د. عمر مكي*([1]) تقدمة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وبعد: فإنه ما نال بيت من الآلام والجراح الشديدة التي ينفر جرحها في كل حين؛ مثلما ناله بيت المقدس وأهله، ومن هنا كان بيت المقدس الثغر النازف الذي يستحق العناية به والتنويه بشأنه، وهذا شأن كل نفيس وعزيز وذي شرف تليد؛ حيث المصائب والمحن ترتبط به وتسقط الأشلاء من أجله وتسيل الدماء الزاكية على جوانبه وحدوده، ولا يطيب الشرب من منهل عذب ما لم تنفَ عنه الأقذاء والأكدار. لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم ولقد بذل المسلمون القاطنون حوالي بيت المقدس مهجهم وأروا عدوهم من أجل الدفاع عن بيت المقدس وحرماته كل بأس شديد، وكان عزمهم كحد الحديد؛ وذلك لعظمة ذلك البيت المقدس في إرث الأمة الخالد إذ هو المكان الذي باركه الله تعالى في محكم كتابه بقوله: ((سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله)) [الأسراء: 1]. وهو مهبط الرسالات وفيه ظهرت البشارات والآيات وهو بإذن الله تعالى سيكون محطة لنهاية ذوي الخطيئات. وإذا كانت الأوطان تسترخص في سبيلها المهج والنفوس فكيف يكون الأمر إذا زادت عليها قدسية المكان وإحفافه بالبركات والخيرات من رب السماوات فهو بذا أخلق أن يحفظ ويصان وأن تسطر فيه البطولات وأن تصل صرخاته وصيحاته الشيب والكهول وليس لسان ناطق يعرب عن شكاته أكثر من لسان حاله من أذى قتلة الأصفياء والأنبياء غصبوا مغناه وأهانوا منزلته، ودنسوا رحمته وحطوا من نفاسته ورياسته، ولكن أنى لهم ذلك فالمعروف قدره والأريج عطره لا تزحزحه الزعانف ولا الزواحف. أبى الله إلا رفعه وعلوه وليس لما يعليه ذو العرش واضع وما من فضيلة جاء بها الإسلام إلا ورأى العقلاء نفعها وسموها وصلاحها للعباد والبلاد، وحفظ مقدسات الإسلام ومنها بيت المقدس؛ هي من معالم الفضائل والمفاخر، ومن هنا كانت ورقة بحثنا؛ لبيان أثر وحدة كلمة المسلمين وقوة موقفهم في الحفاظ على بيت المقدس ومحاولة تخليصه من غاصبيه، والتأكيد على أن ديار المسلمين ينبغي ألا تأوي ناهبًا ولا غاصبًا قد جمع المثالب والمعايب. ولو تدبر الغافلون هذا الشعور بهذه المسؤولية العظمى فقاموا بحقه حقيقة القيام؛ لأحصوا من الخيرات والثمار الجنيّة الكثير الكثير. ومن الخطأ التسويف والركون إلى الوعود من غير المسلمين في إرجاع الحق السليب إلى أهله وذويه. لا تنتظر أن تنال العتق من أمم تـجـارة الرق مـا زالت تـعـاطـيها وعـود خـلف فـسـل عـرقـوب يـعـرفها وســل وزيــرهــم لا شــك نـاسـيـهـا فـالحـق يـؤخـذ لا يـعـطـى مـجاملة فـخـذه قـسـرا ولا تـرجـوه تمويها وبعد هذه التقدمة يحسن بنا أن نبيّن الحكم الشرعي في حكم دفاع الأمة الإسلامية عن بيت المقدس، واسترداد حقها، وحقوق فلسطين وأهلها جميعًا. حكم الجهاد والدفاع عن بيت المقدس: لا يستريب ولا يشك عاقل ولا منصف بأن إرجاع الحق هو فضيلة راسخة في حياة البشر جميعًا فكيف يكون الأمر إذا كان في دين الإسلام وفقهه، الذي يلزم ويوجب ذلك؛ بل ويمنح الدرجات العلى في الدنيا والآخرة لمن يفعل ذلك ويحقق التكليف الشرعي بشأنه، وقد نصّ العلماء على ذلك، فقالوا: كان الجهاد في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرض كفاية وقد يكون في عهده -صلى الله عليه وسلم- فرض عين إذا أحاط عدو بالمسلمين كالأحزاب من الكفار الذين تحزبوا حول المدينة؛ فإنه يقتضي شرعًا تعيّن جهاد المسلمين للعدو. وأما بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد جعل العلماء لهم حالين: الحالة الأولى: أن يكون الأعداء ببلادهم مستقرين بها، وغير قاصدين لبلاد المسلمين؛ ففي هذه الحالة يكون الجهاد فرض كفاية. وأما الحالة الأخرى من حالتي الكفار فهي: بأن يدخلوا بلدًا من بلاد المسلمين فيلزم عندئذ الدفاع والجهاد بالممكن منهم، ويكون الجهاد حالتئذ فرض عين([2]). والحالة الثانية هي التي تحققت في فلسطين وبيت المقدس؛ ولذا فجهاد الدفع فيها فرض عين على كل قادر؛ لأن الصهاينة قد احتلوا هذا البلد المبارك وسفكوا دماء أهله وهجروهم واستباحوا حرماتهم، ومقاومة العدو الغاصب والصائل من أعظم خصال الخير؛ إذ في الدفاع عن النفوس والأعراض والأموال يتحقق حفظ الضروريات الخمس، وقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، قالوا: يا رسول هذا ننصره مظلومًا فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: تأخذوا فوق يديه)([3]). وقد بيّن ابن تيمية ذلك في مجموع الفتاوى فقال: "وإذا كانت السنة والإجماع متفقين على أن الصائل المسلم إذا لم يندفع صوله إلا بالقتل قُتل... فكيف بقتال هؤلاء الخارجين عن شرائع الإسلام المحاربين لله ورسوله الذين صولهم وبغيهم أقل ما فيهم، فإن قتال المعتدين الصائلين ثابت بالسنة والإجماع وهؤلاء معتدون صائلون على المسلمين في أنفسهم وأموالهم وحرمهم ودينهم وكل من هذه يبيح قتال الصائل عليه"([4]). وقد نصّ العلماء في كتبهم على وجوب الدفاع عن النفس من: الحنفية([5])، والمالكية([6])، والشافعية([7])، والحنابلة([8]). ومن المعلوم أن الكافر المحتل يجب مقاتلته ويُقصد قتله؛ لأنه حربيّ صائل([9])، وهذه الحقوق لأهل فلسطين وبيت المقدس لا يمكن استردادها بمفردهم؛ ولذا تجب على الأمة جمعاء نصرتهم وإعانتهم؛ لأن الصهاينة قد استهانوا بحرمة الأنفس والأعراض والأموال والبلاد، وكثرت جرائمهم، واشتدت عداوتهم، ولا يجوز شرعًا للأمة أن تفرط أو تضيع حقوقها أو أن تضيع مقدساتها. ويقول ابن تيمية: "الكافر الحربيّ الذي يستحل دماء المسلمين وأموالهم ويرى جواز قتالهم أولى بالمحاربة من الفاسق الذي يعتقد تحريم ذلك"([10]). وقال ابن تيمية أيضًا في وجوب إعانة المسلمين الذين لا يستطيعون كف عدوهم عن حرماتهم: "فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجبًا على المقصودين كلهم وعلى غير المقصودين لإعانتهم كما قال الله تعالى: ((وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق)) [الأنفال: 72] وكما أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بنصر المسلم([11])،... وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد... كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق لم يأذن الله في تركه لأحد كما أذن في ترك الجهاد ابتداءًا لطلب العدو الذي قسمهم فيه إلى قاعد وخارج، بل ذم الذين يستأذنون النبي -صلى الله عليه وسلم- ((يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارًا)) [الأحزاب: 13] فهذا دفع عن الدين والحرمة والأنفس وهو قتال اضطرار وذلك قتال اختيار للزيادة في الدين وإعلائه ولإرهاب العدو كغزاة تبوك ونحوها"([12]). وقد نقل ابن حزم -رحمه الله تعالى- الإجماع في دفاع المسلمين عن بلادهم وعده فرضًا واجبًا على البالغين المطيقين فقال: (واتفقوا أن دفاع المشركين وأهل الكفر عن بيضة الإسلام وقراهم وحصونهم وحريمهم إذا نزلوا على المسلمين فرض على الأحرار البالغين المطيقين)([13]). وبنحو ما قاله ابن حزم وزيادة، قال ابن تيمية: "وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعًا فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان"([14]). وقال الإمام الرملي في شرح منهاج الطالبين للنووي: "الثاني من حال الكفار يدخلون، أي دخولهم عمران الإسلام ولو جباله أو خرابه فإن دخلوا بلدة لنا أو صار بينهم وبيننا دون مسافة القصر كان أمرًا عظيمًا فيلزم أهلها الدفع لهم بالممكن أي من أي شيء أطاقوه... وجب الممكن في دفعهم على كل منهم حتى على من لا جهاد عليه من فقير وولد ومدين وعبد وامرأة فيها قوة بلا إذن ممن مرّ ويغتفر ذلك لمثل هذا الخطر العظيم الذي لا سبيل لإهماله... إذ لا يجوز الاستسلام للكافر"([15]). وبنحوه قال ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج([16]). وقال الحافظ ابن عبد البر الفقيه المالكي المُحَدّث مفصلًا حالات عجز أهل بلدة عن الدفاع عن أنفسهم ووطنهم عند اعتداء العدو الظالم: "الفرض في الجهاد ينقسم أيضًا قسمين: أحدهما فرض عام على كل أحد ممن يستطيع المدافعة والقتال وحمل السلاح من البالغين الأحرار وذلك أن يحل العدو بدار الإسلام محاربًا لهم، فإذا كان ذلك؛ وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافًا وثقالًا وشبابًا وشيوخًا، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مُقل أو مكثر، وإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا قلوا أو كثروا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم؛ لزمه أيضًا الخروج إليهم فالمسلمون كلهم يد على من سواهم حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها واحتل بها سقط الفرض عن الآخرين، ولو قارب العدو دار الإسلام، ولم يدخلوها لزمهم أيضًا الخروج إليه"([17]). تنبيه وتذكير: ومما هو جدير بالذكر أن غياب التحريض على نصرة بيت المقدس وأهله هو ملحظ على تقصير الأمة في التوعية ومعرفة حق الله تعالى وحقوق إخوانهم المسلمين، وقد وجد بحمد الله تعالى في هذه الأمة من الذين سطروا أسمى البطولات قديمًا وحديثًا، وكانت روح الفداء والتضحيات مما آلمت أعداء الله تعالى وأثخنت فيهم وأذاقتهم غصص المنايا والمهالك، وجرعتهم كؤوس الردى في ميادين المعارك، ومن هنا يجب تسليط البحث على دور الأمة وأثرها في شحذ الهمم عند تكالب العدو على بيت المقدس وفلسطين، وبيان أن الاسترخاء في المواجهة، وإضعاف واجب الجهاد العيني، وفسح المجال لرفع عقيرة المتخاذلين والمثبطين؛ هي من أهم أسباب الانكسار وعدم الصمود في مواجهة العدو الغاصب. وقد استصحب كثير من العلماء الصادقين والمخلص في العقود المتقدمة الحكم الشرعي السابق بيانه، ووعوا مقاصد التشريع في الدفاع عن حياض الأمة والذب عن مقدساتها، وأدلوا بمواقفهم الشجاعة بلا مواربة وبعبارات صريحة مباشرة، وهي مواقف أحوج ما نكون إليها اليوم في عصرنا الراهن الذي نلحظ فيه للأسف تنكبًا عن طريق الأمر بمعروف الجهاد والمدافعة، والنهي عن منكر الجبن والتخاذل وتضييع الأوطان وخذلان العباد. وبحسبنا هنا أن نستشهد بأحد هذه المواقف الأصيلة، وهي الفتوى المشهورة لرابطة علماء العراق وشيخها المجاهد العلامة (أمجد الزهاوي) سنة (1967م) الصادرة بعنوان: (نداء من جمعية رابطة العلماء في العراق إلى الشعب العراقي الكريم خاصة والعالم الاسلامي عامة) ، وقالوا فيها: "... فنظرًا إلى اشتداد الأزمة الأخيرة بين اليهود الصهاينة المعتدين وبين الأمة الاسلامية بسبب الاعتداءات من هذه العصابة المجرمة بقتل الأنفس البريئة وهتك الحرمات ونهب الأموال؛ ولخطورة الموقف الذي أصبح يهدد البلاد العربية والإسلامية جمعاء؛ فإننا نؤكد للامة أن الجهاد الآن قد أصبح فرض عين على كل مسلم يطيق حمل السلاح عملًا بقوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) ]البقرة: 193[، وقوله تعالى: (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا)] النساء: 74 .[وقد وعد سبحانه المؤمنين الصادقين بالنصر والظفر فقال تعالى: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن یکن منکم مائة يغلبوا ألفًا من الذین کفروا بأنهم قوم لا يفقهون)] الأنفال: 65 …["([18]). * مسؤول القسم العلمي في هيئة علماء المسلمين في العراق. ([1]) ([2]) ينظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للإمام الشربيني: 6/8. ([3]) صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب أعن أخاك ظالمًا أو مظلومًا، رقم الحديث (2444)، وقوله: (تأخذوا فوق يديه) كنى به عن كفه عن الظلم بالفعل إن لم يكف بالقول، وعبّر -صلى الله عليه وسلم- بالفوقية إشارة إلى الأخذ بالاستعلاء والقوة، وقوله بنصر الظالم مجاز؛ لأن منع الظلم من الظالم هو نصرٌ له وهو من باب تسمية الشيء بما يؤول إليه، وهو من وجيز البلاغة النبوية وسداد معانيها وجوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم-. وينظر: فتح الباري لابن حجر العسقلاني: 5/98، ط السلفية. ([4]) مجموع الفتاوى: 28/540-541. ([5]) ينظر: تبين الحقائق للزيلعي: 6/110. ([6]) ينظر: حاشية الدسوقي: 4/357. ([7]) ينظر: روضة الطالبين للنووي: 10/188. ([8]) ينظر: الإنصاف للمرداوي: 10/304. ([9]) ينظر: حاشية الدسوقي: 4/357. ([13]) مراتب الإجماع لابن حزم، تحقيق حسن أحمد أسبر: 201. ([14]) الفتاوى الكبرى لابن تيمية: 5/538. ([15]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، لشمس الدين الرملي: 8/59. ([16]) ينظر: تحفة المحتاج بشرح المنهاج: 4/231. ([17]) الكافي في فقه أهل المدينة، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر: 205. ([18]) مجلة التربية الإسلامية، بغداد، العدد الثامن، السنة التاسعة، ربيع الأول 1387ه-حزيران 1967م.