطقة كما يدعون، والتي بدأت تتداعى وتنقلب عليهم وعلى نفوذهم وأدواتهم في المنطقة بصورة عامة، والعراق ولبنان بصورة خاصة.

          لقد سقط حاجز الخوف لدى المتظاهرين بعد أن تجاهلت النُّخب السياسية الحاكمة بأحزابها وميليشياتها مطالب الفقراء الذين فقدوا الثقة بكل شيء حكومي، وأي إمكانية للإصلاح، طالما بقت هذه الثلة الحاكمة في سدة الحكم، والتي وصلت إلى الحكم بتزوير الانتخابات بقوة السلاح لفرض الولاءات الدينية والمذهبية الضيقة للبقاء في السلطة، وهم لا يزالون يعتقدون بأنهم يستطيعون إرضاء الشارع بوعود كاذبة، لذا نحن نتكلَّم عن سلطة حاكمة مارقة فقدت شرعيتها بصورة كاملة ومعها كل القيادات ومن جميع الطوائف بلا استثناء، فمطاليب المتظاهرين واضحة وتنادي برحيل الجميع واستقالة الحكومة وحل البرلمان وتعديل الدستور وكتابة قانون انتخابات جديد وتقديم الفاسدين وقتلة المتظاهرين للعدالة، وسيبقى الجميع في الميادين لحين تنفيذ المطاليب.

          إن هذه المظاهرات لم يسبق لها مثيل فقد فاقت جميع الحسابات في مداها واستمرارها، وشاركت فيها جميع شرائح المجتمع لحد لم تتصور فيه الأحزاب والميليشيات الموالية لطهران حجم الغضب الشعبي والجماهيري المتزايد ضد النفوذ الإيراني، فلم تسعفهم شعارات المقاومة والحشد المقدس والخطابات وشراء الولاءات في تهدئة الشارع المنتفض والرافض لهذه الأحزاب والميليشيات التي بنت مؤسسات موازية لمؤسسات الدولة، وأصبحت هناك دولة داخل الدولة، وأصبحت هناك جيوش موازية للجيش النظامي ولديها أسلحة تفوق الأسلحة الموجودة لدى الجيش النظامي، وتعمل خارج إطار الدولة وتدين بالولاء للولي الفقيه في إيران، وهو الذي أشرف على تمويلها وتسليحها وتدريبها، لذا فإيران وأذنابها في العراق ولبنان يحصدون ما زرعت أيديهم طوال السنيين الماضية من سياسات طائفية وقتل وترويع للشعوب الحية باسم الدين والمذهب والمقاومة، فهم ينظرون إلى هذا الحراك الشعبي بأنه إرهاب كما يصفه المستشار الخاص لرئيس مجلس الشورى الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، حيث يقول إنه "لا شك أن النسخة الجديدة للإرهاب السياسي في العراق ولبنان ستفشل أيضا" فهكذا يصفون الحراك الشعبي.

بعد سنوات من المآسي والآلام والحروب الطائفية والدموية التي راح ضحيتها الكثير من الأرواح والدماء والأموال والممتلكات، تنتفض شعوب المنطقة في العراق ولبنان وسوريا واليمن والبحرين ضد السطوة والهيمنة لوقف التمدُّد الإيراني في المنطقة، ومن يرى كيف جوبهت الثورات التي انطلقت في إيران والعراق ولبنان من قبل الأنظمة الحاكمة والتابعة لإيران، يصل لقناعة مطلقة بأنهم لا يريدون الاستجابة للمتغيرات التي تمر بها المنطقة، وأن القتل والترويع الذي تعرض له المتظاهرون يخرج من قيادة واحدة وهي الولي الفقيه في إيران، ولن يسمحوا بتغير الوضع القائم ولو أغرقوا هذه البلدان بالدماء والحروب الأهلية التي يصرِّحون ويهدِّدون بها، لذا فهم يرفضون الاستجابة للتغيير الذي تنادي به الجماهير، وإن الجولات التي يقوم بها قائد فيلق القدس الإيراني سليماني واجتماعه بالقيادات الميليشياوية يبين مدى الخوف من هذه الموجة الجماهيرية العارمة، وهم يحاولون توجيه رسالة واضحة للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في المنطقة بأن النظام لا يزال قويًا ولكن الحقيقة هي أن المشروع الإيراني يتعرَّض لانتكاسة كبيرة.

          إن إسرائيل تنظر إلى اشتعال الاحتجاجات الشعبية في إيران والعراق ولبنان وسوريا بأنها فرصة ثمينة لها لإنهاء الوجود الإيراني في سوريا، وهناك تهديد بجعلها فيتنام ثانية لإيران، كما أنها فرصة لقطع الإمداد المالي واللوجيستي لحزب الله اللبناني، وقد تشكل هذه الاحتجاجات فرصة لتوجيه ضربات عسكرية قد تساعد على إنهاء النظام من الداخل، وهذا لن يكون دون التوافق مع الولايات المتحدة الامريكية التي بدأت بزيادة أعداد قواتها في المنطقة وخاصة في العراق، كما إن هذه الاحتجاجات تمثِّل فرصة لتركيا والمملكة العربية السعودية والإمارات من جهة أخرى لاستعادة دورها في هذه البلدان على كافة المستويات بعد أن رفضت النفوذ الإيراني بشكل كامل.

استعراض الموقف على المستوى الدولي:

لا شك أن المنطقة فيها لاعبان أساسيان يتصارعان هما اللاعب الإيراني، والأمريكي الذي حسم خيارته في التعامل مع إيران بعد استخدام القوة والتركيز على العقوبات الاقتصادية لدفعه للجلوس إلى طاولة مفاوضات، وكلاهما لديهما مشروع في العراق والمنطقة، فمشروع الشرق الأوسط الكبير جاءت به الولايات المتحدة الأمريكية، والمشروع الإيراني يتمثَّل بالهلال ثم البدر الشيعي الذي يتولاه الولي الفقيه، وكلاهما لديهما نفوذ عسكري وسياسي كبير، وكان بينهما تخادم استمرَّ طوال الفترة الماضية، ولكن مع مجيئ الإدارة الأمريكية الجديدة ورفضها للاتفاق النووي 5+1 بدأ الصراع يحتدم بشكل كبير، ما أدى لفرض عقوبات اقتصادية على إيران من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، مما حول المنطقة بصورة عامة والعراق بشكل خاص لساحة صراع ورقة للمساومة تبعاً لمصالح هذه الدول، وقد ثبت جلياً بأن النفوذ الإيراني متجذِّر وعميق وكبير جداً وأصبح أكبر من النفوذ الأمريكي في العراق، وقد ظهر هذا واضحًا في الانتخابات البرلمانية التي جرت في العراق عام 2018 حيث صرح محمد علي جعفري قائد الحرس الثوري الإيراني بتاريخ 15 تشرين الثاني عام 2018 قائلًا: "تغلبنا على أميركا بـ3- صفر" وإن الرئاسات العراقية الثلاث الحالية هي بموافقة إيرانية.

          لقد تصاعد التوتر بين الدولتين لنشهد إسقاط طائرة مسيرة أمريكية وضرب مواقع ومقرَّات ومحازن صواريخ تعود لميليشيات الحشد الشعبي الولائي التابع لإيران في العراق، والتي هدَّدت بضرب المصالح الأمريكية في المنطقة بما فيها القوات العسكرية الموجودة في العراق، حيث صرَّح القائد العام للحرس الثوري الإيراني اللواء محمد علي جعفري في تشرين الثاني نوفمبر عام 2017 م: "أن مصير جبهة المقاومة مترابط والجميع يقفون متحدين وإذا هاجمت إسرائيل أي طرف منها، سيهبّ الطرف الآخر من الجبهة لمساعدته، وإن جبهة حلب السورية تعتبر خط الدفاع الأول عن الثورة الإسلامية الإيرانية" كما شهدت هذه الفترة ضرب منشآت نفطية وناقلات نفط تعود للمملكة العربية السعودية والإمارات بما فيها شركة أرامكو السعودية، وكانت هناك تهديدات متبادلة بين الأدوات الإيرانية والولايات المتحدة الأمريكية، وهناك مشروع تعدُّه الميليشيات التابعة لإيران لإخراج القوات الأمريكية من العراق.

الولايات المتحدة الأمريكية تستثمر مظاهرات تشرين :

يبدو أن الربيع العربي يطل علينا بموجة جديدة وقوية هزَّت أركان النظام الدولي والإقليمي في المنطقة، وكانت خارج الحسابات الداخلية والخارجية، بما فيها ظهور معادلة جديدة قلبت الحسابات الإيرانية والتوازنات الإقليمية والدولية وجعلتها تتخبَّط في كيفية التعامل مع تطورات الأحداث في العراق ولبنان وسوريا واليمن، فما جرى هو انقلاب كامل للحاضنة الاجتماعية الايدلوجية التي طالما ادعت إيران وأدواتها بأنهم الحاضنة الداعمة لحكمهم ونفوذهم في العراق والمنطقة، والذي بدأ يتزلزل حتى في الداخل الإيراني مما سيدفعها إلى الانكفاء للداخل بسبب ضعف قدراتها المالية، وبنفس الوقت هو تهديد حقيقي بفقدان نفوذها في العراق ولبنان وسوريا واليمن والبحرين والذي أصبح مرفوضًا تمامًا وهذا يعني ما يأتي:

أولًا: إن المشروع الأمريكي في المنطقة بدأ يستثمر حالياً في الكثير من الساحات وخاصة في العراق واليمن وسوريا، وهناك كشف لخفايا الدور الإيراني في العراق حسب تسريبات كشفتها صحيفة "نيويورك تايمز" وموقع ذي إنترسبت الإلكتروني يوم الاثنين 18نوفمبر2019 والتي تتحدث عن مئات التقارير الاستخباراتية الإيرانية المسرَّبة التي تظهر عمق نفوذ طهران في العراق، والتي كتبت في عامي 2014-2015 من قبل وزارة الاستخبارات والأمن الإيرانية، كما تمَّ وضع أسماء الكثير من قيادات الميليشيات على قائمة الإرهاب لأن من مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية تقليم أذرع إيران في العراق والمنطقة.

ثانيًا: نود أن نشير إلى أن زيادة أعداد القوات الأمريكية في المنطقة يمثِّل إجراءً احترازيًا لحماية المصالح الأمريكية التي يمكن أن تهدِّد من قبل إيران وأذرعها في المنطقة، كما أنها فرصة ثمينة لتغيير قواعد اللعبة في العراق بسبب انشغال الميليشيات بالاحتجاجات بما يضمن استعادة تفوُّقها قبل عام 2011 بالسيطرة على مواقع حساسة، وهي تعطي جدية وجرأة في التعاطي مع الملف العراقي، وزيادة القوات تحمل رسائل متعددة منها:

الخاتمة:

وأخيرًا .. نقول: إن النموذج الذي قدَّمته إيران للمنطقة من تخريب وتدمير وقتل وتشريد لا يمكن أن يستمر بعد أن أصبح مرفوضًا في جميع دول المنطقة، بل مرفوضًا حتى في الداخل الإيراني، وقد بدأت الشعوب تنتفض عليها وعلى نفوذها في الهيمنة والتسلُّط، واللافت في الأمر هو انقلاب الحاضنة الاجتماعية أو الايدلوجية التي تدعم الأحزاب الحاكمة في كل من العراق ولبنان، فالشعارات التي ترفع في العراق اليوم هي رفض المحاصصة الطائفية وخروج الاحتلال الإيراني بعد أن أُحرقت صور المرشد والعلم الإيراني والقنصليات في البصرة وكربلاء والنجف، وهناك رفض لجميع الأحزاب والميليشيات التابعة لها، كما أن الشعارات التي كانت ترفع لحماية الشيعة والمذهب والمقاومة والممانعة قد سقطت بامتياز بعد أن توجَّهت الأسلحة إلى حواضنهم الاجتماعية والشعب الإيراني في الداخل، كما أن العلاقة بين الشعوب وحكامها مضطربة ولا يمكن أن تحكم بالحديد والنار، ويجب على إيران أن تحترم سيادة الدول وتنوُّعها الطائفي والمذهبي وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وإن الدور الذي لعبته ليس لأنها قوية بل هو نتاج المتغيرات الدولية والإقليمية والداخلية التي شهدتها المنطقة.

قراءة في لافتات ثورة تشرين العراقية

دراسة فكرية وسياسية في شعارات انتفاضة التغيير الشامل

د. ناصر الفهداوي([2])

        مع كل الثورات تبرز أهداف الثورة ومشروعها في التغيير المطلوب على صورة لافتات وعبارات وهتافات، بشعارات تعبِّر عن الرؤية والمرتكزات والعوامل التي تقوم عليها الثورة، وتُـعَـدُّ هذه اللافتات بمثابة الخطوط العريضة التي تعرض رؤى الثائرين، ومشروع الثورة الذي يتبلور مع تقدُّم الأيام إلى مشروع تغيير حضاري شامل، وخريطة طريق لثورة التغيير.. وهذه اللافتات والشعارات تعبِّر - كذلك - عن نفسية الجماهير الثائرة ودوافعهم التي دفعت بهم إلى خيار الثورة من أجل التغيير، وأيَّ تغيير ينشدون.. وهي تمثِّل (كاريزما الثورة) ومعالم منهجها ومرتكزات مشروعها في التغيير.

وتَــذْكُرُ الأجيالُ تلك اللافتات التي كُتبت في ثورات أي بلد ضد الاحتلالات التي اجتاحت معظم دول العالم الإسلامي، حين قُوبلت تلك الاحتلالات بثورات وطنية نقلت البلدان من هيمنة الاحتلال إلى الحكم الوطني، ومن بعدها تمَّ اختيار نظام الحكم الذي صوَّتت عليه الشعوب.. وكتبت تلك الثورات مبادئ وأُسس ثورتها التي تعبِّر عن رؤاها ومشروعها للتغيير، فأظهرتها على شكل لافتات كتبتها على جدران الأماكن ذات الرمزية المكانية، ورسمتها بشكل فنّيٍ معبِّرٍ وتثبِّتها على جدران مؤسسات الدولة ودوائرها وجامعاتها ومدارسها، وعلَّقتها في الساحات المميزة في قلب المدن، أو صنعت نُصُبًا وجدارياتٍ خاصة لتلك اللافتات لتعبِّر عن انتماء أجيال تلك الدول لتلكم الثورات التي أحدثت تغييرًا تاريخيًا ومفصليًا وحاسمًا في وجودها.

وما زالت أجيال الأمة تذكر تلك اللافتات التي خطَّتها أنامل الثوّار، بعد أنْ كانت هتافات وشعارات صدحت بها حناجر الثائرين ضد هيمنة وطغيان الاحتلال، واستبداد الأنظمة، وهي مكتوبة على جدران أبنية مميزة، ومنتشرة في ساحات لها رمزيَّـتُـها التاريخية والمكانية والزمانية، وظهرت بعض تلك اللافتات والشعارات على شكل "أيقونات" كانت رمزًا موحِّدًا لتطلعات الجماهير الثائرة.. وأنّها تُــكَـوِّنُ فيما بعد أيديولوجيا وفكرًا موحَّدًا لخلاص الشعب، ومشروعًا جامعًا لنهضة البلد.

وكانت من أجمل إبداعات ثورة تشرين العراقية، اللافتات التي ظهرت مع أوّل يوم من انطلاقة ثورة تشرين، وهي تحمل أفكارًا وأُسسًا ومبادئَ لثورة لا يمكن أن تُهزم، ولا يمكن أن يقوى الخصوم على إسقاطها أو إنهائها أو شيطنتها أو تشويهها؛ لأنها معبّرةٌ بحقٍّ عن تطلُّعات الشعب العراقي بأجمعه وطموحاته وآماله، وجمعت كل آمال الشعب العراقي بأُطرٍ رائعةٍ، ونسقٍ جميل، وقد عدَّها العالَـم بأنّها تعبِّر بحقٍّ عن إرادة شعب بأكمله غاب عن الحياة (16) سنة.

ومن أروع اللافتات تلك التي جمعت كلماتها مضمونًا رائعًا في إعلانها لقبر الطائفية، في لافتة "كلا كلا للطائفية والطائفيين"؛ لأنها تعلم جيدًا أنّ مِنْ أولى رهانات السياسيين الفاسدين لإجهاض ثورتهم هو تأجيج الطائفية المقيتة لجرِّ من يستمع إليهم إلى السقوط في مستنقعهم النتن، ومحاولة خداعه وتضليله لتجييشه معهم في فسادهم، وشيطنة من يخرج ضدهم، وقد دفع هذا الشعار بأنْ يخرج الجميع مع الجميع، دون أن يسأل أحدُهم الآخر من هو؟ ومن أي دين أو مذهب؟، وشعر الجميع بعاطفة جارفة نحو الجميع، وكأنّهم لم يلتقوا منذ أزمنة بعيدة، وقد حالت خنادق الحقد والضغائن التي حفرها السياسيون الفاسدون بين أبناء الشعب الواحد بينهم ردحًا من الزمن.. ولافتة "نريد وطن" و"قضية وطن" هذه اللافتة التي تثور معها براكين من العواطف والأحاسيس والمشاعر والآلام والآمال، بحيث شعرت الجماهير الثائرة معها بأنَّ الجميع قد فقدوا وطنًا كان لهم حصنًا يحفظ لهم كرامتهم، وحضنًا يشعرون معه بدفء الانتماء والولاء، وبلسمًا شافيًا لكل جراحاتهم.. ولافتة "نازل آخذ حقي" وقد أيقظت هذه اللافتة العقولَ التي ما حصدت سوى السراب من مرتزقة السفارات وعملاء الدول المحتلة من عصابات سياسيِّي الصدفة، والشعب قد انتبه من غفلته ووجد نفسه خالي الوفاض، وصفر اليدين، ولم يجنِ من العملية السياسية الفاسدة والعصابات التي تنهب تحت غطائها، سوى الويلات والحروب والاغتيالات والأمراض والفقر وفقدان الكرامة، ووجد نفسه في بلد منهوب الثروات ومسلوب الحقوق.. ووجد الشعب نفسه بين سياسيِّين عواهر يستكثرون على شعب أنْ يطالب بأقل حقٍّ من حقوقه.

فنزل بنفسه لينزع الشرعية عن العملية السياسية التي دمّرت البلد وهدرت ثرواته، وينزع الشرعية عن الفاسدين ويخرجهم خارج حساباته كلها، ويكتب لافتته: "نازل أنزع شرعيتكم" فلا يجعل لهم سلطانًا عليه، ويمنح نفسه الشرعية بأخذ حقوقه، فكتب لافتة عريضة أمام العالم بأنه "نازل من أجل حقوقه المنهوبة".. ولافتة "تسقط العملية السياسية" وهي تعلن إسقاط شرعية العملية السياسية التي جعلها السياسيون الفاسدون ردءًا وغطاءً لكل إجرامهم وسرقاتهم، فلا شرعية لهم مع شرعية خروج الشعب ضدهم.. ولافتة "يسقط دستور الاحتلال" والشعب قد حدّد الغَصَّة التي أحالت البلد إلى خراب، والخبء الذي يختبئ السُّرَّاق من خلفه، ويتحصَّنون به من كل جرائمهم وفسادهم وخياناتهم وعمالتهم وتدميرهم للبلد، ألَا وهو الدستور الذي فرضه الاحتلال، واستودعه كل خبائثه ودسائسه، وجعله مُضَمّنًا لكل مؤامراته ومخطَّطاته التدميرية، فكان الغُّصَّة التي تخنق الإرادة الوطنية، وكلما نادى الوطنيّون الغيارى لخلاص وطنهم وبلدهم من العصابات المجرمة وعمليتهم السياسية المدمِّرة للبلد، كان الرد من الكثير من أصحاب القرار والأمانة والمسؤولية بالتنصُّل، والقول بأنَّ أمريكا لا ترضى لـِمن يقف بوجه العملية السياسية التي تقوم على دستور كتبته أيادٍ تنتسب للعراق.. فكان المرتزقة يحتمون بهذا الحصن الذي كان لهم الدرع الحامي لكل مفاسدهم وتخريبهم للبلد.

أعلنت الثورة مشروعها من أول يوم من انطلاقتها مع زخمها الكبير، معبّرة عن قفزة نوعية رائعة في ثقافة شعب وإعلان وجوده من جديد، وارتقاء وعيه ويقظته، وخلاصه من ربقة التبعية لإرادة محتل جائر، وخلاصه من قداسة العبودية الزائفة للحجُب والأكاذيب والخداع والتضليل التي مرّرها عليهم سارق دجّال فاسد، يرتدي جُبَّة كاهنٍ فاسد أو عباءة مصلح زائف، وتكسيره لكل القيود المكبَّلة ليديه من أن تطالب بحقوقه، وتحطيمه للأقفال التي كمَّمته سنين طوال.. وأعلنت الجماهير الثائرة بأنَّ ثورتهم ليست ثورة مطلبية، ومشروعها غير قابل للتجزئة، وكتبت ثورتها من أجل التغيير بعبارات واضحة وهي تحمل مشروع التغيير، وأعلنتها باللافتات والخطوط العريضة، وصدح بها بملء فيه.. لافتات تحمل مشروع تغيير لواقع فاسد جثم على صدر الشعب أكثر من عقد ونصف، وبرهن الشعب الثائر بأنه أوعى من حكومة الفساد وأوعى من كل سياسيّيها السُّرَّاق المفسدين.

وسأذكر في هذا البحث أبرز اللافتات التي أعلنها ثوار العراق ومع أول انطلاقة الثورة، والتي تعد من الأصول والأُسس التي تُجمع عليها جميع ساحات الثورة، جامعًا أُسس اللافتات التي ظهرت مع ثورة تشرين، وأمـا اللافتات الفرعية فإنها تأتي ضمنًا، وتقع تحت اللافتات الأصل بين جميع ساحات الثورة.

أُسس انبعاث ثورة تشرين وانطلاق مشروعها في التغيير:

ثورة تشرين في العراق، لـَمْ تنطلق من فراغ، وإنما كانت لها مقدِّمات تقدّمت هذا الزخم الثوري، وتقدّمت هذه الثورة جهودٌ كبيرة ومتواصلة مقاوِمة لمشاريع الاحتلال، ومضت وهي ثابتة في إبقاء النفس المقاوم والخطاب الرافض للاحتلال ومشاريعه بارزًا ومتواصلًا، وتردّده تلك القوى وتعمل بمقتضاه، ولم تتوقَّف عن العمل به والالتفاف حوله مهما كلَّفتها التبعات، وهذه القوى المناهضة وقفت ضد مخطَّطات الاحتلال ومؤامراته في الهيمنة ومصادرة هوية الشعب وسلب إرادته في التغيير، واستئصال وجوده، وتحمَّلت في سبيل ذلك تبعاتٍ جسامًا، ولاقت محنًا ثقيلة كلَّفت ملايين العراقيين أرواحهم ودماءهم واستقرارهم وكل ما يملكون، ولم تـَــذُب في خِضمِّ المواجهات والهجمات التي شُنَّت ضدها، وبقيت محافظة على خطابها في التغيير وماضية بمشروعها بكل السبل المتاحة لها.

كانت هناك قوى وهيئات ومنظمات وكفاءات ومبادرات وشخصيات ومبادرات كثيرة تحمل مشروع التغيير نفسه، ولم تتوانَ في جهودها ومواقفها في يوم من الأيام، لكنها كانت تقابَـل بالرفض غير المبرَّر والتخذيل المخزي.. وكان من بين هذه القوى المناهضة (هيئة علماء المسلمين) والتي عُرف عنها لاءاتها الرافضة لكل مشاريع الاحتلال، والمشهورة عنها بقولها: ( لا للاحتلال، ولا للعملية السياسية، ولا لدستور الاحتلال، ولا للانتخابات في ظل الاحتلال، ولا للتدخل الخارجي) وكانت هناك قوى (المؤتمر التأسيسي الوطني للقوى المناهضة للاحتلال) وكانت هناك قوى وجبهات وهيئات ومبادرات ومنصَّات وشخصيات وكفاءات وتجمُّعات كلها تحمل مشروع التغيير للبلد، والمناهض للاحتلال، والرافض لما يجري للبلد من تدمير.

وكانت هذه القوى تجابَــه - بقوّة - بالاتهامات الاستئصالية الكاذبة المفتراة، وكانت تلك القوى المختلفة والمتعددة تُـواجه بالشيطنة، وجوبهت جميع القوى المناهضة والكفاءات والشخصيات والهيئات والمنظمات والتجمُّعات الرافضة للاحتلال وضياع البلد مجابهةً قويّة، فلم تجد مُعينًا لها من القوى الدولية التي تتحمَّل الأمانة والمسؤولية التاريخية، وربما سخَّرت الكثير من الدول إعلامَها وقدراتها لمواجهة من يقف بوجه مشاريع أمريكا واحتلالها للدول وإخضاعها وتسليمها لهيمنة إيران،، ولأن العامل الأكبر في خُذلان الأمة وحكوماتها لتلك القوى هو وجود عامل "الاعتراض الأمريكي" في قضية العراق، وأنْ لا أحد يحقُّ له تأييد القوى المناهضة للاحتلال، فلم تجد تلك القوى من يعينها أو يسمع منها، على الرغم من أنّ العالم بأسره يرى بأمِّ عينيه ما يجري في العراق، من تدمير وفساد سياسي واقتصادي وتربوي واجتماعي وانهيار منظومات ماسكة للبلد وحافظة لوجوده، فانهارت المنظومة الدينية والأخلاقية والمجتمعية والعشائرية؛ لوجود الأدوات الكبيرة والمدعومة التي عملت على إفسادها وإزالتها.. وكان مصير الكثير من القوى المناهضة هو الاتهام بـ"الإرهاب" وما شابهه، والقتل والتصفية والاعتقال وتكميم الأفواه والمطاردة والاختطاف والاعتقال القسري، أو التهجير والطرد من البلد ومصادرة الوجود والحقوق، وقد أصبح مصير الكثير من الكفاءات المناهضة والواعية التهجير خارج البلد.. ولأنَّ "العامل الأمريكي" عامل منعٍ لأي مبادرة تأييد، فلم تكن الفرصة متاحة في حينها لتلك القوى لأنْ تكون فاعلةً بزخم يتناسب مع أحقيّتها بمشروعها المناهض للاحتلال وكل أدواته المرتزقة ومشاريعه التدميرية، وجدارتها بالتغيير المشروع.

لم تكن المناخات - حينها - متاحة لتلك القوى كما هي اليوم لجيل الثورة الشبابي، الذي نزل بزخم كبير، وجعل من الكثير من المعوِّقات تسقط أمامه وتنهار؛ لأنَّ المعوِّقات التي كانت تقف بوجه قوى المناهضة والتغيير ضَــعُـــف بعضُها، وزال بعضٌ آخر منها، أمام وعي الجماهير التي تجاوزت الاستماع للأبواق الملمِّعة للاحتلال ومشاريعه، وبالتالي سقطت معه الأدوات التي تحتمي وراء تلك الأبواق التي أطالت من أمد حكومات الاحتلال، رغم فسادها وخيانتها وعمالتها ونهبها لثروات الشعب وتدميرها لمؤسساته وهدرها لثرواته.

وثمة عامل آخر - وهو مهم جدًا - وهو أنَّ مظاهرات الشعب العراقي التي ظهرت في فترات مختلفة من مواجهته لمشاريع المحتل وأعوانه، كان أغلبها مطلبيًا، أو كانت عبارة عن مظاهرات ناقمة عن أوضاع مأساوية يعيشها الشعب، ولم تأخذ في أغلب مراحل انطلاقها طابع الثورة، وزخم الثورة التلاحمية والجماهيرية الوحدوية، وكانت مجزّأة المطالب وتجهل إلى أين تتجه.. إلى أن كان زخم ثورة شباط في 25/3/2011، التي خرجت ضد ظلم الحكومات الطائفية وفسادها وإجرامها، فكانت قريبةً جدًا من زخم التغيير، لكنها قوبلت بالاتهام والتشويه وتآمر دولي، وخذلانٍ من القريب والبعيد.. ولذلك كانت هذه المظاهرات مقدِّمات دافعة لجيل الثورة إلى أن يكون ضمن حساباته في التغيير هو السير على خطى السابقين، لكن هذه المرة بزخم أكبر وبمشروع شمولي في التغيير.

واليوم ضَعُف عامل الرفض الأمريكي لإرادة الشعب بالتغيير؛ لتغيُّر حساباته ومصالحه، وتغيُّر الأدوات الفاعلة في سياسته، وتغيُّر فهمها لقواعد اللعبة الإيرانية وتصاعد نفوذها وتمدُّدها وهيمنتها على الدول التي سلَّمتها إليها الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك تغيُّر قناعات دول عربية بعدم مواصلة الانخداع للسياسيات الأمريكية الخادعة والمضلِّلة، وقد وَضَح لها مدى التلاعب الأمريكي في خداعها ومحاولة إغرائها بقراءته السياسية المغلوطة لما يجري في المنطقة والمجافية للكثير من الحقائق، وكذلك تصاعد خطاب دول الاتحاد الأوربي وبعض الدول العربية المحذِّرة من تصاعد تهديدات إيران للسلم العالمي والمجتمعي، حتى باتت إيران وجميع العصابات الحاكمة في الدول العربية والمدعومة منها تهدِّد دول العالم كلها... وهذا عين ما نادت به القوى المناهضة للاحتلال.

كانت هذه المقدِّمات كلّها تمثل العوامل التي أبقت خطاب الثورة والمناهضة والحفاظ على ديمومة مشروع التغيير حاضرًا في ذاكرة أجيال الأمة، وهي التي منعت من تغييبه رغم تحمّلها الصعاب والتكاليف الجسام.. كما أنَّ الإصرار على إبقاء مشروع مقاومة مشاريع الاحتلال ومؤامراته ومخططاته ورفض الهيمنة على البلد فاعلًا في فكر وثقافة العراقيين، هو الذي أوصل العراقيين إلى ما وصلوا إليه من الانطلاق من جديد بزخم ثورة جماهيرية واعية خلّاقة، وكانت هذه جميعها من العوامل القوية الدافعة للشعب العراقي لأنْ يخرج بثورة التغيير الحقيقي.

الثورات التي تلفت أنظار العالم.. ثورة خلاقة:

الثورات التي تلفت أنظار العالم وتحدث التغيير، وترى لها أثــرًا وتأثيرًا في الرأي العام العالمي، وتجد صداها في أبعد نقطة في العالم، تلك التي تعرف مسار حراكها وتحدد مشروعها في التغيير وتبنيه على مراحل مدروسة، وتُـعْــلِــنُ ذلك من خلال لافتاتها وهتافات ثوّارها وشعارات جماهيرها.. وثورة تشرين أحدثت تأثيرًا في أبعد نقطة في دول العالم، من خلال ذلك كلِّه؛ من خلال لافتاتها التي أبهرت العالم، والتي عبّرت عن نُضجٍ فكري وفهمٍ سياسي معمَّق يختصر مشروعها في التغيير والنهضة، وطروحات ثقافية واعية، وهي تطرح مشرعها بثقة عالية، وتعلم يقينًا ما خرجت من أجله، وتعلم ما سيواجهها من عقبات وتحدّيات، وما ستتحمّله من مخاطر وتبعات.. فأحدثت أصداءً مزلزلة في برلمانات الدول الغربية، وجعلت كل مواطن يائس من العودة للعراق إلى أن يتحرك من أجل التغيير، ويتكلَّم بفخر واعتزاز بثورة الوعي والتضحيات ومشروع التغيير الواضح.

وأمّا الثورات التي لا تعدو أنْ تكون عبارة عن نقمة شعبية ساخطة، ويكون التَـسَـخُّـــط من أجل خدمات جزئية، أو وظائف حكومية لقطاعات قليلة من الشباب، وتكون عبارة عن تمرُّد وقتي، فسرعان ما تنتهي بعد سماعها - مجرد سماعها - من عصابات حاكمة سمّتهم أمريكا "سياسيين" وتسمع وعودًا كاذبة ومضلِّلة من هؤلاء الحثالات والعصابات الحاكمة، لتعود وتنتظر تنفيذ هذه الأكاذيب وتمر السنون والسنون، ثم يكتشفون بعدها أنهم خُــــدِعُـــــــوا من قبل حثالات البشر، ولــذا يغلب على هذه الثورات سمة النقمة الشعبية، والتي تنتهج النهج الفكري الشعبوي الحماسي العشوائي، التي لا تعدو أن تكون مجرّد تمردٍ أو ثورات غاضبة عشوائية، وفورات حماسية عبثية، ولا تعدو أن تكون عبارة عن "ظاهرة صوتية" وانفعالية لا أثر لها ولا فائدة مرجوّة منها، ويغلب عليها عدم وضوح الأهداف؛ فهي تعرف جيّدًا الأوضاع التي ترفضها ولا تريدها، ولكنّها غــالـــبًا لا تعرف ما الذي تريده بالضبط، إلّا كشعارات عامة عشوائية، تذهب جذوتها بعد قبولها بخداع سياسيين فاسدين توافه، وطريقها نحو تحقيق مطالبها مجهولًا لها وغير محدّد.. كما أن طريق الثوار في هذا النمط من الثورات لتحقيق أهداف تمردهم أو انفعالاتهم أو نقمتهم الشعبية يكون مجهولًا لهم، حتى وإنْ كانت أهدافهم إسقاط النظام، فهم لا يعرفون كيف يحدّدونه أو يختارونه أو أنْ يتفقوا عليه.. وهؤلاء الانفعاليين يعرفون كيف يلتقون ولكنهم بعد إسقاط النظام لا يعرفون ما الذي يريدون أن يقدّموه، هذا إذا لم يتقاتلوا فيما بينهم؛ لأن العشوائية وعدم تحديد الأهداف والمراحل هي التي تقتلهم.

ولذلك فإنَّ ثورة تشرين في العراق وضعت ذلك في حساباتها، وأنها تقف أمام أمانة تاريخية عظيمة تتجاوز أهواء السلطة والرغبة في الحكم والطمع في كراسي الحكومة.. حتى انطلقت في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر سنة 2019، بعد أكثر من (16) سنة من الويلات والفساد والتدمير والقتل والتفجير والفتن الطائفية السياسية والتهجير والنزوح، والانتقال بمشروع الثورة إلى مشروع تغيير شمولي يجمع كل تركة الفساد الثقيلة ومخرجاتها وإسقاطاتها على الحياة السياسية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية والأخلاقية، ويحدّد معالجاتها بواقعية وبرؤية معمّقة اتَّسمت بالإحاطة بكل متطلبات مشروع التغيير الفاعل.

ولما كان مشروع التغيير في ثورة تشرين ظهر من خلال لافتات الثائرين التي أعلنوها في ساحات الثورة وفي كل المحافظات الثائرة وبقية المحافظات المناصرة والداعمة والمؤازرة لها.. ومن أبرز لافتات الثورة التي تضم كل لافتة منها مشروعًا كاملًا وواضحًا، هي التي تعلن أنها خرجت بثورتها من أجل (عراق جديد) و(نريد وطن) وقد توافقت عليها الرؤى والأفكار، واعتمدتها مشروعًا للتغيير وناهضًا ببلدٍ محطَّم، لتنطلق به من بين ركام الفساد المتغلغل في مفاصل الحكومة ومؤسساتها كلها، إلى نهضة وبناء ومستقبل مشرق.. لذلك كانت ثورة تشرين مُبْهرة للعالم بأسره، وقد أحدثت دويّــاً مع أول انطلاقتها بمشروعها الواضح ورؤيتها الواضحة في التغيير، وقد أبهر ثباتُ شبابِها المضحي بكل ما يملك، هو ويقدِّم أغلى ما عنده دون تردُّد، وهي الحياة التي بين جنبيه، وكل الشباب أعلنوها واضحة وهم يضربون الأمثلة الأروع في الثبات والإقدام والتضحية من أجل انتصار الثورة، ويقولون "الوطن، أو الموت" ومنهم من يلبس لافتة "أنا الشهيد القادم" وهو لا يتردَّد من التضحية بنفسه من أجل استعادة وطن سليب؛ لأن الحياة في العراق بعد (16) سنة من الاحتلال والضياع والتدمير والمآسي إنما هي عبارة عن موت في كل لحظة.. وكل واحد من الثوار يقول: "أنا نازل آخذ حقي.. وتابوتي معي" والثوار المضحون بأرواحهم ودمائهم وحياتهم وأوقاتهم فداءً لثورة التغيير يعلمون جيدًا بأنَّ ما يقدِّمونه من أجل التغيير إنّما هي تضحيات وليست خسائر؛ لأنّها أفضل طريق تنتصر به الثورة، والثورة تأتي مثل القدر الذي لا يُـــردّ حينما يتعذَّر الإصلاح الجذري الجاد والحقيقي، وفي عادة الشعوب المستريحة والمسترخية أنّها لا تدعو للثورة، ولكن القمع والحرمان والفقر والتدمير والمآسي وحياة الضنك والعوز والنكبات هي وحدها التي تكون داعية الثورة.

ثورة تشرين تجمع كل مرتكزات النجاح والتأثير، وكل عوامل النصر والنجاح بأهدافها، من خلال مشروعها الواضح، ورؤيتها المعمَّقة لفكر الثورة والمشروع المطلوب في التغيير الفاعل والحقيقي، والشباب الواعي الذي عبَّر عن وعيه ورقيِّه الفكري والإنساني والحضاري بأروع الأساليب والطرق الحضارية، والتضحيات التي لم تفتَّ في عضد الثائرين، ولم تثنهم أفدح التضحيات عن المضي بثورتهم والوصول بها إلى النصر، والخلاص من السياسيين الفاسدين، وإسقاط دستور العمالة والخيانة الطائفي الذي كرّس الفساد والطائفية والمحاصَّة وتمزيق وحدة البلد وأخلاق أهله ونهب ثروات البلد.. واجتماع هذه العوامل والمرتكزات وتظافرها مع بعضها البعض لتشكل عوامل التأثير في فرض مشروع الثورة وانتصارها على كل الخصوم وكل المشككين وكل الرافضين لعودة العراق إلى أهله، وخلاصه من الاحتلال ومشاريع الهيمنة والاستغلال.

ثورة استعادة وطن.. واسترجاع سيادة:

الشعور السائد بين ثوار تشرين وكل القطاعات الشبابية، وبين العراقيين عامة، والدافع الكبير الذي أخرجهم بثورتهم هو أنّهم قد فقدوا وطنًا يشعرون في ظل خيمته ووجوده بالكرامة والعزّة والوجود بين الأُمم.. وأن الطُغمة السياسية بالذات التي تسلَّطت على العراق بعد سنة (2003) هي من أفقدت الوطن كرامته، وجعلته بفسادها وسرقاتها وخيانتها وعمالتها للدول التي تعمل لها في آخر حساباتهم، وأنّ الطبقة السياسية التي حكمت العراق منذ سنة (2003) لم يكن همُّها إلّا نهب ثروات البلد وتنفيذ أجندات الدول الخارجية التي تستخدمهم لصالحها، وكانوا بحَقٍّ مرتزقة وعبيدًا للدول الخاضعين لها، وعملوا على تحقيق مصالحهم الحزبية، إضافة إلى ما ارتكبوه من جرائم إرهابية واختطاف وتفجيرات وجرائم إبادات جماعية ضد الشعب العراقي.. فضاع الوطن، وانتهكت سيادته، وضاعت استقلاليته، وأصبح الوطن خرابًا في كل شبر من تراب أرضه، وأوغل الساسة السُرّاق بنهبهم وسرقاتهم وفسادهم ،فلم يتركوا للشعب المسكين فرصة عيش كريم في وطنهم السليب.

وطنٌ مستباح، تحت ظل سياسات متعمَّدة من عصابات الاحتلال (الأمريكي - الإيراني) الذي حكمت باسمه وخرجت من تحت عباءته، وما بقي منه سوى الأرض الخالية الجرداء من كل سبب للحياة الحرة الكريمة.. وبعد ضياع الوطن ضاع الشعب في متاهات سياسات الفاسدين، وإدخاله في دوّامات القتل والتفجير وعمليات الإبادة الممنهجة وتأجيج النعرات الطائفية البغيضة، وارتكاب جرائم التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي بدفع من السياسيين الذين حكموا البلاد، وهم يعلمون أنّ كل تلك الجرائم وإثارة النعرات تطيل وجودهم في الحكم، وأن تأجيج النعرات الطائفية من أكبر العوامل التي يراهنون عليها في بقاء حكمهم الفاسد.. واتجه البلد إلى المجهول مع أوَّل سنوات الاحتلال.. ومع كل هذه الأحوال المأساوية التي عصفت بالوطن والشعب، صار الحصول على وطن يحفظ كرامة الإنسان ويشعر المواطن بوجوده مع وجود وطن مستقل غير خاضع لأجندات الدول الخارجية، حلمًا عند عامة الشعب، وأصبح الحصول على شعور الإنسان ببشريته وإرادته المستقلة مع وجود السياسيين الفاسدين ومع وجود وطن مستباح، من المستحيل.

ودخل الشعب العراقي منذ سنوات في دوامة "عقدة الشعور باللاوجود" مع وطنٍ سليب مدمّر، وغصّة الهامشّية على حياة بين عالم يمارس حقوقه ويعيش برفاهية، وله وجوده واستقلاليته وكرامته مع كرامة وحرية المواطن في كل البلدان، بمقابل شعب عراقي حُــرِم من وطنه.

فكان من بين أعـزّ اللافتات التي كتبها ثوار تشرين وأقربها على قلوبهم، لافتة "نريد وطن" و"نريد وطن نعيش بيه بكرامة" و"نريد وطنًا محترمًا" و"قضية وطن".. ومع أول مرتكز من مرتكزات مشروع التغيير والمطلب الرئيس في الثورة، كان الثوار الشباب يبكون عندما ينطقون باسم "الوطن" وإن كان شباب الثورة يشعرون بغرابة مطلبهم لكنّهم يقولون إن الناس يتكلمون عن وطن، فــ"أين وطننا" نحن؟!! كيف وقد سَـرَق السياسيون الفاسدون حتى الحلم من العراقيين بشيء اسمه وطن.. وشعر العالم بأسره مع اطلاعه على مأساة الشعب العراقي ومعرفة تفاصيلها، ومدى الإجرام والحيف والظلم والتغيب الذي عانوه، اصطفت شعوب الأرض كلها مع هذا الشعب الذي خرج يستجدي "وطن ؟!!"، ويطالب بوطن يشعر فيه بكرامته وحريته ووجوده وينال فيه حقوقه المشروعة.

والكثير من الجهات الإعلامية ومراكز الأبحاث والسياسيات وحتى الكثير من الشعوب والحكومات صاروا يسمون ثورة تشرين العراقية بــ"ثورة نريد وطن" و"ثورة وطن" لأنَّ العالم بكل ثقافته وأفكاره يقرر بأنَّ الأرض التي لا يحلم الإنسان وهو على ثراها فليست هي بوطن، وأنَّ الأرض الذي لا يشعر فيها بوجوده ولا بكرامته ولا أمنه ولا استقراره ولا يحصل فيها على حقوقه فليست هي بوطن، وأنَّ البلد الذي لا يشعر فيها بانتمائه وكل أصحاب القوى الباطشين بها يسحبون العقول والأفكار تجاه التغريب والتغييب فليس بوطن.

ومن روعة هذه اللافتة وعظمتها وكيف أصبحت جاذبة ومحورية لدى كل من غادر الوطن، ولدى كل الساكنين في أرض قاحلة من الانتماء والشعور بالوطن، تنادى الشباب الثائر، ومنهم من جاء بعد رحلة الاغتراب من البلدان التي كان يعيش فيها بكل رفاهية وكل الحقوق، عاد ليقول: "راجع أستعيد الوطن".

الثوار يبتعدون عن الثرثرة التي لا تجدي نفعًا، وعن الهرطقات الفضفاضة والفوضوية، والدخول في دوَّامات وإغراءات المرجعيّات الهلاميّة التي لا تعدو أن تكون "ظواهر صوتية" يكثر فيها الكلام الهلامي والهرطقة التي لا طائل منها، وكلام المنتفعين من ضياع الوطن والمقتاتين على الخداع والتضليل، المتسيّدين فوق رؤوس من يدور بفلكهم وهم يجرّون أتباعهم إلى بحور السراب ومجرات الفلسفة الفارغة.. فقد اختصر الثوّار مشروعهم بلافتات تسقط معها بهرجة الزعامات التي أُغدقت بحجب القداسة لكل فساد الفاسدين وتضييعهم للعراق وشعبه.. فخرج الشعب وهو يعلن لافتته بكل وضوح "راجعين نستعيد الوطن بسيادته على كل أرضه" و"ما نريد ماء وكهرباء ولا خدمات.. خذوا كل شيء وأعطونا الوطن".

ولادة عراق جديد:

حدّد الثوار مشروعهم ووجّهوا بوصلة جهودهم الثورية باتجاه "عراق جديد" من التغيير الشامل والجذري للعملية السياسية ونظامها القمعي المستبد، وإزالة كل الطبقة السياسية التي حكمت العراق بعد سنة 2003 م، وإسقاط دستورها الذي فرضه الاحتلال وكرّس كل مشاريعه الخبيثة فيه، وتوافقت عليه مصالح الدول الاستعمارية، وتوافقت عليه مصالح أحزاب السلطة التي تسلّطت عليه وعاثت به فسادًا وتدميرًا، وسحب الشرعية الزائفة من الانتخابات المزوّرة التي انتجت الفاسدين.

ولذلك فإن الثوار ينشدون "عراقًا جديدًا" خاليًا من الجو الفاسد الذي أزكم أنوف الأحرار، وهم يعلمون جيدًا أنَّ العصابات الفاسدة التي سلّطتها التوافقات الاستعمارية (الأمريكية والإيرانية) وتوافقات السياسيين الفاسدين وأحزابهم المجرمة، على رقاب الشعب العراقي المسكين، قد لوّثت كل شبر من أرض العراق وكل ناحية من نواحيه الإدارية، حتى أوصلته العصابات الحاكمة إلى بلد لا يصلح للعيش البشري، وجعلوه في ذيل قوائم الدول.. حتى أصبح المواطن فيه غير محترم، وأصبح جواز السفر الذي يحصل المواطن عليه لا قيمة له عند الدول، وجواز السفر في ذيل قوائم الدول.

بعد عقد ونصف من انهيار بلد وتحطيمه، وتحطيم كل ما فيه من إنسان ومؤسسات ووجود، فقد حدّد الثوّار عبر وعيهم ونضجهم أنّ الحل لمآسيهم والنجاة بثورتهم وانتصارها، وتحصيل خلاصهم واستقلاليتهم وحريّتهم هو ولادة "عراق جديد" وتحت لافتات عنوان العراق الجامع ظهرت لافتات "العراق ينتفض" و"عراق جديد" و"الولاء للعراق" و"العراق وبس" و"عراقيون".

والسعي المتواصل من الثوار، وكل جهودهم ومواقفهم، يقدّمونها وهم يدرسون مآلاتها بفهم وإدراك راسخين، ويستشرفون نتائجها بوعي، ويقرؤون مؤدّاها بأنها لا بدّ وأنْ تقودهم إلى ولادة "عراق جديد"، يمثل هذا العراق كل ما فقدوه في هذا الوطن السليب؛ لأنَّ هذه المرحلة ليست مرحلة "الفرصة الوحيدة" فحسب، بل هذه مرحلة "الثورة هي الــحُــلُــم" و"الوطن أو الموت" لكل شباب العراق وأهله المظلومين الذين عانوا الويلات من الأنظمة الفاسدة المستبدّة التي سلّطتها مشاريع الهيمنة الاستعمارية.. فلا بد أن يكون "العراق هو ينتصر" وهذه لافتات للثورة خطّها الثوار بدمائهم وتضحياتهم ووعيهم بأنَّ جهودهم لا بد وأنْ تلدَ "عراقًا جديدًا".

ومع هذه اللافتات الواعية والكبيرة في معناها، فقد أصبح عراق ثورة تشرين يختلف عن عراق ما قبل تشرين .. وعراق ما بعد (1/10/2019)، هو ليس عراق ما قبل (1/10)، فقد اختلف العراق بكل ما فيه، واختلف الشعب، واختلفت الإرادة، واختلفت الموازين، واختلفت كل حسابات الدول الكبيرة مع ثورة تشرين التي غادرت كل مراحل البؤس والشقاء والقتل والترويع، وتريد بثورتها أنْ تصل بها إلى ولادة "عراق جديد".

الشعب يريد:

        من اللافتات البارزة التي ظهرت في ساحات ثورة تشرين هي اللافتات التي تعبِّر عن إرادة الشعب، وهذا ما جعل الثوار يستشعرون وجودَهم وهم يعلنون لافتات ثورتهم الجامعة، وأصبحوا يردّدونها شعارات مدوّية بألسنتهم وبملء أفواههم، مع شعورهم اللصيق بمحتواها الرصين، والمعبّر بشكل واضح عن مشروعهم في التغيير.. وأنَّ ركيزة التغيير القادم هي "خيارات الشعب" وأنها تأتي اليوم وفق إرادته، وأنَّ الشعب هو الذي يفرض رؤيته ومشروعه في التغيير، ويختار الأدوات ويحدد الأهداف، وينتقي الأصلح ويحدد المراحل الزمنية في التغيير، ويختار الأسلوب، وقد يضطره الخصم إلى اختيار الأساليب بعد مراحل من التعنّت ومقابلة السلمية بالكسر والعدوان والتجاهل التام.

والخيار الأفضل في المجتمعات المستقرة أنَّ المجتمع هو الذي يمارس عمليات التغيير، ويواكب الاحتياجات المتجدّدة، في تلبية متطلبات الشعب والرقي به نحو استقراره ورفاهيته، وتلبية كل استحقاقاته في الحياة من ثروات بلده وحريته في التعبير عن الذات والإرادة، ولكن الحكومات المستبدة وأنظمتها القمعية قد تضطر الشعب إلى اللجوء إلى خيار التغيير عبر خيارات تتجاوز الأنظمة المجتمعية المعتادة، والتي تسلكها مؤسسات في ممارسة عملية التغيير وتلبية متطلبات المجتمع في حياة حرة وكريمة.. فيكون خيار الجماهير الأفضل هو ممارسة الشعب بعملية التغيير نفسه.

ومما كتبه ثوار تشرين في العراق وأعلنوه أمام السلطات الحاكمة المستبدة، أنَّ ثورة التغيير خرجت لتعبّر عن إرادة شعبية عارمة في تغيير النظام الظالم المستبد والفاسد، والنهّاب والسارق لثروات البلد وأحلام شعبه كله.. وهذه الإرادة الشعبية الثورية في التغيير تعبّر عن كل ما يدور في ضمائر الجماهير.. وأعلن الشعب لافتته الأولى وهتف بها بأعلى صوته وهو يقول:" الشعب يريد إسقاط النظام" و"الشعب يريد إسقاط الفاسدين ومحاكتهم" و"الشعب يريد إلغاء دستور الاحتلال" و"الشعب يريد تغيير العملية السياسية الفاسدة".. فجاءت ثورة تشرين العراقية ولافتاتها لتكون أصدق تعبير عما يدور في ضمائر الناس وطموحاتهم في التغيير، وما يتردّد في أحاديثهم العامة والخاصة، وما يتكلمون به في مجالسهم المغلقة بعفوية، فكان "الشعب" هو الذي يريد التغيير بثورته.

فلا شرعية ضد شرعية الشعب، والشعب هو مصدر السلطات.. فــ"الشعب يريد.. هو الذي يريد التغيير".. لأن هذا الشعب بعد (16) سنة من التهميش والضياع، ونهب الثروات وهدر كل طاقات البلد وتعطيلها، شعر بأنَّ الطُغمة السياسية الفاسدة لن تترك هذا البلد وهي ترتع بمليارات الدولارات تنهبها كيفما شاءت، وأن هذه الطبقة السياسية الراتعة بالفساد وأحزابها المجرمة لن تتخلى عن أطماعها وتغادر بنفسها، فلا بد من إرادة شعبية عارمة تقتلعها من جذورها، فأعلن الشعب لافتة إرادته الحرة والمستقلة والمزلزلة، فقال: "الشعب يريد إسقاط النظام" و"الشعب يريد تغيير الفاسدين" و"الشعب يريد إسقاط العملية السياسية".

ولما كانت ممارسات السياسيين اللصوص الفاسدين الذين سلطتهم مشاريع الاحتلال (الإيراني - الأمريكي) هي إفقار الشعب العراقي وتجاهل كل مقومات وجود المجتمع العراقي، والاستخفاف بكل متطلباته، لا بل تـسـتــكـثِــر عليه أنْ يطالب بأقلّ حقوقه.. فقد وصل الشعب إلى أنْ يقرر بأنَّـه "هو الذي يريد".. وليس هناك من محركات خارجية لثورته، وليست هناك دوافع مصطنعة لشهوات التسيُّد والحكم، أو أنْ تكون له محاولة جوفاء فارغة لغرض انتزاع السلطة من أجل السلطة؛ وإنما هي إرادة شعبية عميقة وأصيلة في تغيير الواقع المتردي الذي انحدر إليه البلد.. فالشعب نزل بنفسه ليمارس سلطاته في انتزاع شرعية الفاسدين.

وعندما تتعنّت الحكومات المستبدّة عن التغيير وتلبية طموحات الشعوب في إعطائها حقوقها كاملة، فإنَّ الشعوب ما تلبث أن تستوفيه كاملًا، والثورات تحدث عندما تقف الحكومات بوجه شعوبها وترفض مطالبه وتلبية حقوقه المشروعة.

فالشعب نزل لأخذ حقوقه وانتزاعها من الغاصبين المفسدين لأنه اختنق بالفساد والإجرام والترويع والإرهاب والفقر والبطالة سنوات طويلة تجاوزت العقد ونصف العقد، وشدّد السياسيون الفاسدون الخناق عليه، وضيّقوا عليه سنين طوال، حتى فاض الغيض عن حدوده، وضاق ذرعًا بالسياسيين المجرمين الفاسدين المتجاهلين لوجوده كشعب ينبغي أن تُــقَـدّم له أقل مقوّمات الحياة.. وعاش الشعب العراقي الحرمان والمآسي والنكبات والظلم والاستبداد والفقر والأمراض الفتّاكة وغياب مؤسسات العدالة والإدارة والحقوق، فانفجر في وجه كل السياسيين الفاسدين بشكل لم يتوقعه أصحاب القرار، الذين لم يتابعوا نبض الشارع العراقي ولم يستجيبوا لحاجاته ولم يكفّوا عن الإيغال في معاملته بوحشية وإجرام، ونهب لثرواته ومصادرة لكل حقوقه.

ولقد كان "كارل ماكس" وهو السياسي والاقتصادي الحذق يتوقع بأنَّ الثورة سيشتعل أوارها في الدول الرأسمالية الكبرى كألمانيا وفرنسا وانـگلترا، وأنَّ هذه الدول هي التي ستشهد الثورات بسبب وجود مسوغات كبيرة للثورة، والتي تمثَّلت في أن النُّظُم الاقتصادية الرأسمالية أوجدت طبقة فقيرة ومسحوقة لا يكترث لوجودها أحد في مجتمع ثري.. ولكن هذا لم يحدث، وحدثت الثورة في مجتمع فقير وتحديدًا في "روسيا القيصرية" ثم حدثت في "الصين" ولم تحدث في دول أوربا؛ وكان السبب هو إدراك الحكومات في الدول الرأسمالية في أوربا للخطر الذي نبّه إليه "ماركس" وقد منحوا طبقات الشعب من العمال والفقراء والمسحوقين حقوقًا وامتيازاتٍ كبيرة تتناسب مع طموحاتهم، وفتحوا الأبواب لحرية التعبير على مصراعيها، وكانت تلك الإجراءات كفيلة بأنْ تنزع فتيل الثورة الذي يستعر في نفوس الأوربيين.. ولكن مَـنْ نَـظَـرَ إلى ضمائر الشعوب ولامس متطلباتها ولبّى احتياجاتها كان بعيدًا منْ أنْ يثور الشعب عليه.. فيما أدّى التجاهل في الأنظمة الشيوعية المستبدّة لحقوق الشعب إلى الثورة العارمة التي رافقها مشاهد مؤلمة ومروّعة لمصارع الحاكمين المستبدين.

ثورة تدفن الطائفية المقيتة التي صنعتها حكومات الاحتلال:

من أعظم إنجازات ثورة تشرين العراقية، هو إسقاط الطائفية وقبرها في ساحة التحرير وكل ساحات الثورة، وأخذت حركة الثوار في التنقل بين ساحات الثورة في معظم المحافظات دون حرج.. وسقطت قداسة الحجب الطائفية المضللة والخادعة التي أثارت الأحقاد والضغائن والتمزّق والتقاتل بين أبناء البلد الواحد، والتي جيّشت أبناء البلد ضد بعضهم البعض، وأثارت بينهم النعرات الطائفية، وانتبه الشعب من غفلته، وعاد لوعيه المتّقد، بعد أنْ أسقطت الثورة الحُجب المضللة التي تم تمريرها تحت قداسة الشعارات الدينية، وغلّفتها بقداسة العمائم العميلة التي اتجهت بولاء الشعب لدولة محتلة، وتحريف التديُّن وتضييقه في أُطُر ضيّقة منزوعة الرحمة وفاقدة التراحم، فلم تَـصُـب تلك الحروب إلّا في مصالح الأعداء الحاقدين.. فكان "إسقاط الرهان الطائفي" من مرتكزات ثورة تشرين وشعارات مشروع التغيير؛ لأنه الرهان الكبير الذي يعوّل عليه لقطاء إيران وأمريكا في جر الثورة نحو التناحر الطائفي، فلم يفلحوا رغم كل محاولاتهم البائسة.

وسقوط الخطاب الطائفي أفلس كل السياسيين الفاسدين الذين كانوا يقتاتون على تأجيج التناحر الطائفي، وكانوا يعملون على إطالة آماد وجودهم والإبقاء على تصدُّرهم المشهد السياسي في البلد من خلال تأجيج الطائفية، وزرع الفتنة بين أبناء الشعب الواحد، في محاولة تغرير الشعب بأن وجودهم هو الذي يخدم ويدعم وجود مذهب معيّن.

أسبوع واحد كان كافيًا لقبر الطائفية التي حاول السياسيون زرعها وتجذيرها بين أبناء المجتمع العراقي، بل يوم واحد من وعي الجماهير الثائرة ضد الظلم والاستبداد والثائرة من أجل استعادة وطن كان جديرًا به أن يسقط كل الرهانات الطائفية، ويدحر كل التناحر الطائفي الذي أجَّجه السياسيون خُدَّام الاحتلال، فكان من لافتات الثورة التي أعلنت نصرها على مكر السياسيين وخبثهم لافتة "كلا كلا للطائفية" و"كلا كلا للطائفيين".. وكان السياسيون الفاسدون يعوّلون على الطائفية التعويل كله، لزرع الفتنة بين أبناء البلد الواحد، ويجعلوها مرتكزهم الركيز في إطالة آماد تسلّطهم على رقاب الشعب العراقي واستبدادهم في الحكم، ثم مرت شهور عدة على الثورة، والثوار يحافظون على تماسكهم ووحدتهم وعدم ظهور أي نبرة للطائفية.

وراعَ السياسيين الفاسدين، وأسقط ما في أيديهم، كيف أنَّ جهودهم الحثيثة والمتواصلة ومكرهم بالشعب طيلة (16) سنة، من إثارة الأحقاد التاريخية، وتأجيج النفس الطائفي، وزرع الأحقاد والضغائن بين أبناء الشعب الواحد، قد اندحرت وقبرت بظرف أيام معدودة من ثروة تشرين الواعية.

وبعد مرور بضعة شهور من شهر تشرين (2019)، وسقوط رهانات السياسيين وأحزابهم الطائفية وتعويلهم على الفتنة الطائفية بين المتظاهرين، وتصاعد حالة اليأس عند السياسيين وميليشياتهم من وقوع الفتنة الطائفية بين المتظاهرين، أخذوا يفتعلون الأحداث، ويرتكبون جرائم التفجير والقتل والاختطاف في محاولات لزرع فتنة تبادل الاتهامات بين المتظاهرين، بناءً على خلفياتهم الدينية والمذهبية والفكرية والإثنية فلم يُـفْــلحوا في شيءٍ من ذلك.. وعندما يئسوا من ذلك كله، أخذوا يقومون باغتيال واختطاف الناشطين البارزين في المظاهرات.

ولما قَـبَــرت الثورةُ طائفيتَهم، وتصاعَدَ الخطاب الوطني حتى طغى بشكل سريع على جميع المساحات الطائفية التي تمدّدوا من خلالها، وأعلنت الثورة عبر لافتاتها الواعية عن إلغاء الطائفية من العراق.. فقد أعلنت ثورة تشرين الانسحاب الكامل للهويات الجزئية الفرعية، وهزيمة الطائفيّين، وتشكيل الهوية الجامعة، لتكون قاعدة اجتماعية جامعة وموّحدة للثوار، وجامعة لكل جهودهم وتجييرها باتجاه التغيير.

والابتعاد عن الهويات والمسميات الطاردة للطاقات والمعطلة للجهود المجتمعية والسياسية، والاقتراب كثيرًا نحو الهويات الجاذبة، والمسميات الجامعة، والوصول إلى حالات الهوية المتجانسة، وقد ارتقت بمستواها الفكري حتى وصلت إلى الإطار الاجتماعي والزخم الثوري المتجانس الذي يجعل من عنوان العراق جامعًا لها، حتى وصلت إلى مرحلة رقي فكري يجمعه إطار ثوري سياسي واجتماعي يفرض على الجميع التزامات متبادلة، وصولًا إلى حالة التضامن الأهلي واجتماع الجهود وتظافرها نحو أهداف الثورة وتحقيق مشروعها في التغيير.. ولم تُـبْق الثورة للسياسيين الطائفيين الفاسدين ما يعوّلون عليه من إعادة البلد إلى مربَّعهم الخبيث؛ لأنَّ جميع الثوار بكل فئاتهم وطبقاتهم يشعرون تمامًا بأنهم قد هُـمِّشــوا طيلة (16) سنة، وأصبحوا مبعدين عن مركز النشاط السياسي وتداول العمل السياسي، بل الشعب كله قد حرم من أقل حقوقه.

السلمية.. وكسر السلمية:

من أبهى الصور الحضارية التي اتَّصفت بها ثورة تشرين العراقية، هي السلمية، ورفع لافتة السلمية مع أوّل انطلاقة المظاهرات، دون أنْ تنحرف عن مسار السلمية.. ومن اللافتات التي أكدت على السلمية: "سلميون حتى مطلع النصر" و"سلمية.. سلمية" و"بسلميتنا ننتصر على الطغاة" و"نهزمكم بسلميتنا".

والثوار يعلمون جيدًا مدى تأثير السلمية على مسار الثورة، وأن انتصار الثورة وتحقيق مشروعها يقوم على محافظتها على السلمية، وأن إفشال معظم مؤامرات المراهنين على إفشال الثورة، على انحراف الثورة عن مسارها السلمي؛ لأن شيطنة الثوار وإنهاء الثورة وإجهاض مشروعها يقوم على استدراجها نحو انحراف مسارها على السلمية.

ولذلك كانت محاولات الحكومة وقواتها والأجهزة المحاربة للثورة (قوات مكافحة الشغب) حاولت بكل جهدها وطاقاتها وخبثها أن تجر الثوار نحو المواجهة، عبر الهجمات المنظمة، وأعلنت الثورة إجهاض كل المحاولات الإجرامية التي تجر الثوار إلى عسكرة الثورة وجرها نحو الواجهة العسكري.. فأعلنوا لافتاتهم السلمية ورفضهم لكل عمليات القتل من أي طرف كانت، وتحت أي ذريعة كانت، فأعلن الثوار بأن: "القاتل لا يمثلني".. و"المتظاهرون لا يقتلون".

وقد قدّمت الثورة سِـلْــمِــيَّـتَـها بأكثر مما يُــنْـتَــظر منها، وأكثر مما يرجوه منها غيرها وحتى خصمها، وهي تعلم أنّ خصومها ومخالفيها والمحاربين لمشروعها في التغيير لن يمنحوها أفضل ما عندهم، بل هي تواجه أسوأ ما عند غيرها بأفضل ما عندها.. وهي السلمية والنضج والوعي والتعالي على الجراحات كي لا تتساوق مع الآلام لتجنح إلى المواجهة المسلحة.

إيران خارج العراق الجديد:

مع انطلاقة ثورة تشرين كانت إنجازات الثورة تترى وتتواصل وتتحقق على أيدي الثوار البواسل، وعُــدَّ ذلك من بوارق انتصارات الثورة، والمبشِّرة بتحقيق أهدافها، فكان من إنجازاتها انطلاقها بزخم كبير آخذ بالتصاعد، ووحدة مشروعها في أُسسه وأصوله ومرتكزاته الرئيسة في التغيير، ووحدة خطابها وجملة كبيرة من الإنجازات الرائعة، إضافة إلى انتصاراتها في وأد الطائفية ومواجهة المشروع الإيراني في الأرض والمساحات التي كانت إيران تراهن على أنّه من أقوى رهانتها.. حيث كان من بين أهم إنجازاتها؛ هو إعلانها عن طرد المشروع الإيراني، وإجهاض الحلم الإيراني بالهيمنة على العراق، وإخضاعه لتسلّطه واحتلاله.

وأعلنت الثورة لافتاتها الصارخة بوجه إيران وأطماعها، وهي تعلن بصوت واحد في كل ساحات ثورتها: "إيران بَـــرَّه بَـــرَّه.. بغداد تبقى حُــرَّة" وحققت الثورة منجزًا آخر وهي تعلن لافتتها هذه، وهو أنَّ الثورة كشفت عورة وفساد العقيدة الدينية التي سوّقتها إيران عبر مرتزقته السياسيين في العملية السياسية التي جاءت وفق مقاسات ومصالح الاحتلالين (الإيراني - الأمريكي) في العراق، ولذلك فإن الثورة حققت انتصارًا يحسب لها، وهو من عظيم إنجازاتها، وهي تعلن طردها لإيران ورفضها لكل ذيول إيران ومن يخضع لإيران، وكل من يريد أن يجر العراق وشعبه إلى التبعية لإيران وعقيدتها المحرفة.

فكانت الثورة تدلّل في فعلها الرافض لإيران، وإصرارها على إرسال رسائلها الواضحة لإيران حتى تفهم إيران أنها أصبحت خارج العراق، وعليها أن تُــخرج العراق من حسابات هيمنتها وتسلطها ونفوذها، وتلاعبها في مقدّراته وسياسته وكلمته وقراره، فالقرار والإرادة والكلمة والولاء والانتماء عاد للعراق والعراقيين فحسب، وأمّا مرتزقة إيران وخدّامها وعبيدها فمصيرهم المحاكمة على ارتكاب الجرائم الكبرى في الولاء إلى دولة أجنبية، وارتكابهم جرائم دولية في الولاء والخيانة والعمالة لدولة أجنبية، وارتكابهم جرائم انتهاك أمن الدولة الخارجي.

وقد أخذ ثوار تشرين يؤكدون طرد إيران من العراق، وأنَّ إيران عليها أن تغادر هي ومرتزقتها من العراق، وأخذوا يكررون إعلان لافتاتهم بهتافاتهم ضد إيران في أغلب أيام حراك ثورتهم المتواصل، ويستحضرون غضبهم ضد إيران حتى في بعض الممارسات الاعتيادية اليومية من المناسبات الرياضية والتعاملات الاقتصادية، وكلام العامة في مجالسهم، وفي الملاعب يرفع الثوار لافتاتهم: "آني العراقي آني .. أنعل أبو سليماني".. "إيران برّه برّه .. بغداد تبقى حرّة".

وأما الرسائل التي أرسلتها لافتة "إيران بَـــرَّه بَـــرَّه.. بغداد تبقى حُــرَّة" وأفعال الثوار الغاضبين ضد إيران وتاريخها الأسود في العراق، فقد عمد جميع الثوار، وثوار محافظات الجنوب على وجه الخصوص إلى مواجهة مشروع الهيمنة الإيرانية بأنفسهم وتضحياتهم.. فقد مزّقوا صور "علي الخامنئي" الولي الفقيه والذي حاول السياسيون الفاسدون أن يجعلوه "الراهب العظيم" المقدس الذي ترجع إليه جميع سياسات العراق، ولكن الثوار أحرقوا صوره وكل لافتة تحتوي على اسمه، وأحرق الثوار صور "الخميني" صاحب مشروع تصدير ثورة "الولي الفقيه" وتم إلغاء جميع الشوارع والساحات والمؤسسات التي تحمل اسم "الخميني، والخامنئي" إلى أسماء عراقية.. وتم إحراق أغلب القنصليات الإيرانية في النجف وكربلاء والبصرة، وفي النجف ومن شدة بغض الثوار لإيران وتأكيدهم في إرسال أشد رسائلهم إلى إيران وطغاتها فقد أقدم ثوار النجف على حرق القنصلية الإيرانية ثلاث مرات، وما زال ثوار النجف لم يشف غليلهم بعد.. وهذه من الرسائل المهمة التي أرسلها الثوار إلى إيران، بـأنَّ عليها أنْ تخرج هي وكل ذيولها من العراق.

وهذا ما فهمته إيران من خلال رسائل الثوار المتكررة بأنَّ الثورة تهدّد إيران وتهدد كل مشاريعها في المنطقة، وأنَّ زوال هيمنة إيران على العراق، وتسلّطها عليه واحتلاله؛ فإنّ ذلك منذرٌ بزوال هيمنتها في أغلب الدول التي تخضع لنفوذها وهيمنتها، وهذا ما ترفضه إيران المعروفة بعنجهيتها وغطرستها المتحجّرة.

الوعي المتكامل في لافتات الثورة وشعارات المنتفضين:

من اللافتات التي نشرها ثوار تشرين، والتي تعبِّر عن الوعي المتكامل في أغلب المناحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلى مختلف الصُّعد، وهم يؤكدون على أنَّ ثورتهم ثورة وعي وارتقاء، وثورة إدراك ويقظة ونهضة، وثورة تغيير وبناء.. وممكن أن يُــقال "الــثـــورة بلافــتـاتـِها".

ثورة تحيط بوعيها كل ما تحتاجه مراحل إعادة دولة إلى خريطتها، وإعادة شعب إلى حضارته الممتدة والموغلة في عمقها بآلاف السنين.. وإعادة أجيال إلى سموِّها الحضاري ومجدها التليد الضارب في أعماق التاريخ.. ولذا فهي تعي أنها في خضم معركة "استعادة الوطن" وبناء "عراق جديد" ومواجهة تحدّيات كبيرة وبذل تضحيات جسام، وهي تعي أنَّها في مرحلة مخاض ينتقل بها إلى ولادة عراق من بين ركام وتبعات ثقيلة، وأنَّ كل ذلك لن ولم يثنها عن تحقيق مشروع ثورتها في التغيير الناجز، وقد عبّرت الثورة على تكامل وعيها عبر شمولية لافتاتها وهي تواجه التحديات في معركتها على مختلف الصُّعد، وهي:

ــــ على الصعيد السياسي:

على الصعيد السياسي، برهنت لافتات ثورة تشرين بأنَّ من خرج من أجل التغيير في العراق، إنما خرج من أجل التغيير الشامل والجذري للعملية السياسية.. وأنَّ الثائر الذي التحق بالثورة وهو لا يقرأ ولا يكتب، تراه عندما يتكلم عن ثورة تشرين كأنه تخرَّج من كليات العلوم السياسية، فهو يعرف طريق ثورته ومراحلها وأهدافها، وأي تغيير يريد.

ويعلمون جيدًا أنَّ ثورتهم ستواجه تحدّيات كثيرة وكبيرة، ولذلك فإنهم حدّدوها بلافتاتهم، وحدّدوا الإجابات عليها من خلال لافتاتهم أيضًا.. ووضعوا في حساباتهم تحديد وتشخيص التحدّيات ومواجهتها، وهي:

  1. دولة عميقة موغلة في مفاصل الحكومة كلها، بكل أذرعها الإجرامية الحاكمة بقبضتها الحديدية، ومتغلغلة في دوائر الدولة كلها، وعلى الثورة أنْ تواجه كل هجماتها الإجرامية، وهذه الدولة لديها سلطة ومال وجيش وأسلحة وميليشيات أكبر من الدولة الظاهرة.
  2. طبقة سياسية حاكمة، مستبدة وإجرامية، مستفيدة من الغطاء الدولي الأمريكي والدعم الإيراني، وتأييد بعض الخاضعين لأمريكا، وسكوت الخائفين من إيران، في تنفيذ مختلف الجرائم ضد من يقف بوجه مصالحها ومصالح أحزابها،، وهي تستكثر على العراقيين أن يخرجوا للمطالبة بأقل الحقوق التي تحقق لهم العيش الكريم.. وتستكثر على الشعب أن يعيش بكرامة.
  3. احتكار وهيمنة السلاح وفرض إرادة من يملك القوة، فمن يملك السلاح والمال والسلطة.. وفرض الهيمنة بالقوة بكل أنواعها هي الحكومة المستبدة وأجهزتها القمعية.
  4. أحزاب سلطة وكتل ممثلة بالبرلمان وممثلة بالحكومة، توافقت على تقاسم مصالحها، واستحصال مصالح أحزابها، وتقاسم ثروات البلد فيما بينها، وهي متفقة على الوقوف جبهة واحدة ضد من يقف ضد مصالحها، ومن يحاول أن يزيلها من المشهد السياسي.. وأخبثها من يصرح في العلن وعبر أجهزة الإعلام بأنّه مع الثورة وأن مطالبها حق مشروع، ولكنّه في الخفاء يواصل الليل بالنهار في المكر والإطاحة بالثورة، والعمل على إنهائها.
  5. أحزاب وكتل مختلفة في العملية السياسية، توالي جهات دولية، وتمثّل توجهاتها ومصالحها داخل العراق، وتعمل على تنفيذ مشاريعها ضد البلد، وهي مدعومة من جهات دولية وتعمل على تنفيذ أجنداتها ومشاريعها.
  6. إيران ودخولها المعلن والمبيَّت والمخفي على خط مواجهة الثورة، فعلى الثورة أنْ تواجه أذرع إيران الداخلية والخارجية كلها؛ ففي الداخل لها جسد موازٍ للحكومة بكل مفاصلها، وهي تنتشر في كل مفاصل الدولة.. وأذرع إيران الخارجية ستنشط بشكل كبير بكل عمليات الاغتيال والتشويه والمواجهة إذا شعرت إيران أنَّ هيمنتها مهدَّدة بالخطر.. وعلى الثوار مواجهة استغلال إيران ودخولها على خط المواجهة.. وقد نزلت بحرسها الثوري، وأدخلت أسلحة ومعدات ومدرعات كثيرة، وانتشرت بأعدادها وأسلحتها، بشكل علني في أغلب محافظات العراق.
  7. محاولات الحكومة وأحزابها للالتفاف على العشائر وتجيير العشائر (مجتمع اللادولة) والتجمعات والمنظمات الموالية للحكومة، وتجييرها ضد الجماهير الغاضبة، وشراء ذممها لقاء تجييشها ضد ثورة الشعب العراقي.
  8. مراهنة الحكومة في جر الثوار إلى سيناريوهات خبيثة ومعدّة سلفًا، الغاية منها جر الثورة إلى مزالق خطيرة، ومحاولة زرع الفتن بين الثوار المنتفضين، كالطائفية، والتناحر، وزرع الخلاف.. أو افتعال تفجيرات إجرامية طائفية ضد مزارات ومشاهد وأضرحة، وتوجيه الاتهام للمتظاهرين.
  9. محاولة الحكومة في استخدام الشارع ضد الشارع، وتجيير أنصارهم مقابل الثورة، وصنع التظاهرات المضادة، وهذا لم تفلح به، فقد حاول أنصار "نوري المالكي" بكل ما يملكون من مال ونفوذ من تحشيد مظاهرة، وحاولوا تجميعها قرب "مول النخيل" في شارع فلسطين، والانتقال بها للدخول واجتياح ساحة التحرير، فلم يستطيعوا أنْ يجمعوا إلّا بضعة عشرات، بعدد لم يتجاوز الـ(150) شخصًا.. وشعرت الحكومة بأنّها فشلت في مواجهة الثورة، وقد علمت أنَّ رهانها قد سقط، بمقابل زخم الثورة ووعي الثوار، وأنَّ الشعب قد تجاوزهم إلى تحقيق ذاته واستعادة بلده، بزخم شبابي لا تردّه كل التحدّيات، بمقابل انهيار جمهورية الرعب والقنص التي صنعوها بين أتباعهم الذين تنصّلوا عنهم رغم كل المغريات التي قدّموها لهم.
  10. محاولة ركوب موجة المرجعية، وتجيير اسمها كعنوان مواجه للثورة، وقد جيّش "عمار الحكيم" مظاهرة أنفق عليها ملايين الدولارات، ودخلوا فعلًا بأعداد كبيرة، قبضت الثمن، ودخلوا يردّدون شعارات طائفية، واستخدموا صور المرجعية (الشيعية) وكانوا يراهنون على استثارة الثوار كي تحدث مواجهات ومشاجرات بينهم وبين الثوار، وكان الثوار منتبهين وواعين لهذه الخطوة وخبثها، فتجاوزوها، ومكث أتباع "الحكيم" لساعات في ساحة التحرير، ثمّ ما لبثوا أن تبخّروا منها، لشعورهم بأنَّ وقوفهم بمقدار ما دفع لهم من المال.. فخاب سعي الطائفيين.
  11. 11-         تحديات تصاعد عمليات الاغتيال والاختطاف والاعتقال التعسفي، وهذا كله يرتكب ضد الناشطين الفاعلين والمؤثرين في ثورة تشرين.. وقد تعرّض الثوار إلى عمليات إبادة جماعية، وأنّ القوات الحكومية وميليشيات أحزاب السلطة ارتكبت مجازر إبادة وجرائم حرب ضد المدنيّين، كما في مجازر الإبادة الجماعية في (مجزرة الناصرية (90) شهيد وعشرات الجرحى - ومجزرة كربلاء (37) شهيدًا وعشرات الجرحى - ومجزرة الخلاني (70) شهيدًا وعشرات الجرحى -  ومجزرة النجف (17) شهيدًا وعشرات الجرحى).
  12. وقد أكّدت تقارير المنظمات الدولية مثل (منظمة العفو الدولية) و(منظمة هيومن رايتس ووتش) بأنّ القوات الحكومية والأجهزة الأمنية الحكومية وقوات مكافحة الشغب كانت متواطئة بشكل مفضوح في كل الهجمات التي استهدفت ساحات الثورة في بغداد والمحافظات.
  13. محاولة استنزاف الثورة والثوار من خلال القتل والاغتيال والهجمات المتعمّدة والاختطافات القسرية، وقد قدّمت الثورة خلال شهرين فقط من انطلاقتها المباركة في (1/10/2019) أكثر من (1000) شهيد، وأكثر من (22000) جريح، بينهم (5000) إعاقة دائمية، وأكثر من (5000) مختطف ومعتقل.. وقد تصاعدت عمليات الاغتيالات والتصفيات ضد الثوار؛ فقد شهدت ثلاثة أيام من عمر الثورة، من تاريخ (16- 18 /12/2019): (اغتيال (23) ناشطًا، واختطاف (300) من الناشطين.. كما أن القوات الحكومية لم تتورع من اغتيال واختطاف الناشطات من النساء وطالبات المدارس والكليات، دون رادع من دين أو خلق كريم أو ضمير إنساني، وهذا من إجرامهم وشعورهم بالانهزامية واقتراب نهايتهم على أيدي ثوار تشرين.
  14. عودة ظاهرة الاغتيالات التي تكشف عن دوافع طائفية، وبعمليات اغتيال رموز من مذهب معيّن لإعطاء شعور بأنَّ هناك دوافع انتقام طائفي وراء تلك العمليات الإجرامية، وهذه بالذات تكشف كل الأيادي الخبيثة التي كانت تغتال الأبرياء لتظهرها بأن أيادٍ طائفية هي التي تقتل.. وهذه من رهانات السياسيين المجرمين وميليشياتهم الخبيثة؛ كي تزرع الفتنة بين الثوار، وتزعزع زخم ثورتهم، وهي لعبة باتت مكشوفة ومفضوحة.

ــــ وعلى الصعيد الاقتصادي:

فمن ساحات التحرير والثورة العراقية الواعية انبثقت لافتات تشجيع المنتج العراقي "اشتري عراقي" و"شجع المنتوج العراقي" و"اشتري صنع في العراق" وأنَّ الكثير من ساحات الثورة شجّعت الكثير من المصانع العراقية وحتى المصانع الحكومية، أنْ تعرض منتجاتها في ساحات الثورة، وأعاد الحراك الجماهير الثوري الواعي الأمل بأصحاب المصانع بعودة العراق إلى الانطلاق بثورة صناعية ترادف ثورة التغيير الخلّاقة.

والملاحظ أنَّ سهم تداول المنتجات العراقية أخذ يرتفع بشكل لافت للنظر، وأنَّ لافتات وهتافات الثوار وهي تصدح "شجِّع المنتوج الوطني".. و"ادعم المنتوج الوطني".. و"ادعم الصناعة الوطنية".. و"صناعتنا فخرنا".. و"صنع في العراق".. و"زُرِع في العراق".

ومقاطعة البضائع الإيرانية "خليها تخيس" و"قاطعوا البضائع الإيرانية" حتى وصل الأمر بالبضائع الإيرانية بأن تكون مبتذلة ولا تمتد إليها الأيدي العراقية بالشراء، ويشعر الثوار والعراقيون جميعًا أنَّ هذا الأمر جزء مهم معركة مواجهة إيران، وإنقاذ العراق من هيمنة واحتلال إيران.

والعراقيون عدّوا ذلك من قبيل نصرة الثورة العراقية، والوقفة المطلوبة من كل عراقي بأنْ يقف مع ثورة أهله وشباب العراق، وهذا أقل ما يقدّمه من لم يخرج في ساحات الثورة العراقية.

ــــ وعلى الصعيد الاجتماعي:

فقد ارتقت أخلاق الشباب فيها، وتركت سفاسف الأمور، ونقلت جيل الألعاب الإلكترونية، جيل اللهو والضياع، إلى جيل الفهم والوعي، وجعلت منه جيل تضحية وإقدام.. وأنّ ثوار تشرين العراقية يعون جيّدًا بأنَّ ثورتهم تحتاج إلى جيل أشم يعاف الأخلاق الهابطة، ويرتقي بسلوكه ليكون بمستوى المسؤولية والمواجهة المقبلة الحاسمة.

وقد انتهت الكثير من الظواهر اللاأخلاقية في أغلب محافظات العراق، وقد سجّلت الكثير من مراكز التحليل السياسي والاجتماعي حالة ارتقاء بأخلاق الشارع العراقي، كما أنها أشّرت اختفاء ظواهر التحرّش اللاأخلاقي وتعاطي المخدّرات وغيرها.. وما يحدث في تلك المحافظات من إخلال بالأمن، أو سلوك مهين، فهو من المؤكد من أفعال عصابات السياسيين المستأجرين لتشويه الثورة، والطعن بثقافة وأخلاق وسلوك الثوار.


(([1] باحث وخبير استراتيجي.

(([2] كاتب وباحث وعضو هيئة تحرير مجلة حضارة.

مقالات اخرى

Melbourne Web Design & Development
menu-circlecross-circle linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram