حوار مع الباحث في التأريخ الأستاذ محمد إلهامي

26 يوليو, 2021

  1. من يكتب التاريخ؟ المنتصر، أم المنكسر؟

التاريخ هو رواية إنسانية للوقائع، وهذه الرواية تنتج متأثرة بالبيئة والواقع وعلاقات القوى المسيطرة عليه، وهذا معنى "التاريخ يكتبه المنتصر" لأن السلطة حريصة دائما على إنتاج المعرفة والأفكار، ومن هذا الحرص: إنتاج روايتها للتاريخ التي تدعم شرعيتها وأفكارها وقيمها وغاياتها. لذلك فكلما ابتعدت الفترة المدروسة عن تسجيلها كلما كانت كتابتها أفضل لخفوت تأثير القوى المسيطرة والكشف عن روايات ووثائق أرادت لها السلطة أو شبكات القوى أن تختفي، ولهذا ترى مدارس تاريخية أخرى أن التاريخ ينتصر على السلطة في نهاية الأمر، لأنه يمكن دائما استخلاص التاريخ الذي شاءت السلطة تغييبه. وتشكلت منذ نحو القرن مدارس تاريخية تهتم بكتابة التاريخ من وجهة نظر المغلوبين، وتحرص على التاريخ الشفوي، وعلى تتبع روايات المُهَمَّشين.

بقدر ما بقيت وسائل التواصل وسيلة شعبية حرة مفتوحة بقدر ما أمكن للمغلوبين أن يسجلوا عليها روايتهم للتاريخ، لكن للأسف ليس هذا هو الواقع دائما، فوسائل التواصل نفسها هي من أدوات هيمنة الغالب، ونحن في هذا العالم المعاصر لدينا غالب عالمي وهو القوى الغربية وفي ذروتها الأمريكية، وهذا فضلا عن الغالب المحلي الإقليمي الذي وصل إلى السلطة عموما بدعم وإسناد هذا الغالب العالمي. ومن هنا فإن شبكات التواصل جزء من المنظومة العالمية الخاضعة لقوانينها فهي تمارس مكافحة "الإرهاب" وتستعمل للقضاء على "التطرف"، وتفسير هذه الألفاظ هو بطبيعة الحال من احتكار الطرف القوي الغالب، ولهذا تعمل وسائل التواصل نفسها كأداة في تتبع وإغلاق الصفحات والحسابات التي تنشر ما لا يتفق مع "القوانين" التي وضعها هذا الغالب.

ومن جهة أخرى، فإن وسائل التواصل أيضًا تهتم بجني الأرباح، ومن هنا فإن قوة المركز المالي مؤثرة في القدرة على نشر الرسالة الإعلامية عبر وسائل التواصل، فمن يملكون الأموال يستطيعون أن ينشروا رسالتهم بقوة وانتشار أكبر بكثير ممن لا يملكون هذه الأموال، بل يمكنهم تنظيم الحملات التبليغية على خصومهم من خلال توظيف عاملين لمراقبة ومتابعة ومهاجمة أولئك الخصوم على وسائل التواصل الاجتماعي. وبهذا الشكل لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة محايدة أو حرة أو متاحة للجميع بنفس القدر، وصارت رواية الغالب المنتصر ذي القوة والمال أكثر رواجا عليها أيضًا.

ربما يستغرب الكثيرون إذا قلنا بأن ما وضعه علماء الحديث من القواعد هو أقوى وأمتن ما يمكن أن يوضع في التحقيق التاريخي، فهم تتبعوا كل رواية من حيث سندها ومتنها، ثم تتبعوا كل سند من حيث اتصاله وانقطاعه، ومن حيث حفظ وإتقان رجاله، وتتبعوا كل متن من حيث اتفاقه واختلافه مع الروايات الأخرى، ووصلوا إلى مستوى من الدقة في حفظ السنة ما قيل عنه بحق أنه لو طُبِّق على التاريخ الإنساني لم يبق ثمة تاريخ!

إلا أن قواعد هذا العلم وأصوله ترسم المنهج العام لقراءة التاريخ، مع تساهل في مسائل السند واتصاله ورجاله، ويمكن فهم التاريخ كأقرب ما هو إلى الواقع إن تتبعنا روايات المؤرخين وفهمناها ضمن موقعهم من الحدث قربًا وبعدًا في الزمان والمكان، وضمن موقفهم واتجاهاتهم الفكرية التي يفسرون بها الأحداث، وضمن قيمتهم من الصدق والأمانة والدقة. ويسبق هذا كله الدأب في جمع الروايات التاريخية من مصادرها ومظانها المتعددة، فكل ما يتعلق بالحدث قد يضيف إليه بعدًا في فهمه وتفسيره لم يكن متاحًا بدونه.

هذا سؤال مهم، لأنه يخلط بين أمرين يجب الفصل بينهما:

الموضوعية شيء، وتفسير التاريخ شيء آخر، الموضوعية هي محاولة تكوين الصورة التاريخية نفسها والوصول لأقرب وصف ممكن من حقيقة ما حدث في الواقع، بحيث تكون وسائل تكوين هذه الصورة وسائل علمية منهجية لا يتدخل الهوى والانحياز في بنائها.

أما التفسير فشيء آخر، التفسير هو رؤية المؤرخ لمعاني ودلالات ودوافع وآثار هذا الحدث التاريخي، هذا التفسير هو عمل إنساني كامل، لا يمكن فصله عن أفكار المؤرخ وانحيازاته ورؤاه، وطالما أن المؤرخ يقوم بعمله البنائي بشكل منهجي سليم فلا يمكن لومه على التفسير الذي وصل إليه مهما كان مختلطًا بأفكاره وانحيازاته.

لكن المعضلة الحقيقية التي تبرز عمليًا هو أن المؤرخين يروون التاريخ وقد اختلط فيه بناء الصورة التاريخية بتفسيراتهم وانحيازاتهم، وهذا هو ميدان الفحص والدراسة، بمعنى أن عمل المؤرخين جميعًا هو محاولة الفصل بين الحدث التاريخي وبين تفسير المؤرخ له، ومحاولة اختبار مدى صحة ودقية وقيمة هذا التفسير.

ولكي نضرب مثالًا يتضح به المقال، لنفترض أن لدينا معركة وقعت بين طرفين، فمجال الموضوعية هنا أن نصل إلى أفضل وصف لهذه المعركة كما حدثت، وهذا عمل علمي منهجي يكاد أن يكون محايدًا. أما مجال التفسير فهو أن يُنظَر في الدوافع التي أدت لنشوب هذه المعركة، هنا سينحاز المؤرخ إلى أفكاره، فتجد أن الماركسي يبحث ويفسر في الصراع الطبقي والدافع الاقتصادي بين الطرفين بينما يبحث المؤرخ القومي في صراع الأجناس العليا والدنيا، بينما يبحث المؤرخ الديني في الدوافع الدينية التي أشعلت الصراع بينهما.. فهذا هو التفسير الذي هو جزء من الفلسفة ومن التصور العام الذي يعتنقه المؤرخ.

التاريخ ليس سائلًا إلى الحد الذي تصلح له كل التفاسير بطبيعة الحال، وتظل هناك تفاسير خاطئة ومتكلفة ومتعسفة كما هناك تفاسير صحيحة وقوية.. لكن القصد الذي أريد بيانه هنا هو الفصل بين مسألة الموضوعية ومسألة التفسير.

نحن كمسلمين حين نعتنق التفسير الإسلامي للتاريخ فلا يعني هذا مساسًا بالموضوعية، بل الموضوعية من الواجبات على المؤرخ المسلم؛ لأنها من ضرورات التزامه بالمنهج الإسلامي في البحث والتفسير، فأول خطوات التفسير الصحيح الذي هو نفسه التفسير الإسلامي عندنا أن نصل إلى حقائق المعلومات، وقد وصف الله هذا المنهج في قوله تعإلى (لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ما كان حديثًا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). ففي هذه الآية نركز على قوله تعإلى (ما كان حديثًا يُفترى) أي أن الصحة والدقة في وقائع التاريخ هي التي يؤخذ منها العبرة والعظة، فالموضوعية في البحث والنظر وتكوين الصورة التاريخية من أصول المنهج الإسلامي في فهم وتفسير التاريخ. 

نعم، وهذه المقولة موجودة في كتاب ربنا في قوله تعإلى (ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا)، فلقد أخبرنا الله أن له سننا مضطردة في الكون، وهذا هو نفسه معنى التكرار والإعادة، ولو أن التاريخ مجرد نهر يجري لا يتشابه لما كان منه استفادة، ولكن حيث أُمِرْنا بالنظر فيه والاعتبار منه فقد دلَّ هذا على أنه يتكرر ويتشابه.

وأجد من السذاجة والتفاهة هنا أن نقضي وقتًا في نفي أن الذي يتكرر هي الأشخاص والأحداث بحذافيرها، فالمعلوم أن الميت لا يعود للحياة من الأشخاص أو الأحداث، إنما الذي يتكرر هو هذه السنن نفسها.. ولهذا فمن أدق وألطف ما في الرواية القرآنية والنبوية للتاريخ أنه لا يتوقف عند التفاصيل الصغيرة، لن تعرف اسم كلب أصحاب الكهف ولا الزمن الدقيق للسنوات التي قضوها، ولا التحديد الدقيق لمكان الكهف ولا اسم الملك الجبار... إلخ! وهذه إشارات إلى أن المهم من التاريخ هو فهم السنن لا حفظ ولا تكويم الأسماء والتواريخ والتفاصيل الصغيرة.

السنن هي التي تتكرر، ولهذا فالتاريخ صورة لما نحب وما نكره، وهو تمهيد لنا لاختياراتنا القادمة، بحلوها ومرها، مآسيها ومفاخرها، والجهل بالتاريخ شبيه بفقدان الذاكرة، والفارق بين أمة تهتم بالتاريخ وأمة لا تهتم به هو أضعاف أضعاف الفارق بين سليم الذاكرة وفاقدها.

الحديث عن التاريخ كأنه شخصية عاقلة لها إرادة وتدبير هو من التأثر بالرؤية الغربية التي تهوى أحيانًا أن تعبر عن الحياة كلعبة عبثية كبرى، مثل هذه الرؤية هي التي يُمكن أن يصدر عنها مثل هذه الأقوال أو التصويرات الدرامية!

التاريخ هو سيرة البشر، بتفاعلاتهم المتعددة، والأبطال والضحايا هم على السواء سائرون إلى ربهم وهو يحاسبهم، فغمسة واحدة في الجنة كفيلة بإذهاب ألم الضحية إن كان من أهل الجنة، وغمسة واحدة في النار كفيلة بإذهاب نعيم البطل إن كان من أهل النار. وليس من اللازم أن ينصف التاريخ الأبطال أو الضحايا، قد يحدث هذا وقد لا يحدث.. لأن الإنصاف والعدل أمر خارج التاريخ وخارج البشر، هو أمر موكول إلى الله تعإلى ومؤجل إلى يوم القيامة.

لكن المهم هنا والذي ربما يقصد السؤال إليه، هو أن التاريخ فوق قدرة البشر على صناعته وتغييره وتزويره، إذ مهما بلغ إنسان من القوة والطغيان والنفوذ فإن آخر ما يستطيع فعله هو فرض روايته التاريخية لمدة ما، فإذا انتهى ثم انتهت دولته وسطوته انبعث من يعيد بناء تاريخه من جديد. ضرب الله مثلا بفرعون كأطغى البشر، وهو مع ذلك يُلْعن صبحًا وعشيًا. وقبل أيام قليلة أزيل تمثال كريستوفر كولومبوس من نيويورك بعد تصاعد المطالبات بذلك لكونه لم يكن مكتشفًا وإنما سفاحًا في سلوكه مع السكان الأصليين لأمريكا، وهي لحظة فارقة لإزالة التعظيم المتعلق بكولومبوس على المستوى الشعبي من بعد ما زال هذا التعظيم قديما على المستوى البحثي الأكاديمي. إلا أن الذي ينبغي الإشارة إليه هنا هو أن أحدًا لا يملك إنصاف ضحايا كولومبوس الآن، بل ولا كانت إزالة تمثاله تمثل العدالة تجاهه، تبقى هذه الأمور –كما قلنا- موكولة إلى الله ومؤجلة إلى يوم القيامة.

بغداد لها رنين لذيذ في قلب كل مسلم، بل في قلب كل إنسان يحب الإنسانية والعلم والثقافة والحضارة، حتى على مستوى اللغة، ارتداد الدال في كلمة بغداد له قوة وجمال لغوي محبوب، وأحلى من ذلك اسمها الذي سماها به المسلمون "دار السلام".

وكنت حين كتبتُ كتابي "رحلة الخلافة العباسية" أتعايش مع بغداد أحيانا حتى أعبر الزمان وأتصورني أسير في دروبها، وأشهد مجالس العلم والشعر والأدب في ساحات المساجد والبيوت والمدارس، وحين طرق سمعي بيتا القاضي عبد الوهاب:

بغداد دار لأهل المال طيبة .. وللمساكين دار الضنك والضيق

ظللت حيران أمشي في أزقتها .. كأنني مصحف في بيت زنديق

أقول: حين سمعت هذين البيتيْن لم يلفت نظري هذا التشبيه العجيب الذي شدَّ أهل اللغة بقدر ما لفت نظري ما كانت بغداد تحياه من الرفاهية والطيب حتى إن الفقير فيها كالمصحف في بيت الزنديق، أي هو شيء شاذ وغريب عن الصورة.

وكنت أشعر بالأنس لا سيما حين سمعت قول الشافعي، وهو صاحب أسفار، بأنه لم ينزل بلدًا إلا ورأى نفسه غريبًا إلا بغداد فإنه حين ينزلها يأنس إليها فتكون داره.

يضيق الكلام عن بغداد في الكتب والمجلدات، فكيف يمكن جمع ذلك في إجابة سؤال، وحين أحاول تقريب هذه الصورة لبعض الناس أقول لهم: إن بغداد كانت في زمانها عاصمة المال والتجارة والثقافة والسياسة والعمارة، فكأنها الآن مجموع واشنطن ونيويورك ولندن وباريس وروما، فما انفردت به كل عاصمة في عصرنا كان مجتمعا في بغداد في عصرها.

إذا استوعبنا الصراع الحضاري الطويل بين الحق والباطل، سنعرف ببساطة أن بغداد تمثل ثأرًا في نفوس كل من يبغض الإسلام. هذه المدينة حكمت العالم الإسلامي شرقًا وغربًا، كانت تعبيرًا عن عز الإسلام وقوته، إليها حضر السفراء خاضعون، ومنها خرجت الجيوش، كما خرجت منها المخترعات والعجائب، يكفي أن نقول كدليل على خود مكانتها أنها التي تكون فيها ثلاثة من مذاهب المسلمين الفقهية الأربعة المتبوعة: الحنفي والشافعي والحنبلي، وفيها تكونت مذاهب المتكلمين الكبرى، وكانت محافلها العلمية مصنعا لمدارس وروائع الأدب التي لا تزال حية.

مثل هذه المدينة كانت مطمعًا لأعداء الإسلام من الروم البيزنطيين قبل ألف سنة وحتى ورثتهم الأمريكان اليوم، وهي حتى الآن معقد استراتيجي عظيم بين العرب وبقية المسلمين في شرق العالم الإسلامي، وتقع على رأس جزيرة العرب فهي مدخل الحرمين الشريفين، وهي التي اجتمع فيها الحسنيان: النفط والماء!

فمع أنها تعرضت للضعف في القرون الأخيرة إلا أنها لا تزال من أهم حواضر المسلمين، ولذلك لم يخفت فيها طمع أعداء هذه الأمة منذ أن وُجِدت بغداد وحتى الآن.

المعضلة الأساسية في التاريخ الحديث والمعاصر للأمة الإسلامية أن مادته الأساسية المفصلة لا تزال بيد الأعداء، وأعني بها الوثائق وتقارير السفارات الأجنبية، كما أن أكثر وسائل إنتاجه كالمدارس والجامعات ووسائل الإعلام كانت تحتكرها السلطة الغالبة التي هي إما غربية وإما استبداد تابع للغرب ومتأثر به، لذلك تكاد تندر للغاية الكتابات التي تنطلق من أصالة الهوية مع احتراف وتمكن البحث العلمي. لأن أداة السلطة في إنتاج المعرفة وقدرتها كانت تستبعد الرواية المعارضة كما تستبعد أصحابها.

لذلك فبقدر ما ينبغي الاطلاع الواسع على المادة الأساسية لتاريخنا الحديث والمعاصر –والموجودة في وثائق وتقارير غربية- بقدر ما ينبغي الاحتراز من المفاهيم والتفاسير والرؤى المهيمنة على هذه المادة، والمهيمنة بطبيعة الحال على المدارس التاريخية التي نشأت في الجامعات والمراكز البحثية المعاصرة، لأنها فرع عن صورة الدولة والسلطة المُنشِئة لها والمُصَدِّرة لخطابها.

وتظل الكتابة التاريخية غير ممكنة بدون التحرر السياسي من الاحتلال الأجنبي ومن سلطة الاستبداد المُوَجِّهة، ليس فقط من جهة المخاطرة بكتابة تاريخ ضد توجهات السلطة، بل من جهة توفر المواد الأساسية لكتابة هذا التاريخ.

  1. قد يوصف العظماء بأنهم مسكونون بالتاريخ، وهناك من يعيب على المهتمين بالتاريخ بأن مستقبلهم ماض! كيف ترى ذلك؟

يكاد ألا يكون من عظيم في عالم الناس إلا وله اطلاع ومعرفة بالتاريخ، مهما كان المجال الذي يشتغل به إبداعيًا ابتكاريًا، ولست أعرف ممن قد يوصف بالعظمة من كان يهمل التاريخ أو يحتقر المهتمين به، الأمر متعلق –كما سبق- بأن التاريخ للأمة كالذاكرة للفرد، والفرد يعاب بكثرة النسيان ويمدح بقوة الذاكرة، وليس يقال لقوي الذاكرة: منشغل بالماضي، كما لا يوصف كثير النسيان بأنه مهتم بالمستقبل. والعارفون بتاريخ العلوم عادة ما يكونون أكثر فهمًا واستيعابًا لطبيعة وتطور هذا العلم والمناطق المحتاجة لاكتشاف فيه ومجالات تطبيقه.

  1. وثق التاريخ نشوء الحضارات؟ هل يوثق التاريخ التوحش والاستعباد والنهب والسلب؟

نعم بطبيعة الحال، التاريخ كما قلنا هو سيرة البشر، وهو ليس انتقائيًا ولا محابيًا، وبقدر ما توفرت القدرة على تسجيله بقدر ما بقيت تفاصيل الأحداث تُروى جيلا بعد جيل.

والتاريخ –بهذا الشكل- مزعج للغاية لدى أولئك الذين ارتكبوا هذه الجرائم، وبعض أولئك يُحاول إنتاج النظريات التي تجعل تزوير التاريخ واجبًا وطنيًا كما تجعل محاولة كشف حقائقه خيانة وعملًا مجرمًا.

ومن قرأ كتابا مثل "موت الغرب" الذي ألفه السياسي الأمريكي مارك بوكانان سيجد فصلا بعنوان "الحرب على الماضي"، يتحدث فيه بوضوح عن أن كشف التاريخ الحقيقي للأمريكان كمستعمرين وسفاحين يؤدي لضعف الهوية والانتماء الوطني لدى الأجيال الجديدة، ويبدي انزعاجه من المحاولات الحثيثة للمؤرخين لكشف الأمور التي طالما استقر في الوجدان الأمريكي أنها حقائق بطولية ملحمية جميلة.

على أن المرء يؤمن بأن ما وضعه الله في البشر من رغبة المعرفة ورغبة الوصول إلى الحقيقة أقوى من دعاوى تزوير وإنتاج التاريخ على وفق ما يهواه المجرم الغالب المتمكن.

  1. حواضر العرب والمسلمين بغداد ودمشق والقاهرة كيف تراها اليوم؟.

ما المسؤول بأعلم من السائل، إننا نحيا حقًا أيامًا عصيبة، فحواضر الإسلام الكبرى كلها تحت الاحتلال، الاحتلال الأجنبي المباشر أو الاحتلال بالوكالة، مما يجعل الأمة الإسلامية في حالة أشبه ما تكون بالمشلول، فهذه الحواضر بالنسبة للأمة كالمراكز الدماغية بالنسبة للجسد، وليس يمكن حقًا تحرير بيت المقدس أو العودة للمكانة القوية العالمية دون أن تتحرر هذه العواصم وتنهض: مكة ودمشق وبغداد والقاهرة، بل إن تحرر عاصمة واحدة من هذه تساوي نقلة ووثبة في حال الأمة، فإذا أضيفت لها أخرى تمكنتا من تحرير الثالثة والرابعة.

نحن بحق نعيش محنة كبرى، ونسأل الله أن تكون هذه آخر درجات المحن، لتكون أيامنا القادمة أيام الفرج والخروج منها، فإن الأمة الآن كالأيتام على موائد اللئام وكالفريسة تؤكل من كل جانب، حتى لم يعد بعضها يشعر ببعض.

  1. هناك من يقول إن بغداد ضاعت كما ضاعت الأندلس كيف ترد على هذا القول؟

هذا خاطر صعب ومفزع ينزعج المرء من مجرد تصوره، لكن أول ما ينبغي محاربته هو انتشار مثل هذه القناعة التي تؤدي بطبيعتها للضياع والاستسلام.

فإن الأندلس ذاتها لم تضع إلا بوجود هذه النفسية، تلك التي بدأت مع قول شاعر الأندلس بعد سقوط طليطلة:

يا أهل أندلس شدوا رحالكمُ .. فما المقام بها إلا من الغلط

الثوب ينسل من أطرافه وأرى .. ثوب الجزيرة منسولا من الوسط

وعاشت الأندلس بعد قوله هذا أربعة قرون، ولو استمع له الناس فشدوا رحالهم لم تعش بعد قوله هذا يومًا!.. وحتى حين بدا سقوط غرناطة انقسم العلماء حينها إلى رأيين، رأي يرى البقاء والدفاع والمواجهة وعبَّر عنهم (أحمد بن أبي جمعة الوهراني) في فتواه لأهل الأندلس بالبقاء مع الصبر والتمسك بالدين، ورأي يرى وجوب الخروج من الأندلس وعبر عنهم (الونشريسي) في فتواه "أسنى المتاجر فيمن غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر" وقد انتصر هذا الرأي الأخير، وكتابه مشتهر أكثر من كتاب الأول.

الضياع ليس حتمية تاريخية لا لبغداد ولا حتى للأندلس، بل الأمر منوط بالمجاهدين والمكافحين والمخلصين، ومن أغرب ما أتذكره في هذا السياق أن مفتي القدس الشيخ أمين الحسيني حاول أن يتوسط في قضية المغرب لدى ألمانيا –التي كانت تربطه بها علاقات جيدة في وقته- لتساعد المغاربة ضد الاحتلال الفرنسي، ولما رأى من الألمان نكوصًا حاول تحذيرهم بأن هذا قد يدفع المغاربة للتواصل مع الاتحاد السوفيتي بحثًا عن استقلالهم، وهنا فوجئ الشيخ الحسيني –وفاجأنا لما حكى هذا- بأن مستشار الخارجية الألمانية قال له: نحن لا نخشى من الاتحاد السوفيتي (وهو حينئذ قوة عظمى وعدو لهم في الحرب العالمية الثانية) وإنما نخشى أن يتحد المغاربة مرة أخرى فيكررون سيرة الأندلس! فلك أن تتخيل كيف كان العرب وهم أصفار ممزقون في ميزان القوى الدولية أكثر إرعابًا لأوروبا من الاتحاد السوفيتي، ومنه تعرف: أنهم ما زالوا حتى الآن يخشون أن تعود الأندلس!! فكيف نتحدث عن ضياع بغداد؟!!

محمد إلهامي

(سيرة ذاتية مختصرة)

-   35 سنة، مصري، مقيم باسطنبول

-   باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية، مدير وحدة الحركات الإسلامية بالمعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية (اسطنبول)، عضو رابطة الأكاديميين العرب بتركيا، مُحَكِّم بعدد من الدوريات العلمية العربية.

-   دبلوم فني في الاقتصاد الإسلامي بتقدير ممتاز.

-   باحث في مرحلة الماجستير في الاقتصاد الإسلامي بجامعة صباح الدين زعيم (تركيا).

-   كاتب بعدد من الدوريات منها: مجلة المجتمع الكويتية، مجلة البيان السعودية، مواقع: الجزيرة، تركيا بوست.

-   شارك في عشرات المؤتمرات والندوات الدولية في تركيا ومصر وقطر والسودان وغيرها.

-   له نحو ثلاثمائة لقاء تلفازي في قنوات: الجزيرة، TRT (العربية)، الشرق، مكملين، الرافدين.. وغيرها. بالإضافة إلى عشرات المحاضرات والدورات في مجال الفكر والتاريخ الإسلامي.

-   صدرت له10 كتب، أهمها:

-   في أروقة التاريخ – الجزء الأول (2017)

-   في أروقة التاريخ – الجزء الثاني (2018م)

-   نحو تأصيل إسلامي لعلم الاستغراب (2015م)

-   منهج الإسلام في بناء المجتمع (2015)

-   محيي الدين بيري ريس (2014)

-   رحلة الخلافة العباسية (3 مجلدات) (2013)

-   التأمل (2010)

-   بالإضافة إلى العديد من الدراسات العلمية المحكمة المنشورة بمراكز بحوث ومجلات علمية مصرية وعربية.

   الباحث الرئيس لثلاث بحوث فازت بجوائز دولية، تحت إشراف د. راغب السرجاني:

-   منهج الإسلام في حماية البيئة – جائزة الأمير نايف، السعودية (2012م)

-   المشترك الإنساني بين الشعوب – جائزة كانو، البحرين (2012م)

-   ماذا قدم المسلمون للعالم – جائزة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، مصر (2010)

   زكاه العديد من العلماء والمؤرخين منهم: الشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، د. وصفي عاشور أبو زيد، د. فيصل الحفيان، ود. مازن مطبقاني، ود. محمد موسى الشريف، ود. محمد عباس، ود. راغب السرجاني، ود. عطية عدلان، ود. عبد السلام البسيوني، ود. حاكم المطيري.

   للتواصل:

-   بريد إلكتروني:[email protected]

-   هاتف: +905376929997

-   المدونة:http://melhamy.blogspot.com

-   تويتر: https://twitter.com/melhamy

مقالات اخرى

Melbourne Web Design & Development
menu-circlecross-circle linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram