أصول الفقه ومقاصد الشريعة علاقة الفصل والوصل

13 أبريل, 2022

إزيدبيه الإمام ([1])

بين يدي الإشكال:

    يطرحُ البحثُ المقاصديُّ إشكالاً منهجيا يتعلق بعلاقة الفصل والوصل بين أصول الفقه ومقاصد الشريعة رغم اتفاق العلماء على دور مقاصد الشريعة في توجيه آليات الاستنباط الأصولي وعلى أهميتها في تحقيق الاجتهاد الفقهي المصلحي.

    وبالرغم من وجود بعض الدراسات التي عُنيت ببيان وجوه علاقة أصول الفقه بغيرها من علوم الشريعة إلا أن الدراسات عزّت في مجال علاقتها بالمقاصد، كما أن القول باشتراط المقاصد في العملية الاجتهادية يطرحُ تساؤلات مهمة عن علاقتها بأصول الفقه.

فهل مقاصد الشريعة علم مستقل؟ أم هو جزء من أصول الفقه؟

وهو ما دعا إلى البحث لسبر أغوار هذا الإشكال؛ وسنحاول بسط قضية القول باستقلالية مقاصد الشريعة عن أصول الفقه كعلم قائم بذاته، وذلك في ضوء المحورين التاليين:

العلاقة من حيث الاتحاد والتداخل:

    شكّل البحث في مقاصد الشريعة أساس الفكر المقاصدي عند الأصوليين، كما أنَّ الفكرة المقاصدية نشأت باعتبارها جزءاً من باب القياس عند تقسيم الأصوليين للعلة بحسب قصد الشارع، ومن ثَم كانت المقاصد لا تتجاوز كونها مبحثا من مباحث أصول الفقه.

ثم توسّع القول بها إلى عدّها شرطاً للمجتهد، وُصولا إلى القول "بعلم المقاصد" مع الإمام محمد الطاهر بن عاشور.

    ومن خلال تتبع أقوال المجتهدين الذين برزت لديهم المقاصد - بعد أن كانت لا تتعدى في وجودها السلائق والأفهام([2])-، يظهر للباحث أن ذكر المقاصد مع اختلاف المناسبات لا يكاد يستقل عن الاجتهاد الذي يقوم على أصول الفقه، فهناك ارتباط قوي بين أصول الفقه وعلم المقاصد.

    مما جعل علماء الأصول يكتفون بذكر المقاصد والتّعرض لها لكونها مقترنة اقترانا تلازميا مع أصول الفقه في نسقها التقليدي الذي أبدعه الإمام الجويني في "برهانه"، وطوّره الإمام الغزالي في "مستصفاه"، ثم أفاض الإمام الشاطبي في شرحه من خلال "موافقاته".

    فتركزت كتاباتهم حول بيان أهمية المقاصد في أصول الفقه إثباتا وتنزيلا في المرحلة الأولى، وإبرازُ المقاصد كمفهوم أساسي وبالغ الأهمية في توجيه الاجتهاد وبناء المنهجية الاجتهادية؛ ودور المقاصد في نخل بعض مباحث أصول الفقه التطبيقية النفيسة كالقياس والمصلحة المرسلة في مرحلة ثانية؛ فمقاصد الشريعة نشأت وبرزت في حظيرة علم أصول الفقه – أي ضمن مباحثه – وأخذت تتميز في نضجها وتطورها لا لخدمة ذاتها وإنما لخدمة أصول الفقه وتطويره وتفعيله، وليس لتستقل عنه، وهو ما سيؤدي إلى قصور عطائه الاجتهادي.

وما يعزز هذه النتيجة ما ثبت عند العلماء والمحققين من أن الاجتهاد يقوم على ركنين أساسيين:

أحدهما: لسان العرب، وثانيهما: علم أسرار الشريعة ومقاصدها، ومن هذين العِلمين يتكون علم أصول الفقه. وهذا ما يؤكد أن انعدام أيّ ركن منهما هو خرم وفساد لمنهجية الاجتهاد المتكاملة )أي لعلم أصول الفقه(. 
    وفي هذا المعنى يقول الإمام القرافي: "... إنَّ الشريعة اشتملت على فروع وأصول، وأصولها قسمان، أحدهما: المسمى بأصول الفقه وهو في غالب أمره ليس إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة، وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح، ونحو الأمر للوجوب والنهي للتحريم والصيغة الخاصة للعموم ونحو ذلك. ثانيهما: قواعد كلية فقهية جليلة كثيرة العدد عظيمة المدد مشتملة على أسرار الشرع وحِكمه، لكل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يُحصى، ولم يذكر منها شيء في أصول الفقه"([3]).

    وفي ضوء ما تقدم من بيان أهمية المقاصد في تطوير مباحث علم الأصول تظهر علاقتهما على مستويي التنظير والتطبيق.

ويمكن تحديد علاقة الاتحاد والتداخل بينهما في البعدين التاليين:

البعد الأول: جعل مقاصد الشريعة قسما من أقسام علم الأصول، وقد سار على هذا بعض المعاصرين من المؤلفين في أصول الفقه.

    ومن بين هؤلاء الشيخ محمد أبو زهرة، والدكتور عبد الكريم زيدان، والدكتور وهبة الزحيلي، والدكتور محمد فتحي الدريني.

فعلم مقاصد الشريعة يبدأ عند انتهاء علم الأصول لكنه متمم له عند تنزيله على الواقع في المسائل الفقهية؛ وهو ما يعني – بحسب هؤلاء - إدماج المقاصد في أصول الفقه، وقد يبدو لأول وهلة أنَّ هذا الخيار هو مسلك الشاطبي في موافقاته؛ حيث خصّص للمقاصد الجزء الثاني من الموافقات.

فالنظر في كتاب الموافقات يدل على أنَّ الشاطبي قد بنى على المقاصد الشرعية الكثير من مسائل علم أصول الفقه التي يُمكن أن تكون ذات علاقة بها.

    فمن تصفح أحكام الشريعة ونصوصها في مختلف مناحيها ومجالاتها أدرك الكثير من حِكمها وعِللها ومراميها، ومن نظر في آثارها ونتائجها رأى ما ورائها من مصالح تجلبها ومفاسدها تدفعها.

    ومن تأمل هذه وتلك؛ خرج بتصور شامل متكامل عن مقاصد الشريعة ومراميها، وتلك هي: نظرية المقاصد([4]).

وهذا ما يعني أن علم أصول الفقه وُضع في أصله لبيان مناهج الاجتهاد وضوابطه، سواءً في ذلك الاجتهاد القائم على تفسير النصوص أو على القياس، ولكنه تطور فيما بعد ليصبح بمثابة نظرية عامة للفقه الإسلامي، ولم يعد يقتصر على الحديث عن مناهج الاجتهاد ومصادر التشريع، بل تعدى ذلك إلى الحديث عن جميع العناصر ذات العلاقة بالتشريع، وظهر ذلك جليا في تقسيم الإمام الغزالي للأحكام، ووجوه دلالة الأدلة، والمجتهد الذي يستنبط الأحكام من الأدلة.

وما دام الأمر قد استقر على جعل علم أصول الفقه بهذا النظم، فإنه ينبغي البلوغ به مداه منهجاً ومضموناً، بحيث تُصبح مباحثه تُمثل نظرية متكاملة للتشريع الإسلامي، تبحث بعمق مصادر التشريع ومقاصده وفلسفته ومناهج الاجتهاد فيه وضوابطه وتطبيقه على واقع الحياة، والعلاقة بين المشرِّع والمشرَّع له، ولا شك أن تحقيق هذا يتعدى المباحث التقليدية لعلم أصول الفقه ليشمل المقاصد.

    وهذا ما يراه الدكتور إسماعيل الحَسَني لما جعل المقاصد: "عبارة عن جملة من الأصول المقصودة شرعا التي يُتوسل بها في فقه الشريعة تفسيرا وتعليلا واستدلالا"([5]).

إذًا فالمقاصد أمر مركزي - بل هي الأمر المركزي الأول – في التشريع الإسلامي؛ ومن ثم فمراعاتها واجبة في الفتوى والقضاء والتعليم، بل وفي كل شأن من شؤون الأمة عامًا كان أو خاصًا.

    والذي يظهر لي - بعد البحث - أن مقاصد الشريعة موضوع من جملة موضوعات أصول الفقه التي لا تخرج عن أحوال الأدلة الموصلة إلى الأحكام الشرعية المبحوث فيها، وأقسامها، واختلاف مراتبها، وكيفية استثمار الأحكام الشرعية عنها، وذلك من عدة وجوه([6]):

    وانطلاقا مما سبق فإن للمقاصد أصولا كبرى فوق علم الأصول وأصولا عامة مشتبكة بمباحث الأصول، وأخرى أخصّ من ذلك إلا أنها في خدمتها مفصلة لها ومبينة تارة أخرى([8]).

وهو ما يجعل الترابط والتداخل بين عِلمَي الأصول والمقاصد قويّاً، ذلك أن علم المقاصد إنما برز مع علم الأصول، بل إنها – أي المقاصد – تعتمد في وجودها على أصول الفقه.

العلاقة من حيث الاختلاف والاستقلالية

    يُعد الإمام محمد الطاهر بن عاشور أول من دعا بوضوح إلى فكرة جعل مقاصد الشريعة الإسلامية علما مستقلا عن أصول الفقه، وذلك في مرحلة يمكن اعتبارها من مراحل عملية تأصيل الأصول المقاصدية، أو تقصيد المقاصد؛ حيث يشرح ابن عاشور فكرة الاستقلالية في قوله: "فنحن إذا أردنا أن ندون أصولا قطعية للتفقه في الدين حق علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة، وأن نعيد إذابها في بوتقة التدوين ونعيرها بمعيار النظر والنقد، فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي علقت بها، ونضع فيها أشرف معادن الفقه والنظر، ثم نعيد صوغ ذلك العلم ونسميه علم مقاصد الشريعة، ... نعمد إلى ما هو من مسائل أصول الفقه غير منزوٍ تحت سرادق مقصدنا هذا من تدوين مقاصد الشريعة، فنجعل منه مبادئ هذا العلم الجليل علم مقاصد الشريعة..."([9]).

    ومما لا شك فيه أن ما اقترحه الشيخ ابن عاشور رحمه الله في دعوته إلى استقلالية علم المقاصد([10]) عن علم أصول الفقه يفيد من خلال ظاهر عباراته إيهاما واضحا، وهذا من حيث أنه في مطلع دعوته دعا إلى نخل علم الأصول في كل مسائله بحيث لا يبقى فيه إلا ما هو قطعي، ثم يضيف له أشرف معادن مدارك النظر – ولعله يقصد بذلك ما علق بالمقاصد من كليات وأصول – ويُطلِق على ذلك "علم مقاصد الشريعة"، ولكن من جهة أخرى يترك علم أصول الفقه على حاله – أي من غير إدخاله في علم المقاصد الجديد – بعد أن يقتصر في مضمونه على مباحث طرق تركيب أدلة الفقه أي مباحث قواعد الدلالات اللفظية.

    والواضح أن هذه الكيفية في الاستقلال مدعاة لأن نتوهم منها أن علم أصول الفقه المتبقي لا علاقة له بالمقاصد، أو أنه ليس قطعيا ولا يرقى لأن يلحق بعلم المقاصد المقترح..

فكيف لشيخ الزيتونة أن يُخرج هذا المبحث مع أهميته في تحديد المقاصد الجزئية من علاقة مباحث الاستنباط الأصولية – التي تأخذ الحيز الأكبر من علم أصول الفقه – بمقاصد الشريعة، ومن جهة أخرى يقر بدورها في معرفة العلل أو ما أسماه بالأوصاف، أي بواعث التشريع ومقاصده.

ونظرا للعلاقة الجوهرية بين المقاصد وأصول الفقه فكيف يُستساغ عمليا الفصل بينهما ويُتصور؟

    بعد الحديث عن مقترح ابن عاشور يحسن بنا أن نشير إلى ما ذهب إليه عبد المجيد الصغير من أن ابن عاشور مسبوق إلى القول باستقلالية المقاصد من طرف إمام الحرمين أبي المعالي الجويني.

حيث يرى الصغير أن الإمام الجويني لم يقم فقط بإبراز المقاصد الشرعية بوصفها مفهوما قائما بذاته "مهيمنا على باقي العلوم الشرعية، بل إنه تميز عن سالفيه ومعاصريه بشيئين اثنين: أحدهما طرحه لأول مرة موضوع مقاصد الشريعة كعلم جديد متميز بقواطع أدلته، وتجاوزه للخلاف، واستقلاله عن المذاهب الفقهية الفروعية، بل وعن أصول الفقه الظنية نفسها..."([11]).

    وهذا كلام صريح في أنه يرى أن الجويني سعى لتأسيس علم المقاصد ليكون "مرجعية قائمة على اليقين والقطع لتجاوز الأحكام الظنية للفقه وأصوله"([12]).

ثم جاء الإمام الشاطبي بعد ذلك ليطوره.

    ويربط عبد المجيد الصغير في كتابه "مشروع التأسيس لعلم المقاصد" بمهمة الإنقاذ السياسي والاجتماعي للأوضاع المتردية التي آل إليها العالم الإسلامي([13]).

          وقد ذهب عبد المجيد الصغير إلى أبعد من القول بسعي الجويني إلى تأسيس علم مستقل بالمقاصد، حيث يقول: "كانت محاولات الجويني تلمس طريق القطع واليقين وتجاوز علمي الفقه والأصول بداية حقيقية في طريق الوعي بالمقاصد الشرعية الكلية..."([14]).

ليشير الصغير في نهاية دراسته لكتاب الجويني، إلى أن ما فعله الجويني ليس تأسيساً حقيقيا لعلم المقاصد، وإنما هو: "... تبشير بعلم جديد أقرب ما يكون إلى علم مقاصد الشريعة الكلية الضرورية والقطعية"([15]).

ومن الناحية العملية حتى على افتراض قيام علم مستقل بمقاصد الشريعة فإنه لا يمكنه أن يكون بديلا عن علم أصول الفقه.

          أما ما يتحدث عنه الجويني من الاقتصار على القواعد العامة )أصول الشريعة( فهو حالة استثنائية عند الغياب الكامل لمن له القدرة على الممارسة الفقهية بجميع أنواعها ومراتبها، بما في ذلك نقل المذاهب والآراء الفقهية المدونة.

إضافة إلى أن ما يتحدث عنه الجويني من قواعد كلية قطعية مستمدة من المقاصد العامة للشريعة إنما هي في الواقع ثمرة الممارسة الفقهية، وفرع منها، وهي مشمولة بشكل مباشر أو غير مباشر بمبادئ علم الأصول، وبذلك فهي لا يمكن أن تكون تلك القواعد الكلية المستمدة من المقاصد العامة للشريعة بديلا عنها.

    ويلاحظ فرق بين الهدف من قواعد المقاصد التي سعى الجويني إلى تأسيسها وتلك التي سعى ابن عاشور إلى وضعها([16])، فالأول هدف إلى وضع قواعد للعوام يحتكمون إليها في المحافظة على تدينهم عند فساد الزمان وانقراض أهل العلم والإفتاء، بل ونقلة العلوم الشرعية والآراء الفقهية.

ولأهمية المقاصد بوصفها عماد الفقه واستنباط الأحكام، تحمس الشيخ ابن عاشور إلى استبدال علم مقاصد الشريعة بعلم أصول الفقه.

وهو ما جعله يسعى إلى تأسيس مبادئ وقواعد تكون عوناً لأهل العلم على التفقه في الشريعة، وهادياً لهم في استنباط الأحكام وتنزيلها على الواقع.

          إن دعوة ابن عاشور لاستقلالية المقاصد عن علم الأصول إذا كان المراد بها الاستقلالية العملية )التطبيقية( أي بفصل المنهجية المقاصدية عن الأصولية على مستوى الاجتهاد التنزيلي )التطبيقي( فهذا لا يُتصور للتلازم بينهما ولا يُستساغ؛ لأنه تجاوز لعلم أصول الفقه.

أما إذا كانت استقلالية على مستوى المفاهيم؛ أي التنظير للمفاهيم المقاصدية فهذا قد يُستساغ إلى حد ما، من حيث أن ذلك سيمثل في الظاهر علما وليداً عن علم أصول الفقه أو متفرعا عنه، وفي حقيقته يُمثل تطويرا للمنهجية الاجتهادية نحو نوع جديد من الأصول والقواعد التي تُمثل الاجتهاد المقاصدي.

ونرى أن هذا مما يجعل علم الأصول علما مقاصدياً بنفخ روح المقاصد الشرعية فيه، مع التنبيه إلى الاستقلالية النسبية بين علم الأصول وبين درس مقاصد الشريعة، سواء على مستوى المنهج، أو على مستوى الموضوع، أو على مستوى الهدف.

وينحصر الأمر إجمالا بحسب ما نرى في عبارة حاوية هي أحكام المقاصد، ومقاصد الأحكام، وأوصاف الشريعة الإسلامية.

أما تأسيس علم مستقل لمقاصد الشريعة وترك علم أصول الفقه على حاله، فأرى أنه ضارٌ بكلا العِلْمين؛ إذ ستبقى الأصول على حالها ويحرمها من روح المقاصد.

    كما أنه يُبعد المقاصد عن الدور الوظيفي الذي تقوم به حالياً والذي ينبغي أن نحرص على تطويره([17]).

وقد تحفظ الدكتور أحمد الريسوني على دعوى الاستقلالية، ورأى بتجاوز هذه الفكرة إلى الاهتمام بتطوير مباحث المقاصد ذاتها، ودعم تحفظه بقوله: "المقاصد علمٌ وركنٌ في علمٍ، والعبرة بالمسميات لا بالأسماء، وبالمقاصد لا بالوسائل ..."([18]).

فالريسوني يرى أن المقاصد علم لكنه يقر بملازمتها علم أصول الفقه نظرا لما يربطهما من معانٍ وأهداف تشريعية.

كما أن لنا في تجربة الشاطبي ما يؤكد هذا التحفظ إن لم يكن يؤصله، ففي تنظيره للمقاصد ضمن مباحث علم الأصول أفرد التنظير في مفاهيمها الكلية في الكتاب الثاني من الموافقات وبقي مبحثا من مباحث علم الأصول ذاته، ورغم أنه أطلق عليه علما في موضع واحد، لكنَّ السياق يفيد أنه قصد به أن يكون مبحثا من المعارف التي يَستند إليها علم الأصول.

وهو ما يعني تفعيلَ أصول الفقه على ضوء إعمال المقاصد في بنيتها، وتفعيلُ المقاصد عن طريق أبواب أصول الفقه، أي بمعنى معالجة مباحث المقاصد معالجة أصولية.

 زيادة على أنه إذا كانت أحكام الشريعة وأدلتها تنتج لنا وتعطينا قضايا أصولية ونظريات تشريعية وقواعد فقهية، فإن نظرية المقاصد أيضا تنتظم كل هذه القضايا والنظريات والقواعد، وترتبها في نظام معيّن، يجمعها جسما واحدا، يخدم بعضه بعضا([19]).

وعليه: فإننا اليوم بأمس الحاجة إلى إعادة ترتيب علم المقاصد وفق منهج جديد يعيد الاعتبار لحقائقه ومسالكه ومدارسه، اعتبارا لمواقع التنزيل والتوظيف، على أن نُهذب من مصطلحاته ونيسِّر سُبَلَ الوصول إليه، ليستغرق أهل التكليف.

    ومن هنا كانت ضرورة التجديد؛ إذ الأصول بصورتها القديمة إنما كانت مناسبة لمراحل أو فترات سابقة([20]).

أما فيما يتعلق بعمل الشاطبي فيرى الشيخ عبد الله درّاز أن علم أصول الفقه كان ينبغي أن يشتمل على ركنين:

أولهما: قواعد ذات صلة باللغة العربية، وثانيهما: علم أسرار الشريعة ومقاصدها، وأن علم أصول الفقه ركّز على الركن الأول وتوقف عنده منذ القرن الخامس الهجري، وأنه استمر مفتقرا إلى الركن الثاني – الذي هو من صلب الأصول – إلى أن جاء الإمام الشاطبي في القرن الثامن فأكمل ذلك النقص([21]).

ومع هذا فإن الشاطبي كان يتعمد أن يورد الحديث عن المقاصد في أجزاء الموافقات الثلاثة الأخرى للكتاب، وكأنما يريد لفت النظر إلى أن المقاصد تمثل لحمة الكتاب وسداه للربط بين مختلف قضاياه.

فالكتاب بكل أجزائه إنما هو تعبير عن المقاصد بأسلوب مباشر حيناً وغير مباشر حيناً آخر، وهو بذلك أول كتاب تدور كل مباحثه حول مقاصد الشريعة، ومنهج استنباط الأحكام وفقاً لهذه المقاصد.

ويرى الشيخ أبو زهرة أن ما قام به الشاطبي فيما يتعلق بالمقاصد هو تطوير لعلم أصول الفقه، واستكمال لما كان فيه من نقص، وفتح لطريق جديد في التأليف فيه، وهو الطريق الذي ينبغي أن يسير عليه المؤلفون في هذا العلم([22]).

وأبو زهرة بذلك يشير إلى مركزية المقاصد عند الأصوليين المحدثين، وينبه إلى طريق تجديد أصول الفقه التي لا سبيل إليها إلا من خلال منهج أصولي جديد لا يعرف الاجترار أو التقليد، وإنما يُؤَسَّس على دعائم في الفقه الدقيق بمصادر الأحكام والمقاصد العامة للتشريع.

فتجديد علم الأصول يقتضي ألا ينظر إلى المقاصد تلك النظرة([23]) التي تفصلها عن علم المقاصد، والتي لو بحثنا عن أصول الفقه وتراتبيتها لما وجدنا للمقاصد فيها مكانا؛ وإن اتُّخِذَ وسيلة إليها، حيث كان من المفترض أن يتكلم الأصوليون عن مقاصد الشريعة على وجه التوسع.  

وقد اعتبرها الدكتور عبد المجيد النجار من أكبر الثغرات التي عانا منها أصول الفقه، بحيث عادت عليه بكثير من المزالق في الاجتهادات الفقهية قديما وحديثًا([24]).

وقد ركزت جُلُّ الدعوات التجديدية في هذا المضمار، على أمرين أساسيين:

  1. الدعوة إلى جعل مقاصد الشريعة من مباحث أصول الفقه الضرورية، مع مراعاتها سواء عند البحث في النوازل المستجدة، أو عند فهم النصوص الشرعية.
  2. إعادة النظر في "التصور التقليدي" لمقاصد الشريعة، لأنه لم يعد قادرا على مواكبة العصر الذي نعيش فيه، بما يعرفه من مستجدات ومتغيرات، وتعقيدات([25]).

لأن كل الأدلة النصية والعقلية تتوخى المقاصد وتهدف إليها، وما تغيُر الأحكام بتغير الأعراف والزمان والمكان، إلا مظهراً من مظاهر دوران هذه الأدلة في نطاق المقاصد الشرعية.

فالتشريع الإلهي منوط بمقاصد وحِكم تهدف كلها إلى حفظ العالم بتحقيق المصالح وإبطال المفاسد، ومن ثم كان الربط – الذي اعتبره العلماء – بين الاجتهاد وفقه مقاصد الشريعة ضرورة دينية ومنهجية.

حيث إن هذه المقاصد ضرورية لعلم أصول الفقه، لتمكينه من مهمته الاستنباطية، أي أن فائدة المقاصد للأصولي تتجسد في تمكينه من التعرف على علل وحِكم الأحكام الشرعية، هذه العلل والحِكم لا تعدو في نهاية المطاف أن تكون: "مصالح العباد" وهو المقصد الأسمى من أحكام الشريعة.

ومن هنا فلا غرو أن تواترت كل الدعوات إلى تجديد علم أصول الفقه على وجوب الاهتمام بالمقاصد وتنمية دراستها والعمل على وضع قواعد أو ضوابط لها([26]).

ويزيد الإمام الشاطبي الأمر وضوحا لأنه لم يكتف بالتوسع والتعمق في مقاصد الشريعة، وبناء نظرية متكاملة في ذلك؛ [...] بل حرص بنفسه على أن يوصل الأمر إلى غايته، وينتهي به إلى ثمرته.. فلم يبرح حتى أدخل المقاصد في عالم الاجتهاد، وأدخل الاجتهاد في عالم المقاصد، فأحيا صلة الرحم ووثّقها بينهما([27])؛ فهو كما يقول فريد الأنصاري قام بتجديد العلم مقاصديًا...([28]).

والرأي نفسه يذهب إليه الدكتور طه عبد الرحمن، حيث يرى أن الخيار الأفضل، وهو الذي سعى إليه الشاطبي هو "بناء نسق متداخل يحقق وجها من وجوه التكامل بين المقاصد وعلم الأخلاق من جهة وعلم أصول الفقه من جهة أخرى"([29]).

وقد أصبحت مقاصد الشريعة مع الإمام الشاطبي "علما نظريا قائما بذاته"([30]).

ومن هنا – كما يرى فريد الأنصاري- يكون التجديد الأصولي الحاصل لدى الإمام الشاطبي إنما هو رؤية في تجديد الدين، وليست نوعا من الترف الفكري، أو البحث في العلم من أجل العلم ذاته فقط.

وإنما هو عند التأمل عبارة عن تجديد منهج التدين، الذي هو أصول الفقه نفسه، وإنما يُضبط الفقه بمناهج الأصول([31]).

    وعلى أيّة حال فإن الأنسب والأرجح لعلم المقاصد ألاَّ يكون مستقلا عن مباحث أصول الفقه في علم آخر قائم بذاته، ويبقى استقلاله من حيث مناهجه وغاياته ومسالكه، ومصطلحاته، وضوابطه.

ويكفي في تعزيز هذا الموقف ما انتهى إليه شارح وخادم فكرة المقاصد عند الإمام ابن عاشور، الدكتور إسماعيل الحَسَني، الذي حاول إثبات مقومات علمية لمقاصد الشريعة، والتي تقاربت في الكثير من مدلولاتها مع المقومات العلمية في علم أصول الفقه.

    وقد انتهى الحَسَني إلى عدم إمكانية الاستقلالية المطلقة بين العلمين، وإذا قبلت فمع تحفظ أن تكون استقلالية نسبية تقتضيها الضرورة المنهجية، وإلا فإن الاستدلال الفقهي الأصيل هو القائم على مقاصد الشريعة([32]).

ومن خلال ما تقدم نكون قد رمينا نظرية استقلال المقاصد عن أصول الفقه بالفند، وأبنَّا الاندماج بينهما اندماج الروح في الجسد، والمعدود في العدد([33]).

فإن لا يَكُنها أو تَكُنه فإنه     ***    أخٌ أرضعته أمُّها بِلِبانِها.

لأن أصول الفقه ومقاصد الشريعة يبقيان صنوان لا يفترقان.

الخاتمة

وفي الأخير رأينا من خلال بحث هذه الإشكالية المهمة في الدرس المقاصدي، وبحثنا جوانب مشروعية القول بعلم مقاصد الشريعة، وما ينشأ عن ذلك من أسئلة جوهرية حول علاقة الفصل والوصل بين مقاصد الشريعة وأصول الفقه.

حيث لم يعد ثمة شك في استقلالية المقاصد عن أصول الفقه على مستوى الدرس العلمي، مع بقاء رابط التكامل بينهما واقعا ملموسا حسب ما توصل إليه البحث.

إضافة إلى أهمية ومحورية المقاصد في تجديد أصول الفقه؛ لما تميزت به المقاصد من قدرة على استيعاب المستجدات وتحقيق الاستجابة للتحديات المعاصرة؛ وطريقُ ذلك مرهون بتجديد أصول الفقه والعودة به إلى الريادة وأخذ مقاصد الشريعة بعين الاعتبار.

وضرورة ربط علم المقاصد بعلم أصول الفقه، وعدم الفصل بينهما، فالمقاصد تمثل الكليات، وما عداها يمثل الجزئيات، ولا بد من ربط الكلي بالجزئي، إذ مقاصد الشريعة عبارة عن محراب الأدلة الشرعية وقبلتها وغايتها.

المصادر:

  1. أبو زهرة (محمد) : الشافعي، حياته وعصره وآراؤه الفقهية، طبعة دار الفكر العربي، 1978م.
  2. الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، دار الكتاب العربي- بيروت،ج1، ط1، 1404ه.
  3. الأنصاري (فريد): المصطلح الأصولي عند الشاطبي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 2004م.
  4. بن بيّه (عبد الله): علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه، ط1، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، 2006م.
  5. بن بيّه (عبد الله): مشاهد من المقاصد، دار وجوه للنشر والتوزيع – الرياض، ط1، 2010م،
  6. بن عاشور (محمد الطاهر): مقاصد الشريعة الإسلامية، ت: حاتم بوسمة، دار الكتاب المصري واللبناني، 2011م.
  7. الحَسَني (إسماعيل): نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1995م، ص127.
  8. الريسوني: (أحمد): نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1995م.
  9. الشّاطبيّ (أبو إسحاق): الموافقات في أصول الشريعة، تح: الشّيخ عبد الله دراز، ج2. ط1، دار الكتب العلمية-بيروت (2004م).
  10. الصغير (عبد المجيد): الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة، ، ط1/ 1994م، دار المنتخب العربي.
  11. طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث، ط2، المركز الثقافي العربي، (ب . ت).
  1. عطية (جمال الدين): نحو تفعيل مقاصد الشريعة، ط1، 2001، المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
  2. عمر بن صالح بن عمر: مقاصد الشريعة عند العز بن عبد السلام، ط1، 2003م، دار النفائس.
  3. القرافي: (أبو العباس أحمد بن إدريس): أنوار البروق في أنواء الفروق، ج1، ط1، 2001م، تح: مركز الدراسات الفقهية والاقتصادية، دار السلام – القاهرة.
  4. النجار (عبد المجيد): كتاب الأمة (23): في فقه التدين فهما وتنزيلا، ج1، و ج2، 1410 هـ، قطر.

([1]) باحث دكتوراه في المقاصد- المغرب.

([2]) ينظر: مقدمة الموافقات، عبد الله دراز، ص: 4 –5.

([3]) أنوار البروق في أنواء الفروق، القرافي، ج1، ص70.

([4])- نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، الريسوني، ص30.

([5]) – نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، إسماعيل الحسني، ص127.

([6]) - ينظر: عمر بن صالح بن عمر: مقاصد الشريعة عند العز بن عبد السلام، ص: 80- 82.

([7]) - ممن ذكر ذلك الآمدي رحمه الله، في كتابه الإحكام في أصول الأحكام، ج1، ص:8 – 9.

([8]) - مشاهد من المقاصد، عبد الله بن بيّه، ص167.

([9]) - مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر بن عاشور، تحقيق: حاتم بوسمة، ص8.

([10]) - هذه الدعوة عرضها في مطلع كتابه: مقاصد الشريعة الإسلامية، بشكل يبدو عارضا؛ لأنها وردت في مقدمة الكتاب النظرية، ذلك الكتاب الذي قصد منه التنظير للمقاصد في جانبها التطبيقي بالدرجة الأولى حيث قال: "وإني قصدت في هذا الكتاب خصوص البحث عن مقاصد الإسلام من التشريع في قوانين المعاملات والآداب، ينظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، ص:9.

([11]) - الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، عبد المجيد الصغير، ص355.

([12]) - (م . ن)، ص398.

([13]) - (م. ن)، ص355.

([14]) - الفكر الأصولي، (م . س)، ص 443.

([15]) - (م . ن)، ص 431.

([16]) - نرى أن هذا التفريق المنهجي مهم، وقد اختلط الأمر على الدكتور عبد المجيد الصغير، فقال بأسبقية الجويني في الدعوة إلى تأسيس علم مستقل بمقاصد الشريعة.

([17] ) - نحو تفعيل مقاصد الشريعة، جمال عطية، ص 238.

([18] )- نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، (م . س)، ص 388.

([19]) - (م . ن)، ص29.

[20]))- المصطلح الأصولي عند الشاطبي، فريد الأنصاري، ص153.

([21]) - مقدمة الموافقات، عبد الله دراز، ص : 4 - 5.

([22])- الشافعي، حياته وعصره وآراؤه الفقهية، أبو زهرة، ص372 – 373.

([23])- اعتاد الأصوليون القدامى أن يدرجوا المقاصد في أواخر كتبهم، وكان الأولى أن تكون الأصل الأول للأصول، لأن علم الأصول التقليدي لم يعد مناسبًا للوفاء بحاجتنا المعاصرة حقَّ الوفاء.

([24])- في فقه التدين فهما وتنزيلا، عبد المجيد النجار ج2، ص 56.

([25])- أبرز من طرح هذا الطرح الشيخ ابن عاشور، والدكتور طه جابر العلواني، والدكتور جمال الدين عطية.

([26]) - في فقه التدين فهما وتنزيلا، (م . س)، ج1، ص97.

([27]) - نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي (م . س)، ص 353.

([28]) – المصطلح الأصولي عند الإمام الشاطبي، (م . س)، ص140.

([29]) - تجديد المنهج في تقويم التراث، طه عبد الرحمن، ص97.

([30]) - الفكر الأصولي، (م . س)، ص 445.

([31]) - المصطلح الأصولي (م. س)، ص141.

([32]) - نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، (م. س)، ص433.

([33]) - علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه، عبد الله بن بيه، ص 134.

مقالات اخرى

Melbourne Web Design & Development
menu-circlecross-circle linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram