حوار مطوَّل مع الكاتب والمفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة – حفظه الله-

26 يوليو, 2021

نبذة عن سيرة الدكتور محمد عمارة:

واقع الأمة:

حضارة: كيف تنظرون لواقع الأمة اليوم في ظل النوازل التي تمر بها؟

د. محمد عمارة: أنا أنظر لواقع الأمة بأننا نعيش مأساة لا أقول: إنه ليس لها مثيل في التأريخ، إنما هي إحدى المآسي التي عاشتها الأمة عبر تاريخها الطويل، لكن هذه الأمة مرت بمحن ومآسي أشد من هذه المأساة التي نعيش فيها الآن، وأنا ضمن دراساتي ومشروعي الفكري كانت لي إطلالة على التأريخ ومنه تأريخ هذه الأمة وقرأت عن محنٍ عاشتها الأمة أشد بكثير مما تعيشها الآن، ولقد رأينا حروباً صليبية امتدت لقرنين، ورأينا غزوة تترية دمّرت البلاد والعباد، ورأينا الحركة الصهيونية وماذا صنعت بفلسطين، والاستعمار والامبريالية في العصر الحديث في القرنين التاسع عشر والعشرين، وجاءت على بلادنا محن سواء العسكرية منها أو غزو فكري أو تسلّط من التيار الذي صنعه الغرب على عينه، والنخب التي ضُرِبَت عقولُها في مصانع الغرب الفكرية، رأينا محناً كثيرة.

والآن.. الأمة تدرك أن خيارها في الإسلام، وهذه يقظة وهذا وعي مهم جداً في المرحلة التي نعيش فيها، وأنا لست متشائماً حتى من الناحية الزمنية لعمر هذه المحنة التي نعيش فيها؛ لأن الآخر الحضاري (الغربي والامبريالي) والذي يرعى هذه المحنة والذي يركّز الآن لمنع المشروع الإسلامي، مشروع التغيير الإسلامي، يعيش مرحلته الأخيرة، وربما يكون كلامي هذا غريباً عند البعض، وأنا فرغت أخيراً من كتاب عن ظاهرة "الإسلامفوبيا.. الجذور التأريخية والنهايات المنتظرة".. عندما ندرس الواقع الذي نعيش فيه نجد أن (الإسلامفوبيا) والعداء للإسلام ليس في الغرب فقط وإنما داخل العالم الإسلامي؛ لأن العداء للإسلام موجود في داخل العالم الإسلامي، ونحن نجد أن المساجد تغلق وفضائيات إسلامية تغلق وعشرات الألوف في السجون والمعتقلات، وكل هذه المحنة للمشروع الإسلامي تصاحب خلخلة في المشروع الغربي، وأضرب بعض الأمثلة؛ ونحن في قمة المد الإستعماري الامبريالي مثلاً تجد فرنسا قد احتلت الجزائر سنة (1830 م) واحتفلوا سنة (1930 م) بمرور مائة سنة على احتلالهم للجزائر، وقالوا في هذه الاحتفالات المجنونة:" نحن لا نحتفل بمرور قرن على وجودنا في هذه البلاد، فلقد سبق للرومان أن عاشوا ثلاثة قرون ثم أُخرجوا، إننا نحتفل بتشييع جنازة الإسلام في الجزائر"، وإنهم يحتفلون أيضاً بأن الفائض البشري في أوربا سيكون استعماراً استيطانياً في الجزائر وأن العرب سيدفعون إلى الصحراء ليَفْنوا هناك.. وهذا عام (1930)، والآن الذي تُشَيَّع جنازته ليس الإسلام، فالمسيحية في فرنسا نجد أن الذين يُصلون الجمعة من المسلمين في فرنسا أضعاف الذين يذهبون إلى قداس يوم الأحد، والذين يؤمنون بوجود إله في أوربا أقل من (14 %) حتى ولو لم يعبدوه، و (75 %) من الكاثوليك في أوربا لا يتبعون تعاليم المسيحية، وفي إنگلترا التي تعد فيها الملكة هي رئيسة الكنيسة نجد التصريحات تعد للكنيسة وليس للدين سلطات ولا سلطان على الناس، والدراسات الإنگليزية تقول: إن بعد سنوات سيكون الملتزمون من المسلمين في انگلترا أكبر من الملتزمين الانجليكانيّـيـن، والحضارة الغربية التي صراعها تاريخي مع الشرق حتى قبل الإسلام، نجد عندهم أن الجنس الأبيض من (1915) كان نسبته (28 %) من سكان العالم، وهم الآن (18 %) من السكان؛ لأن الزواج المثلي "شذوذ"، وانهيار الأسرة، والعلمنة نزعت القداسة عن الأسرة، ونسبة الوفَيات في أوربا أعلى من نسبة المواليد، وألمانيا الآن أكثر البلاد ترحيباً باللاجئين والمهاجرين؛ لأنها تريد أيدي عاملة للمصانع الرأسمالية؛ رغم العداء للإسلام ورغم "الإسلامفوبيا"؛ لأن نسبة الوفيات في ألمانيا أعلى من نسبة المواليد، والمسلمون في ألمانيا (3 %) ومواليدهم (10 % ) من المواليد، وفي بلجيكا (بروكسل) من الاتحاد الأوربي يكاد أن يكون فيه اسم "محمد" الأكبر بين نسبة المواليد، وأخيراً اسم "محمد" في إسرائيل سبق اسم "ناعوم" الذي هو المفضّل عند "الإسرائيليين".

أنا أنظر إلى اللوحة ليس فقط في جانب المأساة التي نعيشها، وإنما في جانب صُنّاع المأساة في الحضارة الغربية، فهم في حضارة نجد فيها أن العلمنة قتلت الدين وهمّشت المسيحية، ولذلك فالذين يهتفون في المظاهرات في أوربا ضد الإسلام ليس لديهم البديل، فما هو البديل عندهم؟ فالعلمنة هي الكأس المسموم الذي شربته أوربا، ولذلك فهم الآن يجاهدون ويجتهدون لنشرب نحن الكأس المسمومة نفسه ونتخلى نحن عن المشروع الإسلامي.

ولذلك أنا رأيي أن الخروج من المأساة هو بالوعي الحضاري، وأن نعض بنواجذنا على مشروعنا الإسلامي؛ لأنه هو البديل على النطاق العالمي؛ فليس هناك بديل آخر، والإسلام يُـهاجَـم بضراوة وهو الدين الوحيد الذي يُـهاجَـم بضراوة؛ لأنه هو الدين الوحيد الذي يُقدِّم بديلاً حضاريًّا وهو الدين الوحيد الذي ينتشر بشكل سريع، ونحن فقط نريد ترتيب العقل المسلم لترتيب البيت المسلم.

النتاج الفكري

حضارة: سيرتكم ومسيرتكم العلمية غزيرة وحافلة بالإنجازات، ما آخر نتاجاتكم وإنجازاتكم الفكرية؟

د. محمد عمارة: أنا في الفترة الأخيرة كان عندي أنجاز في أربع سنوات الذي هو مجلة الأزهر التي تحوّلت إلى منبر أقلق الشرق والغرب، وقدمتُ معها خمسين كتاباً منتقاة تُكَوِّن عقلاً مسلماً أصوليّاً ومستقبليّاً في الوقت نفسه، وكانت تجربة غير عادية بالنسبة لمجلة الأزهر، وهي مجلة عريقة لها أكثر من (85) عاماً، وعندي مشاريع فكريّة كنت توقّفتُ عن إنجازها عندما تولّيتُ مسؤولية مجلة الأزهر، لأنني أعطيتها كل حياتي وكل جهدي، ولكن فرغت ـ بعد أن تركت المجلة ـ من كتاب عن فقه الربا والمعاملات المالية في تراثنا القديم والحديث والمعاصر، وهو الآن تحت الطبع، وأواصل أيضاً نشر سلسلة الكتب التي كنت قد اخترتها لمجلة الأزهر، أصدرنا بعضاً منها في دار الفكر العربي، ويعضاً منها في دار البشير، وعندي أيضاً تحت الطبع كتاب، الذي هو "ظاهرة الإسلامفوبيا.. الجذور التأريخية والنهايات المنتظرة"، وكتاب عن "العلمانية في ميزان الإسلام"، وكُتَيِّب صغير عن "الإيمان والإلحاد" لأن الآن من المخاطر التي نواجهها هو خطر الإلحاد، وبعض الدراسات عن الغرب والإسلام للتوعية بالمشروع الحضاري الإسلامي، هذه بعض الإنجازات الأخيرة التي تصدُر قريباً إن شاء الله.

المشروع الفكري

حضارة: مشروعكم الفكري قام على أسس ومعالم.. هلاّ حدثتمونا عنها؟ وما الرسالة التي يحملها؟

د. محمد عمارة: الرسالة تتلخص في أن الخيار الحضاري هو الخيار الإسلامي، والخيار الإسلامي فيه ثوابت وفيه متغيرات، الثوابت لا مشكلة في التعامل معها؛ فالكتاب والسنة والمنهج الإسلامي في التفكير وملامح التراث الإسلامي التي هي ثوابت، فيما يتعلق بوحدة الأمة، فيما يتعلق بمقام العقل في الفكر الإسلامي، وفيما يتعلّق بِـقَسَمة العدالة الاجتماعية في الإسلام، وفيما يتعلق بمبدأ الشورى، فهذه المعالم كان التركيز في المشروع الفكري على تسليط الأضواء على هذه الثوابت، وهو ما يعني بالنهج الإسلامي في التفكير في الجمع فيما بين فقه الواقع وفقه الأحكام، والجمع بين دوائر الانتماء الوطنية والقومية والإسلامية والإنسانية، وهو ما يعني تقديم الإسلام كمنهج حضاري وخيار حضاري صالح لإخراج الأمة مما حدث لها في فترة الامبريالية والغزو الفكري، وهو التأكيد على أن الإسلام ليس مجرد دين وليس مجرد شعائر وعبادات، إنما هو دين ودنيا، فرد وطبقة وأمة، ذات وآخر، وأوطان وقوميّات ومحيط، يجمع الجزر القومية واللغوية.. هذا الخيار الحضاري الذي جعل هذه الأمة العالم الأول على ظهر هذا الكوكب، لأكثر من عشرة قرون؛ المشروع الفكري يريد أن تعود الأمة بهذا الخيار لتكون العالم الأول على ظهر هذا الكوكب؛ لأن الحضارات في العالم بدأت شرقية، ثم انتقلت إلى الإغريق واليونان والرومان والبيزنطيين، ثم ظهر الإسلام فعادت قيادة الحضارة إلى الشرق مرة أخرى، ثم غفا الشرق فانتقلت قيادة الحضارة إلى الغرب مرة أخرى.

فالمشروع الفكري يستهدف بعث أمة لتكون هي العالم الأول على ظهر هذا الكوكب، لأنها كانت هي العالم الأول لعشرة قرون، بينما الغرب عمره كعالم أول ـ بالسلاح والحرب ـ كان على مدى قرنين من الزمن؛ فهذا الوعي الحضاري والفكري يكاد يكون روحاً سارية في المشروع الفكري الذي توفّرت عليه.

وهذا المشروع الفكري لابد وأن يكون له ملامح؛ ماذا يعني في العدل الاجتماعي؟ وماذا يعني في الشورى؟ وماذا يعني في وحدة الأمة؟ وماذا يعني في الوعي بالتأريخ؟ وماذا يعني في العلاقة بالآخر؟ وماذا يعني في السماحة وحقوق الإنسان؟ وماذا يعني في قضية المرأة؟ .. كل هذه مفردات كانت مراعاة في المشروع.

أيضاً هذا المشروع الفكري كان في جانب كبير منه استجابة للتحدّيات، فالإنسان منّا تكون له أفكار كثيرة لكتب كثيرة لكن ترتيب الأولويات تفرضه التحدّيات التي تواجه الأمة، فأنت عندما يعلو صوت الإلحاد فلابد من أن يكون في المشروع الفكري الاهتمام بهذا الإلحاد، وعندما تكون العلمانية هي بؤرة الخطر لإزاحة الإسلام والمشروع الإسلامي فلابد أن يكون هناك اهتمام، فالذي يحدد أولويّات المشروع الفكري وجدول أعمال المشروع الفكري هي التحدّيات التي تمر بها الأمة.. إذن هذه عبارة عن ملامح لهذا المشروع أو الاطلالة على هذه الملامح.

نهضة الأمة

حضارة: ما المنهج والآليات لإعادة نهضة الأمة لبنائها الحضاري؟ أو ما عوامل النهضة للأمة وآفاق بنائها الحضاري؟

د. محمد عمارة: هذه مساحتها كبيرة، لكن أنا أقول: إن المنهج الإسلامي ـ وأنا كتبت عن معالم المنهج الإسلامي وعن الوسطية الإسلامية وعن العقلانية الإسلامية وعن نظرية الاستخلاف الحضاري والإنساني وعن الرؤية القرآنية لهذه الأمور ومذهب الإسلام في التعامل مع الثروات ومع الأموال ـ فهذا بحر واسع.. إنما أقول: إن هناك ثوابت في التفكير الإسلامي في فقه الواقع وفقه الأحكام، فالغرب قد انقسم في علاقة الفكر بالواقع إلى ماديّة ومثالية، والبعض منهم يرى أن المادة والواقع هي التي تُثمِر الفكر، والبعض يرى أن الفكر هو الذي يُثمِر الواقع، إنما نجد أن الإسلام عنده فكرة الجدلية بين الفكر والواقع؛ فالوحي كان ينزل وفي الواقع تتفجّر مشكلات وأفكار وفروع وثقافات ومدنيّات وأشياء من هذا القبيل، وفكرة فقه الواقع كنقطة بداية والبحث عما لهذا الواقع من حلول، ولعلامات الاستفهام عن إجابات في الأحكام والجدل فيما بين الفكر وما بين الواقع، والجدل فيما بين الوحي وما بين الواقع الذي يعيشه المسلمون، والتمييز فيما بين الثوابت التي هي أرض مشتركة بين الأمة كلها وما بين المتغيّرات؛ ولذلك نجد أن الشريعة ثوابت والفقه متغيّرات وفروع، ونجد أن العقيدة ثوابت والسياسة فروع، وكل هذه المناهج في التفكير الإسلامي حلّت الإشكاليّات التي هي الثنائيات المتناقضة في الفكر الغربي، والكهانة الموجودة في الكنيسة وفي نظرية الإمامة عند الشيعة وهذه كلها مناهج في التفكير، والعلاقة فيما بين الذكور والإناث والمرأة والرجل، والعلاقة فيما بين مِلكيّة الرقبة لله سبحانه وتعالى وملكية المنفعة والملكية الاجتماعية بالنسبة للإنسان، والعلاقة فيما بين الوطنية والقومية والدائرة الإسلامية "الجامعة الإسلامية"، والعلاقة فيما بين اللغة العربية التي هي اللغة الأم (لغة القرآن) وما بين اللغات التي يكون تعدّدها سُنّة من سنن الله، في تعدّد الألسنة واللغات، كل هذه هي ملامح في المنهج الإسلامي في التفكير، وهي تناثرت في الكثير من الكتابات التي وفّق الله لإنجازها في السنوات الماضية.

وحدة الأمة

حضارة: من مقومات البناء الحضاري للأمة وحدتها، ما السبيل إلى ذلك؟

د. محمد عمارة: السبيل أن نُدرك أن وحدة الأمة لا تلغي التنوّع ـ وأنا كتبت كتابًا كبيرًا عن الإسلام والتعدّدية، التنوّع والاختلاف في إطار الوحدة، وهذه تحل الإشكالية؛ فأي فرد في أي وطن من الأوطان يكون وطنيّاً إلى النخاع، ويكون قوميّاً والدائرة القومية التي أعنيها ليست عنصراً وليست جنساً وليست عرقاً وإنما هي اللغة، فالدائرة هنا هي اللغة؛ فأنا مصري وأعتز بالحضارة المصرية منذ جذورها التأريخية وأٌحْيي الملامح الطيّبة في هذا التراث المصري، وأنا عرّبني الإسلام فلغتي تمثل الدائرة الثقافية التي هي الدائرة القومية، وأنا مسلم فانتمائي إنما هو للدائرة الإسلامية وللمحيط الإسلامي وللجامعة الإسلامية، وأنا إنسان لي علاقة بكل البشر لأن التكريم في القرآن وفي الإسلام لكل بني آدم.

إذن فكرة وحدة الأمة هي تجمع بين الوحدة والتنوّع، والتنوّع قَسَمةٌ أساسية في الاختلاف؛ ولذلك نجد آداب الاختلاف، وفقه الاختلاف، ونجد التنوّع الوطني والقومي في الإسلام، وأنا أشبِّه الوحدة الإسلامية بمحيط يحتضن الجزر القومية والكيانات الوطنية، فبالتالي هناك وحدة وهناك تنوّع في هذا، ولذلك حتى الخلافة الإسلامية في عز ازدهارها لم تكن دولة مركزية بالمعنى المتعارف عليه في الفكر السياسي، إنما كانت إطاراً جامعاً لهذه القوميات ولهذه الأطر، وازدهرت فيها اللغات المختلفة مع الحفاظ على مركزية اللغة العربية؛ لأنها لغة القرآن، وتنوّع فيها الفقه مع وحدة الشريعة، وكان المسلم يخرج من المحيط إلى المحيط وهو يعيش حياة إسلامية ويحيى بين أمة إسلامية تتعدّد لغاتها وثقافاتها الفرعية وانتماءاتها، ولذلك نحن نقول الآن للذين يحيون العنصريات والقوميات ويجعلونها سدّاً مانعاً ضد الوحدة الإسلامية، أقول للأمازيغي: أيهما أفضل أن تكون مواطناً أمازيغياً في "كانتون أمازيغي"؟، أم أن تكون مواطناً من المحيط إلى المحيط.. وتفتح أمامك كل الأبواب؟ وأقول للقبطي: أيهما أفضل أن تكون في "كانتون قبطي"؟ أم أن تكون مواطناً في أمة من غانا إلى فرغانة ومن حوض نهر الفولغا إلى جنوب خط الاستواء؟ وأقول للكردي الشيء نفسه، وأنا عندما يأتونني الشباب الأكراد يتعلمون في مصر أقول لهم: أنا ولدت في قرية كان فيها عائلة "الضالعي" من الضالع في اليمن، وكان فيها عائلة "الإزميرلي" من إزمير في تركيا، وبجوار قريتنا قرية الكرد وهي للأكراد، وعندنا "عِزبة الأرانطة" من أرناؤوط، فأسماء العائلات في مصر "أممية" قبل أن تعرف أوربا الأممية الطبقية، أو أن تعرف الأممية العرقية.. فتجد عندنا عائلة الحجازي وعائلة البغدادي، وعائلة الموصلّي، وعائلة الشامي، وعائلة الحلبي، وعائلة البيجاوي، وعائلة الجزائري، وهنا الوحدة عرفت التنوّع؛ ولذلك في إطار الإنسانية ـ فنحن عندنا أن الإسلام قد جعل الإنسان -مطلق الإنسان- لكن هذا الإنسان المطلق له انتماءات دينية وعقدية وحضارية وثقافية إلى آخره ـ لذلك أنا أنظر لهذه الوحدة أنها مبنية على التنوع على الاختلاف على التعدّد وليس على الاختلاف والتناقضات التي ترفض الآخر وتُقصي الآخر، ليس صدفة ولا غريباً أنه في إطار هذه الوحدة الإسلامية جمعت الديانات المختلفة؛ وجمعت الفلسفات المختلفة، وجمعت المذهبيات المختلفة، لأن المسيحي في بلادنا هو مسيحي ديناً ولكنه "مسلم حضارة"، وهذه الكلمة لـ"مَـكْـرَم عبيد باشا" وهو كان قائداً من قادة (ثورة/ 19) وكان يقول: "أنا مسيحي ديناً ومسلم وطنًا"؛ لأن الحضارة هي إطار جامع، ولذلك فالحضارة العربية والحضارة الإسلامية هي جامعة لكل الديانات رغم أن طابعها الحضاري هو طابع إسلامي، وحتى عندما نتحدّث عن المسيحيين في مصر وفي البلاد العربية، نقول لهم: الشريعة الإسلامية هي قانونكم، والمسيح قال لكم: دعوا ما لقيصر لقيصر، فعندما يكون القيصر مسلماً تكون الشريعة مسلمة، وكلمة "شريعة" لم ترد في الإنجيل ولا مرة واحدة، ووردت في العهد القديم (69) مرة؛ فأنتم شريعتكم هي الشريعة الإسلامية، والبديل للشريعة الإسلامية هو قانون "بونابرت" وهو قانون "نابليون" الذي جاء يقهرنا جميعاً، وليست هناك شريعة مسيحية هي البديل للشريعة الإسلامية.

إذن البعد الحضاري والقَسَمة الحضارية جامعة لكل الديانات ولكل المذاهب، وفيها تزدهر الثقافات الفرعية، وانا أقول للأكراد هذا الكلام، وأقول لهم: تكلموا بالكردي وغنوّا بالكردي وارقصوا بالكردي وكل هذا ليس ممنوعًا، أما أن يكون لدينا كيان كردي تتخرّج في مدارسه وجامعاته آلاف لم يقرأوا حرفاً من لغة القرآن ليس ملائماً لتاريخ الأكراد وصلاح الدين وإلى آخره.

إذن فكرة الوحدة مع التنوّع والتعدّد هي التي نريد ان نسلِّط عليها الأضواء؛ لكي تزدهر الوطنيّات في إطار الوحدة الإسلامية، ولكي تزدهر القوميّات في إطار الوحدة الإسلامية، ولكي تزدهر الفلسفات والمذاهب وكل هذا التنوّع في إطار وحدة الشريعة ووحدة الحضارة.

وأنا أقول: إن الإسلام جمع الأمة على جوامع خمسة:

1 ـ وحدة العقيدة.

2 ـ وحدة الشريعة.

3 ـ وحدة الأمة

4 ـ وحدة الحضارة.

5 ـ تكامل دار الإسلام.

هذه الجوامع الخمسة التي جمع الإسلام عليها، وفي إطار هذه الجوامع تتنوّع كل ألوان الطيف، وتزدهر كل الزهور، في هذا الإطار الجامع، فنحن لا نريد وحدة تقتل التنوّع، ولا نريد تنوّعاً ينفي الوحدة، فهذه هي الرؤية لقضية الوحدة.

العقلية الإسلامية

حضارة: لصياغة وإعادة تشكيل العقلية الإسلامية المتزنة الرشيدة طرق ووسائل، ما هي برأيكم؟

د. محمد عمارة: إن ما يسمّى بالأصالة المعاصرة، ونحن نسمّيها بـ"الأصولية والمعاصرة"؛ لأن الأصولية مصطلح أسيئ فهمه في بلادنا بناءً على الفهم السيّئ الذي كان له في الغرب، فمصطلح الأصولية كان في الغرب عبارة عن الحَــرْفية والجمود ونفي العقلانية والتطوّر والتقدّم وغيرها، ونحن عندنا أن الأصولية هي الحركة العقلية التي تجلّت في علمي (أصول الفقه وأصول الدين)، ولذلك فالأصولية عندنا شرف نتعلّق به، وأنا أمازح بعض العلمانيّين وأقول لهم: إننا نحن أصوليّون؛ لأننا لنا أصل وأنتم لا أصل لكم، يعني (قليلي الأصل) كما يقال، فنحن نرتبط بأصولنا الفكرية والعقديّة ونعيش عصرنا ونستشرف مستقبلنا..وأنا رأيي أن هذه البُوصلة لتكوين العقل المسلم، بأن يكون هذا العقل أصوليّاً يستشرف المنابع الجوهرية والنقية التي جاء بها الإسلام، فيفهم تاريخه وحضارته وفلسفاته ومذاهبه، ويفقه واقعه الذي يعيش فيه، ويستشرف مستقبله وهو في كل هذا يُدرِك العلاقة مع الآخر تاريخيّاً وحاليّاً ومستقبلاً.

فأنا عندما أتكلّم عن الوحدة والتنوع أراها ليس فقط في الإطار الإسلامي وإنما في الإطار العالمي، فنحن نريد أن يكون هناك آخر؛ لأن وجود الآخر ووجود التنوّع ووجود التعدّد على النطاق العالمي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهذه سنن من سنن الله سبحانه وتعالى:﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ [سورة هود: من الآية 118].

إذن نحن نريد للعقل أن يكون عقلاً أصوليّاً، وأن يكون عقلاً تاريخيّاً يفقه التأريخ، وأن يكون عقلاً يفقه الواقع ويستشرف المستقبل، ونحن في تكوين العقل المسلم عندنا منهج سنّه لنا الرسول (صلى الله عليه وسلم)، والعقل الغربي يفقه التقدّم كخطّ صاعد باستمرار ويفهم التخلّف كخطٍّ هابط باستمرار، أمّا المنهج الإسلامي فيفهم فكرة الدورات (سنة الدورات) وسنة التداول، ولذلك في حديث لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ـ وأنا أحياناً أتمنّى أن أجد طالباً من طلاّب علوم الحديث يجمع أحاديث المنهج، فنحن عندنا فقر في الفكر المنهجي رغم أن الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي تميّز عن الفكر الغربي فالغرب اهتم بالتأليف بالمنهج، ونحن عندنا علماؤنا في كل علومهم كانوا يتحدّثون عن المنهج في ثنايا بحثهم وفي ثنايا كتاباتهم وفي ثنايا مؤلفاتهم وموسوعاتهم ـ فحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "لا يلبث الجَـوْرُ بعدي إلا قليلاً حتى يطلع فكلما جاء من الجور شيء ذهب من العدل مثله، حتى يولد في الجور من لا يعرف غيره ثم يأتي الله تبارك وتعالى بالعدل، فكلما جاء من العدل شيء ذهب من الجور مثله حتى يولد في العدل من لا يعرف غيره"[1]، وهنا نرى فكرة الدورات وفكرة التداول ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [سورة آل عمران: جزء من الآية 140]..

وهذا المنهج في التفكير هو مانع من اليأس والقنوط، لأنك أنت في ظل الأزمة التي نعيش فيها الآن إذا كنت تؤمن بمنهج الدورات فهذه ليست نهاية التأريخ، والكلام الذي كتبوه عن نهاية التأريخ هذه أكذوبة من أكاذيب الغربيين، وإنما هذه محنة تزول، وعندما ترى تاريخ هذه الأمة والمحن التي مرت بها هذه الأمة تُدرِك فكرة الدورات وفكرة التداول وفكرة التوالي، فهناك نهوض ثم يعقبه تراجع ثم يعقبه نهوض، فهذا مانع من اليأس ومن القنوط الذي يُزرع الآن عن طريق الإعلام وعن طريق الثقافات المغشوشة، لذلك فأنا هنا أقول: إن هذا منهج في التفكير يجعل لنا وعياً بالتأريخ، وأنا كتبت عن الوعي بالتأريخ، فهناك فارق بين قراءة التأريخ وبين الوعي بالتأريخ؛ فأنت أحياناً تجد رقماً له دلالات، فتجد مثلاً العام الذي ولد فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في (571 م) فإن هذا العام كان مفصل تحوّلٍ في هذه الدنيا كلها، وعندما ترى أن الفتح الإسلامي لمصر هو إزالة الدولة الرومانية التي سيطرت على الشرق عشرة قرون، وتجد مثلاً معركة القادسية هي إزالة للكسروية الفارسية الطبقية التي سيطرت على كثير من مناطق الشرق وأبادت شعوباً في هذه المنطقة، فإذن الوعي بالتأريخ شيء مختلف عن قراءة التأريخ.

وعندما تقرأ التأريخ فهناك وعي لهذا التأريخ، لذلك أنا عندما أنظر للسنوات التي تفجّرت فيها ثورات الربيع العربي، فإن هذه هبّــة كانت تريد إعادة التأريخ إلى مجراه الطبيعي بالنسبة لهذه المنطقة، وهي لـَـمْ تمت وإنما حوصرت وستواصل إن شاء الله.

إن هذا يعني منهجاً في التفكير فيما يتعلّق تكوين العقل المسلم، طبعاً عندما نتكلم عن تكوين العقل المسلم فنحن عندنا في الغرب ثنائيات فُرِضَت علينا (الدين أو الدنيا، والعقل أو النقل، والفرد أو المجموع، والدنيا أو الآخرة)، فهذه كارثة تميّزت بها الحضارة الغربية، وإنما نحن عندنا ليست هناك هذه الثنائيات، فنحن نقول: إن النقيض للعقل عندنا هو الجنون، وليس النقل؛ لأن النقل عندنا عقلاني، والعقلي عندنا مؤمن، وبالتالي فإن الفرد والطبقة والأمة نفس الشيء، وهذه الأمور كتبنا فيها كثيراً.

فإذن في تكوين العقل المسلم هناك مناهج لتكوين العقل لكي لا يكون حبيساً لهذه التناقضات التي مزّقت العقل فيه، وجعلت هناك ماديّة ومثالية وطبقية إلخ، وإنما أنا أرى أن المنهج الإسلامي لتكوين العقل المسلم يحتاج إلى إعادة نظر، وهذا لنا فيه تراث، وحتى عندما نختار نصوصاً من التراث لكي ننشرها ولكي نبحثها لتعيننا على النصوص التي تكوّن هذا العقل الذي نريده، وتكوين عقل أصولي، وعقل تاريخي، وعقل يفقه الواقع ويستشرف المستقبل، عقل يرى الكون، ولذلك فأنا في محاضرة أخيرة كنت ألقيتها عن الرؤيا القرآنية للكون والإنسان والحضارة، فللقرآن رؤية في هذا المجال، وحتى المذاهب فنحن عندما نقول بأن تنوع المذاهب في العقلانية الإسلامية هو فطرة وسنة من السنن، ولكن يجب أن نميّز في هذه المذاهب بين المذاهب التكفيرية التي تُقْصي وتلغي وتقتل التنوّع، وبين المذاهب التي تحافظ على التنوع في إطار الوحدة.

التجديد والحداثة

حضارة: نسمع كثيرًا عن التجديد والحداثة، ما الفرق بينهما؟ وكيف يمكن بعث الأمة من جديد؟

د. محمد عمارة: نحن حدث عندنا غش ثقافي نتيجة الغزو الفكري، فخلط ما بين التجديد وما بين الحداثة؛ التجديد هو الانطلاق من الثوابت لكي نجدد في المتغيرات، ولذلك تجد أن الخيوط ممتدة من المنابع الجوهرية والنقية التي بدأت بالإسلام إلى استشراف المستقبل، فأنت لا تجدد بالثوابت، والناس لا يجددون في الشمس والقمر والسنن، والتأريخ تحكمه السنن، ولكن أنت عندما تسيطر على هذه القوانين التي تحكم التأريخ فإنها تغيّر، فهناك ثوابت وهناك متغيّرات وهذا هو التجديد.. والتجديد سنة وقانون وضرورة ليس خياراً أو ترفاً للعقل المسلم.

والحداثة هذه نزعة غربية تقيم قطيعة معرفية مع الموروث، ومع الموروث الديني على وجه الخصوص، وأن الحداثة قطيعة مع الثقافة التي كان الله فيها جوهر هذه الثقافة ومحور هذه الثقافة، والتي كان فيها الدين والعقيدة محور هذه الثقافة، فالحداثة هي عبارة عن الثقافة التي تجعل الإنسان مستقلاًّ بذاته وليس بحاجة إلى شريعة وإلى دين وإلى شيء مما وراء الطبيعة، ولذلك هذه هي فكرة كانت موجودة عند اليونان بأن العالم مستقلٌّ بذاته والإنسان مستقل بذاته، ولذلك نجد أن الحداثة على الرغم من أنها شيء حديث في النهضة الأوربية لكنها لها جذور يونانية فعندما رأى "أرسطو" أن الله الخالق الأول ولكنه ترك العالم يُدار بمكوّناته الذاتية، فالعالم مستقلّ بذاته، والإنسان هنا مستقل بذاته وليس بحاجة إلى شريعة، فهو بالخبرة وبالعقل يدير شؤونه.. والوثنيّة المشركة كانت على نفس المذهب، ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ [سورة الزخرف: الآية 9].. فالله عندهم مجرد خالق، ولكن هو يسأل الأصنام ويسأل الأوثان عندما يريد أن يحارب أو يسالم، أو يتزوّج أو لا يتزوج، أو يسافر أو لا يسافر.. والمسيحية على نفس هذا المذهب "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، أما الإسلام فرؤيته فإن الله خالق ومُدَبِّر، ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة الأعراف من الآية 54].. ﴿قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى{49}قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى{50}﴾ [سورة طه: الآيتان 49 ـ 50].

فالإسلام مختلف عن هذه الرؤى الحداثية، لأن فيه الأصول وفيه الفروع، وفيه الثوابت وفيه المتغيّرات، وفيه العمق الأساسي من المنابع الجوهرية والنقية وفيه فقه الواقع واستشراف المستقبل.

إذن التجديد شيء مختلف تماماً عن الحداثة، وقد حدث غش ثقافي في الخلط بين التجديد والحداثة؛ ولذلك أنا عندما أقرأ كثيراً من الناس يتكلّمون (عن الحداثة.. عن الحداثة)، فإن هؤلاء لا يفقهون معنى الحداثة ولو رجعوا حتى إلى الفكر الغربي، والحديث مثلاً عن كيف أن كل مرحلة تنفي المرحلة السابقة وهذه هي الحداثة عندهم، وعندما ظهرت العلمانية فإنها كانت حداثة بالنسبة للكنيسة والكهنوت؛ لأنه فيها عزل للسماء عن الأرض، وعزل الإنسان عن العقيدة وما وراء الطبيعة.. إذن التجديد شيء والحداثة شيء مختلف.

معركة المصطلحات

حضارة: من أعمالكم الفكرية المهمة {معركة المصطلحات}، لو وصفتم لنا ماهيتها وكيفية الانتصار فيها؟

د. محمد عمارة: هذه هي معركة أساسية، وأنا جمعت منذ سنوات كل ما كتبته في المصطلحات في كتاب كبير عن "إزالة الشبهات معاني المصطلحات؛ إذ نحن نتيجة الاحتكاك بالحضارة الغربية فقد حدث نوع من الخلط في مضامين المصطلحات، والمصلح لا مُشّاحة فيه؛ لأنه مثل الكوب الذي يشرب فيه الإنسان أي شيء، لكن المشاحة في ما هو بداخل هذا الكوب، في المضمون وفي المفهوم والمحتوى، والناس قد خلطوا وأخذت المصطلحات ـ وبالذات في ظل هيمنة الحضارة الغربية، أخذت المصطلحات بمضامينها الغربية، بمعنى أنه حصل نوع من الغزو الثقافي لمضامين المصطلحات، وقد ضربنا مثلاً بموضوع الأصولية وكيف أن هذا المصطلح شريف وجيد ولكن وُضِع فيه المضمون الغربي للمصطلح، وحتى عندما نتكلم عن العدالة، فبالعدالة هي مصطلح ولكن أي مضمون للعدالة؟ وأي مفهوم في العدالة؟ فالعدالة مفهومها عند الفقراء غير مفهومها عند الأغنياء، وعندما نتحدث عن الوطنية، فعن أي وطنية نتحدّث عنها؟ هل هي الإقليمية الضيّقة؟ أو هي المنفتحة على المحيط القومي والمحيط الإسلامي؟، فكثير من المصطلحات حدث له غزو في المضامين وفي المفاهيم وفي المحتوى، ولذلك أنا أقول بدون التركيز على تحرير مضامين المصطلحات يُصبح الحوار بيننا حوار طرشان، نردد نفس المصطلحات لأن كل منا له مفهوم مختلف عن المفهوم عند الآخر، ولذلك هي كانت إحدى القَسَمات في المشروع الفكري وأنا توفرت على تحرير كثير من مضامين المصطلحات حتى نعود لهويتنا وأصولنا ومفاهيمنا الإسلامية لهذه المصطلحات، لأنه مثلاً عندما نتكلم عن العقلانيّة، فأي عقلانية تقصدها، فهناك عقلانية لا دينيّة، وعقلانية مؤمنة فلا بد من أن تحرّر هذا المفهوم وهذا المضمون وهذا المحتوى لهذا المصطلح.. وعندما نتكلم عن الدين، فأي دين نعني؟ ونحن عندنا أديان مختلفة، وكل ما يدين به أي إنسان فإن هذا دين، ولكن الدين في المصطلح الغربي أصبح من الوهم والذي لا يخضع للعقل إلخ، ونحن نرى بعض الناس الآن يتكلّمون عن الدين وبقولون أنه علم ولا يزال علماً، ولكن العلم الإلهي هو العلم الحقيقي، فعندما ينزل الوحي فإن هذا هو العلم الحقيقي، وحتى هذا فوق المعرفة، لأن المعرفة عبارة عن جزئية وكسبية ونسبية وسبقها جهل، بينما العلم الإلهي هو علم كلّي ومطلق ومحيط.. إذن تحرير مضامين المصطلحات معركة أساسية، وأرجوا أن أكون قد وفقت في خوضها في بعض ما كتبت.

مصطلحات ومفاهيم

حضارة: ما تعليقكم على المصطلحات والمفاهيم الآتية: الأصولية.. العلمانية والليبرالية. .الخلافة. .الإرهاب .التطرف. .الغلو .قابلية الاستعمار. .النهضة. .الحضارة؟

د. محمد عمارة: الأصولية: أنا قلت بأن الأصولية بأنها هي علم أصول الفقه وعلم أصول الدين، والعودة إلى المنابع واستلهام هذه المنابع، وفقه الواقع في ضوء هذه الأصول.

العلمانية: هي نزعة غربية لها مستويات مختلفة؛ منها مستوى عزل السماء عن الأرض وهذه هي العلمانية اللادينية والتي عرفت في المجتمعات الماركسية، ويوجد هناك علمانية تفصل الدين عن السياسة والدولة والقانون، وإنما هي في كل الحالات نزعة معادية للدين، خصوصاً للدين الذي هو دين ودنيا، الذي هو دين وسياسة واجتماع واقتصاد، وهو الدين الإسلامي.. ويمكن أن تكون-أي العلمانية- مناسبة للدين الذي هو عقيدة وليس فيه شريعة مثل المسيحية، فالعلمانية لا تتلاءم إطلاقاً مع الإسلام، ولا تتلاءم مع اليهودية؛ لأن اليهودية فيها شريعة، ويمكن أن تتلاءم مع المسيحية وحتى في الإطار المسيحي ثبت أنها ليست فقط معادية لسلطة الكنيسة وإنما ثبت أنها معادية لسلطة الدين؛ لأن الإلحاد تمدد في إطار الحضارة الغربية بسبب العلمانية، فتحولت إلى كأس مسموم تجرّعته أوربا وتحاول أن نتجرّعه نحن الآن.

الليبرالية: هي مفهوم غربي للحرية، لكن هذا المفهوم الغربي والمضمون الغربي والمحتوى الغربي ليس هو مفهوم الحرية عندنا، لأن نحن عندنا مفهوم الحرية مرتبط بالمسؤولية، والحرية عندنا بلغت مستوى عاليًا لم تبلغه في الليبرالية الغربية، لأن نحن عندنا الحرية وصلت إلى مستوى الحياة، بمعنى إذا كان أغلى شيء عند الإنسان هو الحياة، فالحرية أصبحت معادل لهذه الحياة، لذلك أنا عندما كتبت عن حقوق الإنسان اعتبرت أن هذه الحقوق هي ضرورات وتكاليف، وليست هي مجرد حقوق، لأن مصطلح الحقوق الإنسان يستطيع أن يتنازل باختياره عن الحقوق، فعندما ينتحر فإنه يتنازل عن الحياة، والذي يرضى بالاستعباد والدكتاتورية فإنه يتنازل عن الحرية، ولكن في الإطار نجد ان الحرية تبلغ مستوى الحياة ولا يجوز للإنسان أن يتنازل عنها حتى باختياره، كما انه لا يجوز أن يتنازل عن حق الحياة فينتحر، ولا يجوز أن يرضى بالظلم حتى لنفسه هو، ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ﴾ [سورة النساء: من الآية 97].. فإنهم يحاسبون فلم يظلموا الآخر وإنما ظلموا أنفسهم.

إذن مفهوم الحرية في الإسلام متميّز عن مفهومه في الليبرالية الغربية، وأيضاً مفهوم الحرية في الليبرالية هي نزعة غربية للإنسان الغربي والإنسان الأبيض والإنسان المسيحي، ولذلك الغرب لم يعط هذه الليبرالية للشعوب الأخرى، بينما نجد أن الحرية في الإسلام لمطلق الإنسان بكل ألوانه وأجناسه وأطيافه ولغاته وقومياته وحضاراته.. إذن مفهوم الليبرالية أضيق بالنسبة للحرية من مفهوم الحرية في الرؤية الإسلامية.

الخلافة: هي فلسفة لاستخلاف الله سبحانه وتعالى للإنسان في استعمار الأرض، هي تعني موقفاً من النظام السياسي، وتعني موقفاً من النظام الاقتصادي، وتعني الموقف من الثروات والأموال، فإذن هي مفهوم شامل ومفهوم عام، فربّنا سبحانه وتعالى عندما قال للملائكة:﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [سورة البقرة: من الآية 30].. لماذا توجّس الملائكة؟ ﴿قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء﴾ [سورة البقرة: من الآية 30] لأن معنى الخليفة أن يكون عنده حرية، ويستطيع أن ينفذ الأوامر أو أن يعصي هذه الأوامر، لأن قضاء الله سبحانه وتعالى قضاء كوني حتمي في الخلق ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أو كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [سورة فصلت: الآية 11]، والملائكة ﴿مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [سورة التحريم: من الآية 6]، لكن الخليفة يعصي أو يطيع، وينفذ الأوامر أو لا ينفذ الأوامر، لذلك فإن الملائكة رأوا هذا خلق جديد، وهو مختلف عن الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم، وربنا سبحانه وتعالى فهمّهم أنه بالعلم أن هذا الإنسان سيسدّد الخطى، فعلم آدم الأسماء كلها، فالخلافة مفهوم في السياسة ليست دولة مركزية، ونحن نرى أنه في عز الخلافة الراشدة كانت مصر ولاية، وكانت البصرة ولاية، وكانت الكوفة ولاية، ودمشق ولاية، وحلب ولاية، وحتى في الدولة العثمانية كانت تعتمد النظم نفسها.. فهي وحدة يكون تحتها تنوعا، أو تنوع في إطار الوحدة، إذن هي دولة لا مركزية، أو هي عبارة عن تكامل دار الإسلام، ولذلك نحن هنا نتكلّم عن أمة واحدة وعقيدة واحدة وشريعة واحدة وحضارة واحدة بمعنى تكامل دار الإسلام، بمعنى ليس دولة مركزية، وهذا في السياسة، وفي الخلافة والاستخلاف في الأموال فالمال مال الله والناس مستخلفون فيها في إطار بنود عقد وعهد الاستخلاف التي هي الشريعة الإسلامية، والتي هي التكافل الاجتماعي والتي هي الوسطية الإسلامية، فالخلافة هي مفهوم جامع له رؤية في السياسة، وله رؤية في الأموال وفي الاقتصاد وفي علاقة الإنسان مع الله، والاستخلاف كمفهوم فلسفي في الإسلام في فكرة المعية، بمعنى أن الله خلق الإنسان واستخلفه، فهي بمثل أن تكون عندك قضية وتوكّل لها محامياً، فالمحامي هذا تكون بينك وبينه معية في رعاية هذه القضية، فالله سبحانه وتعالى استخلف الإنسان وهناك معية من الإنسان مع الله سبحانه وتعالى، والشريعة هي الإطار الحاكم لاستعمار الأرض والاستخلاف في هذه الأرض، فالخلافة هي مفهوم جامع، وأنا رأيي أن نظرية الاستخلاف في الفكر الإسلامي أشبه ما تكون بالمنظار الذي من خلاله ترى الدنيا كلها، فلابد من التركيز على التوعية بالمفهوم الإسلامي للاستخلاف وللخلافة لأن هذه هي التي تجعلنا كيف نتعامل مع الأموال، وكيف نتعامل الثروات، وكيف نتعامل مع الطبقات، وكيف نتعامل مع الدول، وكيف نتعامل مع العقيدة، وكيف نتعامل مع النظام السياسي الجامع للأمة الإسلامية، فهي كما قلت أشبه ما تكون بالمنظار الذي من خلاله ترى الدنيا رؤية إسلامية.

الإرهاب: أنا كتبت أيضاً دراسة عن حقيقة الحرب الأمريكية على الإرهاب، ومفهوم الإرهاب في القرآن هو مفهوم الردع والإعداد، ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [سورة الأنفال: من الآية 60]، وعندما تستعد دولة فترهب العدو فإن هذا تخويف رادع يمنع القتال، ولذلك فالإرهاب شيء والقتال شيء، والإرهاب شيء والعنف شيء، والإرهاب شيء والحرب شيء.. لما امتلك الاتحاد السوفيتي القنابل الذرية والهيدروجينية أرهب أمريكا فمنع الحرب الذرية، ولو اليابان في سنة (1945) كان عندها سلاح نووي لكانت أرهبت أمريكا فمنعت ضرب (هيروشيا، ونكازاكي)، فإذاً الإرهاب هو تخويف رادع يمنع الحرب ويمنع العنف وبمنع إسالة الدماء، بينما الإرهاب الذي هو مرفوض ونحن ضده والذي هو مصطلح موجود في الغرب فهو ترويع الآمنين وفرض الرأي بالقوة، فهذا هو الإرهاب الذي نحن ضده، لذلك فإن مفهوم الإرهاب شيء مختلف تماماً عن المفهوم القرآني للإرهاب، ولذلك كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) كما نقرأ:" أنه نُصر بالرعب"، أي أنه بالتخويف مَـنَـعَ الحرب، فبالإعداد تمنع القتال وتمنع العنف وتمنع إسالة الدماء، وهذا هو المفهوم الإيجابي للإرهاب، ولذلك فالرهبانية وهذا من مصطلح الرهبة والإرهاب فالرهبانية هي خوف من الله سبحانه وتعالى وليس فيها قتال وليس فيها عنف، فبالتالي فالخلط حدث بين مصطلح الإرهاب الذي هو ترويع الآمنين وفرض الرأي بالقوة وبالعنف وبين المفهوم القرآني للإرهاب، ولذلك اتهام الإسلام بالإرهاب والاستدلال بآية سورة الأنفال على هذا الموضوع هذا نوع من الغش الثقافي ونوع من الخلط، ولذلك نحن كتبنا عن موضوع حقيقة الحرب الأمريكية على الإرهاب.

التطرف: هو الخروج عن الوسط، سواءٌ كان يميناً أو يساراً، وهذا شيء مختلف عن الإرهاب؛ لأن الإرهاب المفروض أن يكون معناه هو العنف، وهو ترويع الآمنين وهو العنف بأن يفرض الرأي بالقوة، بينما التطرُّف هو وجهة نظر، حيث أننا نتكلّم بأن هناك يمين ويسار، وهناك اعتدال وهناك تطرّف، والتطرّف هذا عبارة عن موقف فكري، ولذلك فهو شائع ولا يخلو مجتمع من المجتمعات من أن يكون فيه فكر متطرّف، وبالحوار يتم تسديد الرؤى والمواقف.

الغلوّ: مثله مثل التطرّف، ولذلك فإن المصطلح الإسلامي استخدم مصطلح الغلو ولم يستخدم مصطلح التطرّف، وقد قالوا الغلو في الدين ولم يقولوا التطرف في الدين، ولذلك فإن المصطلح الإسلامي الأصيل هو مصطلح الغلو، بينما هو مَـثَلُهُ كمثل التطرف.

قابلية الاستعمار: هو الضعف الذاتي الذي يخلق فراغاً يتمدّد فيه الآخر، سواءٌ التمدّد العسكري أو التمدّد الفكري، وعندما يكون هناك جمود فكري فإن هذا الجمود الفكري يخلق فراغاً، وبما أن القانون العلمي يقرر أنه لا يوجد فراغ، فإذا كان نصف الكوب مليئاً بالماء فإن النصف الباقي منه يكون مليئاً بالهواء، ولذلك كان من الحِـكَـم الصوفية التي قرأتها قديماً:" القلب كالإناء إن لم يملأه ماء الحكمة والمعرفة ملأه هواء الجهل والعصيان"، فالإناء ليس فيه فراغ، فإذا لم يكن مليئاً بالماء أو أي مشروب آخر فإنه سيكون مليئاً بالهواء، إذن الفراغ الذاتي يتمدّد فيه الآخر، فمن كان هناك عنده ضعف عسكري فإنه سيكون عنده احتلال، ومن كان عنده جمود فكري وضعف فكري وفراغ فكري فإن الغزو الفكري سيتمدّد فيه، وهو ما يعني قابلية الاستعمار.

النهضة: النهضة في مصطلحنا تستخدم أحياناً بمعنى الثورة ـ النهوض ـ وتستخدم أحياناً بمعنى الإصلاح، ونحن يوجد عندنا فرق بين الثورة وبين الإصلاح، فالثورة هبّة وغضبة لكن "التغيير الحقيقي" وإزاحة السلبيات ووضع الإيجابيّات فإن هذا هو الإصلاح، لكن الثورة ممكن تكون لحظة لكن الإصلاح يكون بالتدرّج، وخوض معركة طويلة، وأنا كتبت عن سنة التدرّج في الإصلاح والفارق بين مصطلح الثورة والإصلاح، كما فعل سيدنا عمر بن عبدالعزيز (رضي الله عنه)، والثورة كما قلت هي لحظة وغضبة وأن تكون ضد النظام المستبدّ والنظام الظالم، لكن التغيير في الأمة هو الإصلاح، ولذلك هناك فرق حتى في مصطلح التغيير، فالتغيير في المصطلح الإسلامي هو التغيير يكون للشيء السلبي، والمسلمون عندهم في الفكر الإسلامي مصطلح (التخلية والتحلية) وتزيل الأنقاض كي تقيم البناء، ولذلك فإزالة الأنقاض هو التغيير، وقال الله:﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [سورة الرعد: من الآية 11]، فالتغيير هو للأشياء السلبية، لكن الإصلاح هو وضع البديل مكان الأشياء السلبية، لذلك تجد أن المصطلحات الإسلامية عجيبة، ولذلك تجد أن القرآن يميّز بين المطر وبين الغيث؛ فالمطر في السوء لكن الغيث في الخير، فإن فكرة دقّة استخدام المصطلحات في العربية وبالذات في لغة القرآن شيء عجيب.

الحضارة: الحضارة في مفهومها العربي والإسلامي يختلف عن مفهومها في الفكر الغربي، والحضارة عندنا من الحضور، والمقابل للحضارة هو البداوة، لأن البدوي لا يقيم وليس له حضور، وبالتالي ينصب خيمته الآن ثم يفكّها وينتقل إلى مكان آخر وراء الرعي، فلا يحدث في البداوة تراكم معرفي وبناء متدرّج نسمّيه حضارة، لكن في قوله تعالى:﴿الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾ [سورة الأعراف: من الآية 163].. فهنا القرار والاستقرار والحضور، هو الذي يقيم التراكم المعرفي الذي نسمّيه الحضارة، ولذلك فالحضارة من الحضور وهو مقابل البداوة، ولذلك يحضرني كلام للمتنبي:

مَا أَوجهُ الحَضَر المُستحسنَاتُ بِهِ ** كَأوجهِ البدويّاتِ الرّعابيبِ

حُسْنُ الحضارةِ مَجلوبٌ بِتَطرِيَةٍ ** وَفي البَدَاوة حُسْنٌ غيرُ مَجلوبِ

فالمقابلة هي بين الحضارة وبين البداوة، والحضارة بناءٌ متعدّد الجوانب والسمات لكنه يقوم على ساقين؛ على المدنيّة والتمدّن التي هي عمران الواقع المادّي، وعلى الثقافة التي هي عمران النفس الإنسانية، ولذلك فإن الحضارة لابد أن يكون فيها عمران للواقع المادّي وتراكم لهذا العمران، وهي (المدنية) ونمو لهذا العمران، وهذا ملمح إنساني، فأنت تستطيع أن تأخذ المدنيّة والتمدّن من أي حضارة في الدنيا ومن أي أمة من الأمم، أما العمران للنفس الإنسانية فإن هذه هي البصمة والخصوصية لكل حضارة من الحضارات، فنحن ممكن أن نجتمع الغرب في العلوم لطبيعية وفي علوم عمران الواقع المادّي، في (الزراعة، والصناعة، والتجارة، والفلك، وغيرها من كل هذه الأمور) فإن هذه مثل الهواء والماء، فالتمدّن مثل الهواء والماء لا حدود له ولا سدود له، أما الثقافة التي هي عمران النفس الإنسانية؛ فإن هذه هي بصمة كل حضارة تتميّز بعقيدتها وبفلسفتها وبتراثها وبمناهجها في التفكير، ولذلك فالمدنية والتمدّن مع الثقافة هما قوام الحضارة، وفيهما ما هو مشترك إنساني عام وماهو خصوصية من خصوصيات الحضارة، وهذا الذي يجعل من حضارات العالم منتدى حضارات، وكل حضارة هي عضو في هذا العالم، تشترك في أشياء وتتميّز في أشياء أخرى، مثل الإنسان عندما يصافح كل الناس فإنه يصافح الدنيا كلها لكنه دون أن يتنازل عن بصمته وعن وخصوصيته، فهذا فيما يتعلّق بالحضارة وعلاقات الحضارات فيما بينها.

الثوابت والمتغيرات

حضارة: تقدّم كلامكم عن ثوابت الأمة والمتغيرات في مسيرتها.. أين يكمن التجديد فيها؟

د. محمد عمارة: التجديد يكون في المتغيرات وليس في الثوابت، فالتوحيد ثابت، وتجلّيات التوحيد في هذا العالم في وحدة الأمة ووحدة الحضارة ووحدة العالم ووحدة الكون وكل هذه ثوابت، والشريعة ثوابت، ولكن المتغيرات مثل الفقه والسياسة وكذلك العلوم والمعارف والثقافات وغيرها، وكل هذه متغيّرات، فالتجديد يكون في المتغيّرات وليس في الثوابت، والتجديد عادة يكون ثمرة لفقه الواقع، لأن الواقع متغيِّرٌ دائماً وأبداً، ولذلك فالتجديد مثل الإنسان؛ فالإنسان تتجدّد فيه خلايا في كل ثانية، ولكن يبقى هو، وبصمته لا تتجدّد فهي ثوابت في الإنسان، ولذلك فإن الإنسان منذ أن يولد هو معروف هذا إنسان، اسمه فلان فيبقى هو هو إلى أن يلقى ربّـه، ومع ذلك طوال هذه الحياة تتجدّد فيه أشياء، ولذلك لما كانوا يقولون في الفلسفة "إنك لَنْ تنزل البحر مرتين"، فأنت في كل مرة تكون أشياء مختلفة ولكنك نزلت البحر، وهذه هي فكرة الثوابت والمتغيّرات، فهناك أشياء تتجدد وتتغير وهناك أشياء ثوابت بالنسبة للإنسان.

العمل الإسلامي المعاصر

حضارة: كيف تقيمون العمل الإسلامي المعاصر المتمثل بالحركات والأحزاب والتنظيمات..؟ وهل هي بقدر التحديات؟ وما أبرز التحديات وسبل تخطيها؟

د. محمد عمارة: هي أقل من التحدّيات بكثير، ونقطة الضعف في العمل الإسلامي هي التشرذم والتمزّق، والعالم الإسلامي فيه خيرات كثيرة وفيه طاقات كثيرة، وفيه إمكانات كثيرة، ولكن يحول بين هذه المكوّنات والطاقات والإمكانات وبين الفعل الحقيقي والمناسب والمطلوب (التمزّق والتشرذم) في الإقليمية والحواجز التي تُقام بين العالم الإسلامي وبين العقول الإسلامية وأيضاً مغالبة الغزو الفكري لهذا العمل الإسلامي، فأنت تجد القمع موجّه للطاقات الإسلامية وللمكوّنات الإسلامية وللحركات الإسلامية وللمشاريع الإسلامية، فهناك تمزّق داخلي وهناك غزو فكري، وطبعاً يوجد الاستبداد الداخلي والمحروس من الغرب يرعى كل هذه السلبيات.

وإنما أقول: إن العالم الإسلامي والعمل الإسلامي فيه خير كثير لكن يحتاج إلى نوع من الترابط والتضامن التكاتف لكي تكون فاعليّته موازية لهذا التحدّي، ولكن يبقى العمل الإسلامي هو الأساسي في إطار الأمة الإسلامية وفي إطار العالم الإسلامي، وعندما تنظر إلى رصيد التيار العلماني، وإلى رصيد التيار الليبرالي، وإلى رصيد التيارات الـمُتَـغَـرِّبة، تجدهم مفلسين في الشارع، ولذلك فإن هذا هو سر تأييدهم للاستبداد وللعسكرة وللدول البوليسية لأنهم إذا احتكموا إلى الشارع فإنهم مرفوضون، ولذلك يتم الآن عقاب الأمة؛ لأنها اختارت التوجه الإسلامي عندما فُتِحت صناديق الانتخاب بشكل نزيه وبشكل شفّاف، فيظل العمل الإسلامي والفكر الإسلامي هو الإساسي على الساحة الإسلامية، وإن كان ينقصه التكامل والترابط والتضامن كي يواجه التحدّيات التي تتناوشه.

صراع الطائفية

حضارة: المنطقة تشهد صراعاً يهدد مشروعها الحضاري وكيانها، مُغَلّفا بالطائفية والمذهبية والقومية.. كيف تنظرون إلى هذا الصراع؟

د. محمد عمارة: أنا كما قلت أن هذا وراءه تخطيط غربي، ويقف وراءه نُــظُـمٌ مُـسْـتَـبِــدّة معادي للتوجُّه الإسلامي.. وكذلك يقف وراءه فهم خاطئ ارتفع بالمذهبية من الفروع إلى الأصول، وهذا بالضبط مثل ما حدث مع الشيعة عندما جعلوا الإمامة والخلافة والسياسة "أم العقائد"، فهنا يُـصْـبِـح المذهب عقبة، ويُـصْـبِـح المهب إقصاءً، ويُـصْـبِـح المذهب تكفير للآخر، ولكن عندما يقف المذهب عند الفروع ـ ولذلك أنا عندما أنظر للمنظومة الشيعية فليست المشكلة مع الفقه الجعفري، ونحن في مصر عندما عملنا موسوعات فقهية عملناها على المذاهب الثمانية؛ في المذاهب الأربعة السنية والمذهب الظاهري والمذهب الإباضي والمذهب الزيدي والمذهب الجعفري ـ فلا يوجد مشكلة في الفقه، لأن الفقه علم الفروع، ولكن إذا ارتفعت بالفروع إلى الأصول فأنت تشق وحدة الأمة، بمعنى أن تجعل التنوّع سبباً للخلاف وليس للاختلاف، وهناك فارق بين الخلاف والاختلاف، فبالتالي نجد أن المذهبية توضع الآن على أنها أصول، وتشق الصف، وتجعل التناقض تناقضاً عدائيّاً ورئيسيّاً، وليس تناقضاً ثانويّاً وتجعل بأسنا بيننا شديداً، وهذه هو المخطط الغربي الذي يعتمد على أقليّات كمذاهب يصارع بعضُها بعضاً، ويُـقْـصي بعضُها بعضاً.

مشاريع التفتيت للأمة

حضارة: نبهتم في كتاباتكم وفي مناسبات عديدة على خطورة مشاريع التفتيت للأمة وعلى رأسها مشروع (برنارد لويس).. وقد تقدّم كلامكم عنه بشكل مختصر، إلى أي مدى وصل تنفيذ هذا المشروع وأمثاله على أرض الواقع؟ وهل الأمة على وعي كاف بمخاطره برأيكم؟

د. محمد عمارة: مشروع "برنارد لويس" هو المشروع الامبريالي الصهيوني، وهذا الرجل هو مفكر صهيوني ومشير ومستشار لصانع القرار الأمريكي، ويتحوّل هذا المشروع إلى مؤسسات عند الغرب، وخذ على سبيل المثال مؤسسة "راند"، وهذه المؤسسة تُقَسِّم العالم الإسلامي إلى أصوليّين راديكاليّين، وإلى علماء تقليديّين، وإلى علمانيّين، وإلى حداثيّين، وتطلب من صانع القرار الغربي بأن يؤيّد (الحداثيّين، والعلمانيّين)، ولكي يستغلّوا العلماء التقليديّين ضد الأصوليّين والراديكاليّين، وأنا ركّزت على هذا الفكر في بعض ما كتبت لتوعية الناس بالمخططات الغربية، فمشروع "برنارد لويس" يتجلّى في هذه المؤسسات التي تشير على صانع القرار الغربي، وكما قلت هو مشروع (إمبريالي ـ صهيوني)، لأن الامبريالية الغربية كما قال "ريتشارد نيكسون" في كتابه (الفرصة السانحة.. ومنتهزو الفرصة)، حيث يقول:" نحن لدينا في الشرق حاجتان في الشرق، إسرائيل والبترول"، وإنْ كانت أمريكا حالياً تستغني في البترول، وهذا سر عدم اهتمامها بالشرق مثل السابق، وأيضاً وصلت إلى أن تجعل الكيان الصهيوني جزءاً من النظم المستبدة في العالم العربي، وهي تأمن أيضاً على مستقبل المشروع الصهيوني، وهذا أيضاً متغيّر من المتغيّرات التي يجب الالتفات إليها في الموقف الأمريكي.

ولكن أقول: إن مشروع "برنارد لويس" هو مشروع (إمبريالي ـ صهيوني) للهيمنة على العالم الإسلامي وتجزئة العالم الإسلامي وجعل المشروع الصهيوني يتمدّد ـ حتى ولو لم يتمدّد أرضاً ـ فإنه يتمدّد بالنفوذ داخل النظم وداخل الحكومات العربية، هذا هو خُلاصة المشروع.

والأمة ليست على وعي كاف بمخاطره، فنحن عندنا فقر في الوعي الفكري، وقصور كبير في الوعي الفكري، وإن السبب في هذا ليس في قلّة العقول والإمكانات، وإنما بضرب المؤسسات، ونحن عندنا فكرة أن الإسلام قام بالمؤسسات، وأنا ألقيت محاضرة نُشِرت في كتيِّب بعنوان (المؤسسيّة والمؤسسات في الحضارة الإسلامية) وكيف قامت الدولة الإسلامية الأولى على المؤسسات، المهاجرون الأولون، والنقباء الاثنا عشر، ومجلس الشورى، وهذه ثلاث مؤسسات، وهذا في البداية، وقد عاشت الأمة في المؤسسات، والأمة وليست الدولة؛ لأن الدولة كان حجمها محدوداً، ولذلك فإن تاريخنا فيه تعظيم للأمة وتحجيم للدولة، وقد عاشت الأمة وكانت الأوقاف تُـمَـوِّل كل صناعات الحضارة وتجديد الحضارة، والأمة هذه أمة مؤسسات، والمؤسسية ملمح أساسي في الإسلام وفي النظام الإسلامي، والدولة القومية بالمعني الغربي عندنا جاءتنا في العصر الحديث ضربت مؤسسات الأمة، ولذلك نتج عنها تعظيم للدولة وتحجيم للأمة، وهذه هي المشكلة التي تواجه الواقع الإسلامي والعمل الإسلامي.. وعندنا أفراد يفكّرون وعلماء وباحثون.. والخ، ولكن لا يجتمعون في مؤسسات، ولذلك فأنا أشبِّه العمل الفردي بمثل القطرات التي تنزل من (الصنبور)، بينما العمل المؤسسي عبارة عن خرطوم يُـجمِّع هذه القطرات، وحتى قديماً كان علماؤنا يقولون: إن اللقمة الواحدة لا تُطعم والقطرة لا تروي، ولكن عندما تتجمع اللقيمات فإنها تُشبع أو تتجمّع القطرات فإنها تروي، والخيط لا يمكن أن يجّر السفينة ولكن الخيوط عندما تجتمع تسحب السفينة.. وفكرة المؤسسات والعمل الجمعي هي من الثغرات التي نعاني منها في واقعنا، والاستبداد عادة عدوٌّ للمؤسسات، والاستبداد يريد أمة (فُـرُط) كما يقولون، بمعنى أنها تسمع ثم تنصرف، تُـصَـفِّـق ثم تنصرف، أما أنها تتجمّع في مؤسسات فإن عين الاستبداد على المؤسسات، ولذلك فإنه يضرب الحركات ولكنه ممكن أن يسمح للأفراد بأن يتكلّموا أحياناً.

العدو الداخلي والخارجي

حضارة: يقال إن العدو الداخلي للأمة أخطر عليها من عدوها الخارجي، هلا بينتم لنا تجليات هذا المفهوم على واقعنا اليوم؟

د. محمد عمارة: نحن نرى بأن هذه القسمة تحتاج إلى إعادة نظر لأن العدو الداخلي مرتبط بالعدو الخارجي، وإذا كان الاستبداد عدوّاً داخليّاً؛ فإما أن يكون صناعة غربية أو حراسة غربية، وتجربة النظم التي انقضّت على الربيع العربي نموذج يجسد هذا، وكان المخطط بأن يضرب الربيع العربي من المراكز الغربية مع الدول العميقة التي موجودة الآن، والتغريب إذا كان عدوّاً داخليّاً فهو له تأييد وأصول في الخارج، فالرباط بين العدو الداخلي والعدو الخارجي رباط وثيق.

سلاح الطائفية والأقلية

حضارة: قدّمتم بأن الطائفية والأقلية سلاح يستخدمه أعداء الأمة الإسلامية في عصرنا الحالي، فما جذوره التأريخية؟ وكيف واجهت الأمة مثل هكذا تحديات؟

د. محمد عمارة: كما قلت: عندما تكون الأمة قوية والنظام قويّاً توضع حدود لهذه التنوّعات، أما عندما تضعف الأمة فتظهر هذه التنوّعات وتنمو بشكل فطري وبشكل عشوائي، مثل الإنسان عندما تكون معدته قويّة فإنها تهضم الأشياء السلبية، وعندما يضعف الإنسان فالهواء النقي يضرّه، والأكلة الطيبة تضرّه، فبالتالي فإن جسم الإنسان عندما يضعف تنمو هذه الفطريات وهذه المذهبيات وهذه الطائفيات.

الاستقطابات العالمية

حضارة: في مساحات الاستقطاب العالمية، نجد استقطاباً شرقيّاً وآخر غربي وغيرها.. أين نحن من هذه الاستقطابات؟

د. محمد عمارة: نحن في ظل الضعف نكون ضحايا ووقودا لهذا الاستقطاب، ولذلك فإن فكرة الاستقلال والتبعية ـ مهم جدا ـ أن نكون على وعي بها؛ فعندما يكون عندنا استقلالاً حقيقيّاً نصبح عندها فاعلين في هذا العالم، أما عندما نكون في حالة من الضعف فإننا سنكون حينها ضحايا في كعكة يقتسمها الآخرون.

الخطاب الإسلامي

حضارة: كيف تقيمون الخطاب الإسلامي الرسمي المعاصر، وهل هو يوازي خطاب الآخر؟ الخطاب الرسمي؟

د. محمد عمارة: الخطاب الرسمي هو خطاب تابع للنظم والحكومات، وهو خطاب بائس؛ لا يُــفْـصِـح عن حقيقة الموقف الإسلامي، ولذلك فإن المؤسسات الرسمية الإسلامية حصل إستيلاء عليها من قبل السلطة منذ فترة طويلة منذ مجيء الاستعمار إلى بلادنا، وفكرة أن الأمة عاشت بالمؤسسات المستقلة وكانت مؤسسة، حيث رأينا عندما انهزم المماليك أمام "نابليون" فإن الأمة قاومت بالمؤسسات من (التجّار، والصُنّاع، والحرفيّين، والعلماء، ومجلس الشرع، والصوفية، وغيرهم)، ولكن في ظل الدولة الحديثة عندما استولت الدولة على المؤسسات ونزعت فاعليّة المؤسسات، عندما انهزمت الدولة أيام عرابي أمام الانگليز لم تحدث مقاومة، وهذا ملمح كتب عنه "محمد عبده" سنة (1905) قبل وفاته، وكيف أن الدولة كانت دولة (محمد علي) كان فيها (التاجر ماهر، والصانع ماهر، والمحارب ماهر، وغيرهم) لكنه ضرب نخوة الإنسان، وقد رأينا ان الأمة قاومت بعد انهزام الدولة أمام "بونابرت"، لكن الأمة لم تقاوم بعد انهزام الدولة أيام عرابي أيام الانگليز.

فكرة المؤسسات التي تُعظِّم الأمة فتصبح أعظم وأكبر من الدولة، على عكس الدولة القومية ـ التي تطعمك وتسقيك وتكتم أنفاسك ـ تلك التي جاءتنا فع الغزوة الغربية، فإن هذه تُـحَـجِّــم دور الأمة، ولذلك من ميزاته فكرة المؤسسات، من مميزات النظم في الليبرالية الغربية المؤسسات، ولذلك فإن الرأسمالية على سوءاتها والحضارة الغربية على سوءاتها فإنها تعيش في المؤسسات، ولذلك فإن الإمام "محمد عبده" كان يقول:" الباطل يعيش بالنظام، والحق لا يعيش بدون نظام"، لأن النظام بحد ذاته حق وفضيلة حتى ولو كانت مرجعيته خاطئة، ففكرة المؤسسية والمؤسسات تحتاج إلى وعي وإلى تفعيل.

أولويات الأمة

حضارة: ما الأولويات التي يجب أن تركز عليها الأمة اليوم في مواجهة التحديات التي تواجهها؟

د. محمد عمارة: أولاً يجب أن نركِّز على العدو الرئيس والأساسي وهو (الإمبريالية والصهيونية)، ماذا تريد؟ ويجب أن يكون لنا موقف أمام هذا العدو.. ويجب أن نركِّز على أدوات هذا (الإمبريالية والصهيونية) في الداخل، سواء كانت حاكمة أو كانت أدوات فكرية، وأعني هنا فكرة الوعي بالذات وبالآخر، الوعي بالتناقضات الموجودة في الواقع الإسلامي، والوعي بالتحالفات، من هو حليف لنا؟ سواء في الداخل أو في الخارج، وهذه قضية تعني أنك عندما تكون في معركة فلا بد من أن ترتِّب قوتك وتعرف من هو الخصم الأساسي والعدو الأساسي؟ ومن هم حلفاؤك في هذه المنطقة؟، فنحن نحتاج إلى خريطة ليعي بها العقل المسلم الواقع الذي يعيش فيه.

إسهامات المسلمين

حضارة: كيف تنظرون إلى إسهامات المسلمين أو (الإسلاميين) في ميادين الثقافة والآدب والفنون والمجلاّت، وغيرها.. هل تقف هذه كلها ندّاً مكافئاً بوجه غيرها؟

د. محمد عمارة: لا.. هناك نقص شديد، عند الإسلاميين، في (الآداب، والفنون، والسينما، والمسرح، والمجلاّت، والإعلام، وغيرها)، هناك نقص شديد، والعلمانيون أكثر حِـرَفِــيّة وأكثر مهارة في هذا الميدان، يمكن أن هذا النقص راجع إلى أن الحركات الإسلامية كانت حركات مستهدفة وحركات ملاحقة وتعرّضت للسجون والمعتقلات والمحاكمات.. ولكن أيضاً يوجد هناك لون من التديّن المغشوش يبتعد بالإسلاميين عن الاهتمام بهذه الميادين، وهذه قضية لا بد أن تعالج في إطار العمل الإسلامي.

غياب الـمُفكِّر المجدد

حضارة: إلى ماذا تعزون غياب النموذج الـمُفكِّر المجدد اليوم في المجتمعات الإسلامية؟

د. محمد عمارة: لأن هيمنة المؤسسات التقليدية، والحرب المعلنة على مؤسسات التجديد، فنحن عندنا مؤسسات تقليد مهيمنة، وعندنا مؤسسات تجديد توجّه إليها السهام، وقد يُسْمَح بالعمل الفردي، لكن العمل المؤسسي ممنوع، ولأن التجديد أيضاً جزء من العمل الإسلامي العام الذي يواجه تحدّيات كثيرة.

انكماش العمل التجديدي

حضارة: يقال إن المفكرين والعلماء الدعاة قوالب تنتج أجيالاً بعدها.. لماذا برأيك لم نجد لهم أمثالاً في هذا العصر؟ هل العيب في القالب أو في الـمُنتج؟

د. محمد عمارة: العمل الفكري الإسلامي يتولّد وينمو في مواجهة التحدّيات، ولكن يبقى توازن القوى هو المشكل، عندما تكون التحدّيات شرسة وقوية ومدعومة من جهات كثيرة، فيكون هناك انكماش في العمل التجديدي والعمل الفكري، وخذ على سبيل المثال، أنا أحياناً ألتقي بالصدفة بطاقات وإمكانات شبابية كثيرة لكنها لا تجد المنابر التي تفتح الأبواب أمام هؤلاء الشباب، ولذلك من الأشياء التي يجب أن نهتم بها أنه كيف نجمّع هذه الطاقات وكيف نفتح أمامها الأبواب، وأنا ألتقي بشباب عندهم مؤلفات جيدة جدا وكثيرة جدا، ولكنه لا يجد ناشراً، ونحن نبذل جهدا كبيرة في التقديم لكتب عدد من الشباب من أجل أن نفتح لهم أبواب النشر، ولكن لو كان عندنا مؤسسات لرأينا أن هذه المشاكل كلها تُحل.. ولكان تواصل الأجيال من المفكرين والعلماء والباحثين سلساً وأفضل.

الدفاع عن الإسلام

حضارة: دفاع بعض المسلمين حين يُـهاجَم الإسلام.. كيف تُقيّـمون هذا الدفاع بشكل عام؟

د. محمد عمارة: بعضه عاقل وراشد، وبعضه انفعالي وردود أفعال، وأنا أقول: الغضب مشروع وخصوصاً عندما يكون لله وللرسول (صلى الله عليه وسلم)، لكن في الغضب لا يجوز يمين الغاضب، ولا يجوز قضاء الغاضب، والغضب ليس حلاًّ للمشكلات، والغضب من الممكن أن نسمح به لشرائح محددة، وهذه الشرائح ليس لها سوى الغضب، وهي تعبّر عن غضبها، فنحن عندما نواجه الرسوم المسيئة للرسول (صلى الله عليه وسلم) وأعمال (الإسلامفوبيا) فعندما تغضب العامة والجماهير فهذا شيء طيب ومشروع، وأما أن تكون الوسيلة فقط هي الغضب فإن هذا ليس حلاًّ، فنحن عندنا المشاريع الفكرية والعمل الفكري والعمل الثقافي، وتقوية الأمة هو الحل؛ فليست هناك أمة تُحترم إلاّ إذا كانت قوية، ونحن نرى مواقف الغرب من الصين.. متى احترم الغرب الصين؟! عندما أصبحت قوة، ونحن ندرك أن الموقف الغربي من الإسلام هو موقف عداؤه أشد من أي حضارة أخرى، والغرب سمح لليابان لأن اليابان مجرّد مصنع، وسمح للصين لأنه مجرد مصنع، وبالطبع سمح لهم وهو مُرْغَم وليس باختياره، ولكن العداء للمشاريع النهضوية الإسلامية عداء قديم ودائم وحادّ، لماذا؟ لأن الحضارتين اللتين تمتلكان عطاءً عالميّاً خارج الحدود، هما الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية.. بينما الحضارة الصينية لا يمكن أن تتمدّد في العالم، والحضارة اليابانية لا يمكن أن تتمدد في العالم، ولذلك فــإن عين الغرب على الحضارة الإسلامية لأنها المنافس الحقيقي والدائم للحضارة الغربية، وهذا حتى مع الشرق قبل الإسلام وعلى طيلة عشرة قرون من الاحتلال الغربي للشرق قبل الإسلام.. فالإسلامفوبيا هذا له جذور قديمة.

دعاة الليبرالية والعلمانية

حضارة: الصوت العالي لدعاة الليبرالية والعلمانية،. هل ترونه نتيجة متوقعة لخفوت صوت المفكّر الإسلامي، ولعدم تفاعله مع المجتمع؟

د. محمد عمارة: لا .. لأن الغرب صنع هذه التيّارات وسلّمها مفاتيح المؤسسات، عندما أراد أن يرحل بجيوشه سلّمها مفاتيح المؤسسات، فكان في غيبة الإسلاميين وفي عداء مع الإسلاميين، ولذلك فهي قلّة ولكن صوتها عالٍ، بالضبط كما في التطرّف الإسلامي فهي قلّة وأنا شبَّهتها بالناقوس حجمها محدود ولكن صوتها مزعج، وأيضاً الصوت الليبرالي صوته محدود ولكن صوته عالٍ ولفاعليته، ويمكن لأن أدوات الإعلام الحديثة من تلفزيون وغيرها تجعل لهم انتشاراً أكبر.. لكن أقول: في النهاية هوية الأمة هي معاكسة لتأثيرات وفاعليات هذه الحركات وهذه التيارات، وإن على الإسلاميين أن يمتلكوا أدوات الفكر والثقافة الإعلام الآداب والفنون، وبالتالي يكون لهم الجمهور الأوسع، وإذا كان يوجد هناك إشباع إسلامي للعقل المسلم وللروح الإسلامية والوجدان المسلم، ويجب أن لا تترك هذه الميادين فراغاً للتمدّد الليبرالي والعلماني.

تجدُّد الفقه

حضارة: هل ترون الآن أن الأمة بحاجة إلى فقه جديد وفهم جديد، يتلاءم والأوضاع التي تعيشها، أو نبقى في إطار إصلاحات قديمة لمشكلات مستجدة؟

د. محمد عمارة: يبقى تجدُّد الفقه سنة كونية واجتماعية؛ لأن الواقع المتغيّر دائماً وأبداً يحتاج إلى فقه دائم ومتغيّر دائمًا وأبداً.

النظام السياسي

حضارة: كيف تنظرون للمقارنة بين النظام السياسي الديمقراطي الغربي وبين النظام السياسي الإسلامي؟

د. محمد عمارة: النظام الديمقراطي الغربي نراه من ناحية الآليات.. بمعنى تقدير الرأي العام، واللجوء إلى الاقتراع، والاحتكام إلى سلطة الأمة، فهي التبادل السلمي للسلطة، كون آليات النظام الديمقراطي مطلوبة إسلامياً وهي لها جذور إسلامية؟، ونحن قد أشرنا بأن الدولة الإسلامية قامت على المؤسسات، ولها نفس النظام الديمقراطي، فالانتخاب والبيعة وتبادل السلطة كل هذه الأمور الديمقراطية لها جذور إسلامية.. والفارق بين الشورى الإسلامية والديمقراطية الغربية هو فارق في الفلسفة، لأن الديمقراطية الغربية تجعل الإنسان سيّد الكون، وحاكميّته مطلقة في هذا الكون، والشورى الإسلامية تجعل الإنسان سَــيّــداً في الكون وليس سيداً للكون، لأنه خليفة لسيد الكون، ولذلك كلمة الإمام "محمد عبده":" الإنسان عبدٌ لله وحده، وسيّدٌ لكلّ شيء بعده".. فهذه تعبِّر عن الشورى الإسلامية، بان نحن عندنا الإنسان سيّدٌ في الكون لكنه خليفة لله سبحانه وتعالى، ومحكوم بإطار الشريعة الإلهية.. بينما الديمقراطية تجعل الإنسان سيداً للكون وبالتالي ليس هناك سقف على حريته ولذلك تجد الآن هناك الشذوذ وغيرها من الأشياء المحرّمة، فالديمقراطية الغربية فيها نفع وضرر ولكن ليس فيها حلال وحرام، بينما الشورى الإسلامية فيها النفع فإن هذا حلال، وفيها الضر وهذا حرام، وهناك سقف على حرية الإنسان التي هي نظرية الاستخلاف لله سبحانه وتعالى؛ وهذا هو الفرق الفلسفي، أما الآليات والنظم والمؤسسات فإن هذا فكر إنساني نأخذه من كل البلاد وبالذات من النظام الديمقراطي.

كتابة تجربة

حضارة: هل تؤيدون كتابة تجربة صعود الحركات للحكم بعين الناقد أم بعين المؤرخ المحايد؟ وهل تؤيدون إعادة كتابة تأريخ نشأتها؟

د. محمد عمارة: ليس هناك فارق بين عين المؤرخ وبين عين الناقد، لأن المؤرخ لا بد أن يكون ناقداً، والناقد لا بد أن يكون دارساً للتاريخ، وطبعاً هناك سلبيات ولكن أنا قول: إن الإيجابيات في العمل الإسلامية كبيرة وكثيرة، وهو العصفور الذي في يَــدنـا، وليس هناك بديل للعمل الإسلامي وللعاملين في المجال الإسلامي، ومن هنا لا بد أن يكون النقد من أجل المزيد من الإصلاح، ولمزيد من التقويم، ويكون مدفوعاً بالحرص على هذه الكيانات؛ لأن هذا ـ كما قلت ـ هو العصفور الذي في يدنا، وهي الطريق إلى النهضة بهذه الأمة.

كلمة أخيرة

حضارة: هل لكم من كلمة أخيرة توجهونها للعراقيين خاصة والأمة الإسلامية عامة؟

د. محمد عمارة: أنا أقول لإخواننا في العراق: إن الوعي في التأريخ يجعل الإنسان لديه قدرة كبيرة على صناعة التأريخ، والوعي بالمآسي التي مرت بها الأمة ومنها العراق على وجه التحديد يجعلنا لا نيأس من رحمة الله ولا نيأس من المستقبل، ولا بد من الانفتاح على القوى النظيرة والمماثلة في المحيط العربي والمحيط الإسلامي، ولا بد من تجميع الطاقات الإسلامية، ويكون الرهان على عراق (عربيّ، مسلم، متضامن مع الأمة العربية والأمة الإسلامية) ولا بد من الوقوف ضد الهيمنة الـصَّـفَـوِّيّـة الـفـارسـيّـة وهذا التمدّد الذي يحدث الآن، لأن في النهاية لا يـصـحّ إلاّ الصحيح.

وأنا على ثقة كبيرة من أننا سنتجاوز هذا المأزق الحضاري والسياسي الذي نعيش فيه إن شاء الله.

حضارة: نشكر لفضيلة الدكتور محمد عمارة إجاباته الوافية الشافية على أسئلة (حضارة) وعلى قبوله إجراء هذا الحوار سائلين الله أن يوفقه ويجزيه عنا كل خير وأن يمدّ في عمره لخدمة الأمة وقضاياها.


[1]  رواه الإمام أحمد في المسند، تحقيق شعيب الأرنؤوط، وقال: ((إسناده ضعيف.. ولم نقف على هذا الحديث عند غير المصنف))،33/423 ح(20308).

مقالات اخرى

Melbourne Web Design & Development
menu-circlecross-circle linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram